الرّاعي: إنّنا نصلّي كي يُظلّلنا نور القدّيس شربل، فينجلي أمامنا وجه المسيح
"فخامة الرّئيس
جميلٌ عيدُ القدّيس شربل بحضوركم على رأس المصلّين المتوافدين من مختلف المناطق اللّبنانيّة، بل ومن خارج لبنان، منذ طيلة اللّيل وهذا النّهار. وهم ينضمّون إلى جمهور هذا الدّير الذي يعطّره أريج جثمان القدّيس شربل، وإلى أبناء الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الجليلة، يتقدّمهم الرّئيس العام الأباتي نعمة الله الهاشم ومجلس المدبّرين العامّين.
كلُّنا نصلّي معكم، فخامة الرّئيس، ومع الشّخصيّات السّياسيّة والمدنيّة والقضائيّة والعسكريّة التي تُحيط بكم، إلى القدّيس شربل، "قدّيس لبنان" بامتياز، كي يشفع من أجلنا لدى الله، ومن أجل وطننا بشعبه ومؤسّساته، ومن أجلكم لكي تقودوا سفينته بحكمةٍ وحزمٍ، وتعملون بالتّعاون مع معاونيكم في مؤسّساته الدّستوريّة، على إخراجه من أزماته السّياسيّة والاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة، فينعم بالإستقرار الذي هو أحوج ما يحتاجه اللّبنانيّون.
نورُ شمسه يغطّي كلَّ الكرة الأرضيّة، إذ بات معروفًا لدى جميع الشّعوب. يتوسّلون إليه وينالون مبتغاهم، دونما تمييزٍ دينيٍّ أو عرقيٍّ أو ثقافيّ. فعجيبٌ الله في قدّيسيه!
هو كذلك لأنّه حافظ على طبيعته كحبّة حنطة زرعها المسيح الرّبّ في حقل بقاعكفرا، والرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة، وكنيستنا. فارتوى من الرّوحانيّة المسيحيّة والرّهبانيّة والكهنوتيّة، وسما بها حتّى عاش جميع فضائلها ببطولة. أمّا إلى أيّة درجةٍ بلغ اتّحاده بالله، فلا يعلمها إلّا الله وحده. لكنّ اتّحاده العجيب بالله ظاهرٌ من خلال شهرته العابرة للقارّات وآياته وعجائبه التي لا تُحصى ولا تُعدّ.
إنّه وجه لبنان في العالم، وهو ذروة مسيرة شعبٍ مسيحيٍّ لبنانيٍّ صلّى وصام وعُذِّب واستشهد في سبيل إيمانه والقيم، وأعطى قدّيسين وطوباويّين يتلألأون بين الأبرار في ملكوت الآب. نحن مؤتمنون على هذا الإرث النّفيس الذي يُعيد الجمال للبنان. فالجمالُ وحده يخلّصه.
في بيئةٍ سليمةٍ من بقاعكفرا زرعه الله، وقد شهد كاهن الرّعيّة آنذاك أنّ "والده ووالدته وإخوته وأخواته معروفون بالتّقوى والإماتة وحسن السّلوك" (شهادة الخوري بولس مخلوف سنة 1925 وكان بعمر 50 سنة). بنى حياته المسيحيّة على هذا الأساس المتين حتّى بلغته الدّعوة إلى الحياة الرّهبانيّة، فترك بقاعكفرا بعمر عشرين سنةً، ولم يعد إليها أبدًا. أجل، العائلة هي الكنيسة المنزليّة التي تنقل الإيمان وتُعلّم الصّلاة. إذا فقدت العائلة المسيحيّة طبيعتها هذه، فقدَ مجتمعنا مستقبل قيَمِه الرّوحيّة والأخلاقيّة.
دخل دير مار مارون عنّايا للابتداء معتبرًا أنّه يطأ أرضًا مقدّسةً يزرعه الله فيها ليكون حبّة حنطة مثقلةً بالثّمار. فحماها من زؤان الشّرّ والخطيئة. في أرض الرّهبانيّة شاهد آباءً تشعُّ القداسةُ من وجوههم، فتهيّب. ومذ ذاك الحين اعتبر أنّه مات عن العالم وعن ذاته، ليتّحد اتّحادًا كاملاً بالمسيح مُكرّسًا له جسده وروحه، عقله وإرادته وحريّته، ساعيًا إلى كمال الفضائل الإنجيليّة: الفقر والطّاعة والعفّة. وراح يتسلّق أدراجها وسائر الفضائل الإلهيّة والإنسانيّة في سنوات الابتداء الثّلاث هنا في دير مار مارون عنّايا، ثمّ في دير مار قبريانوس ويوستنينا في كفيفان حيث درس الفلسفة واللّاهوت على يد معلّمٍ قدّيسٍ هو الأب نعمة الله كسّاب الحرديني، لمدّة ستّ سنوات. فكان يُحلّق بجناحَي العلم والفضيلة.
وبعد رسامته الكهنوتيّة في بكركي سنة 1859، شعر بأنّه بدأ حياة تماهٍ مع المسيح الكاهن والذّبيحة. فعاد للتوّ إلى دير مار مارون عنّايا حيث عيّنتهُ السّلطة الرّهبانيّة، وعلى مدى خمس عشرة سنة، راح ينمو بالفضائل الرّهبانيّة والرّوحانيّة الكهنوتيّة، وسط الجماعة الدّيريّة، مع انخطاف روحيٍّ عميقٍ في آن. فكان جسده على الأرض مُلتزمًا بحياة الطّاعة للرّؤساء، والفقر من كلّ شؤون الدّنيا، والعفّة الملائكيّة. أمّا قلبه ففوق، عند الله.
وعظُمت فرحة التّماهي مع المسيح، عندما أذنت له السّلطة الرّهبانيّة بدخول محبسة القدّيسَين بطرس وبولس على قمّة عنّايا، سنة 1875 وهو بعمر سبعٍ وأربعين سنة حتّى وفاته ليلة عيد الميلاد من سنة 1898. في المحبسة سكب كلّ حبّه للمسيح، مُضاعفًا أعماله التّقشّفيّة، والتّأمّل والصّلآة والاستغراق بالله، إلى جانب العمل في الحقل بحسب قانون الحُبساء. وكانت ذبيحة القدّاس محور حياته اليوميّة، يحتفل بها عند الظّهر، بحيث يسبقها استعدادٌ في الصّلاة والتّقشّف والعمل، وتليها صلوات شكرٍ وسجود ومناجاة لساعات طوال. لا أحد يعلم مضمون هذه المناجاة، وقيمة تقشّفاته وفضائله، إلّا الله وحده الذي جعله قدّيسًا عالميًّا يتفوّق على كلّ القدّيسين.
وشاء المسيح الكاهن الأزليّ أن يُبيّن تماهي الأب شربل الكاهن معه، ففيما كان يُقيم قدّاسه الأخير، وبلغ إلى رفع كأس الدّم وجسد الرّبّ مُصلّيًا: "يا أبا الحقّ هوذا إبنك ذبيحةٌ ترضيك" أصابه للحال فالجٌ أسقطه أرضًا، فأنهضه رفيقه، وظلّ على هذه الحالة حتّى طارت روحه إلى السّماء ليلة ذكرى ميلاد الإله على أرضنا في 24 كانون الأوّل 1898. وكأنّي بالرّبّ يسوع يشاء أن يكشُف للعالم هذا التّماهي. فكان الأب شربل الذّبيحة المرضيّة للآب مع ذبيحة الإبن الإله. وللدّلالة على أنّ وفاته ليلة الميلاد هي ميلاده السّاطع في السّماء، كان يُشاهد أهلُ المنطقة النّور ينبثق من قبره طيلة خمسةٍ وأربعين يومًا.
إننّا نصلّي كي يُظلّلنا نور القدّيس شربل، فينجلي أمامنا وجه المسيح الفادي الذي أرادنا شهودًا له ولإنجيله الخلاصيّ في لبنان، وهذا المشرق. ونرفع نشيد المجد والتّسبيح للثّالوث القدّوس الواحد، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."