لبنان
07 نيسان 2019, 11:00

الرّاعي: إنّ المسؤولين السّياسيّين المصابين بالعمى الدّاخليّ يتسبّبون بمأساة الشّعب

ترأّس البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، قدّاس الأحد الأخير من زمن الصّوم السّابق لأحد الشّعانين وأسبوع الآلام المقدّس، والذي تحتفل فيه الكنيسة بتذكار شفاء الأعمى، في بكركي. وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى البطريرك الرّاعي عظةً تحت عنوان "يا معلّم أن أُبصر" (مر 51:10)، جاء فيها :

"لمّا سمع طيما الأعمى، الجالس على قارعة الطّريق يستعطي، أنّ يسوع يمرّ من هناك، راح يناديه لا باسمه الاجتماعيّ، "يسوع النّاصري"، بل بإسمه الإيمانيّ، مردّدًا بأعلى صوته: "يا يسوع ابن داود، إرحمني"(مر 47:10). هذه الصّرخة الإيمانيّة لم تعنِ للجمع المرافق ليسوع سوى الإزعاج، أمّا بالنّسبة إلى يسوع فقد سقطت في قلبه، إذ أدرك أنّ هذا الأعمى العينين كان المبصر الحقيقيّ بنور الإيمان. فيسوع النّاصري بالنّسبة إليه هو "المسيح ابن داود" المنتظَر، الحامل رحمة الله للبشر. فلمّا سأله يسوع: "ماذا تريد أن أصنع لك؟" وكان الجمع يتوقّع أنّه سيطلب منه صدقة، أجاب: "يا معلّم، أن أبصر". فقال له يسوع: "أبصِرْ! إيمانك خلّصك" (مر10: 51-52).

وقد شاء الرّبّ يسوع بهذه الآية إعطاءنا العلامة الحسّيّة بأنّه "نور العالم"، كما قال عن نفسه يومًا (يو12:8). وأضاف: "من يتبعني لا يمشي في الظّلام، بل يكون له نور الحياة" (المرجع نفسه). آمن الأعمى بيسوع النّور، فالتمس منه النّور لعينيه المنطفئتين منذا الولادة. فكان له بحسب إيمانه.

 

لقد أظهر الرّبّ يسوع في هذه الآية الإنجيليّة أنّ طيما، أعمى العينين، كان المُبصر الحقيقيّ في داخل نفسه، إذ كان يشاهد بنور الإيمان جمال رحمة الله المتجلّية في المسيح ابن داود. ففتح يسوع عينيه ليرى جمال خلق الله. وأظهر أيضًا أنّ ذاك الجمع المرافق كان الأعمى الحقيقيّ في داخل نفسه. وهذا هو العمى القاتل! العمى الدّاخليّ، وهو مأساة الذين يفقدون الإيمان ومعنى وجودهم والحياة، ويبتعدون عن الله وعن نور كلامه فيتخبّطون في ظلمات خطاياهم تجاه الله والنّاس، وأميالهم ومصالحهم وانحرافاتهم.

وهو مأساة الذين يبتعدون عن الكنيسة وتعليمها الذي استودعها إيّاه الرّبّ يسوع بقوله: "من سمع منكم، سمع منّي! ومن رفضكم رفضني! ومن رفضني، رفض الذي أرسلني!" (لو16:10) وهو مأساة الأزواج الذين، بفقدان بصيرتهم الدّاخليّة، يفقدون معنى سرّ الزّواج المقدّس، وعهد الحبّ الزوجيّ، والأمانة والاحترام المتبادل، ومسؤوليّة نقل الحياة البشريّة وتربيتها كمعاونين لله الخالق، فينكثون بالوعد – العهد المقطوع أمام الله والكنيسة والمجتمع، سعيًا وراء أهوائم.

إنّ المسؤولين السّياسيّين المصابين بالعمى الدّاخليّ يتسبّبون بمأساة الشّعب، عندما يتعامون داخليًا وخارجيًا عن حاجات هذا الشّعب المتفاقمة، ولا يرون سوى مصالحهم وحساباتهم، من دون أن تعنيهم الأزمات الاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة، أو من دون بذل الجهود اللّازمة لمعالجتها. سنة كاملة مرّت بالأمس على مؤتمر باريس المعروف بـCEDRE  أيّ "المؤتمر الاقتصاديّ من أجل الانماء والاصلاحات والمشاريع"، الذي أقرّت فيه الجماعة الدّوليّة تأمين أكثر من 11 مليار دولار أميركيّ، بين قروض وهبات، لمساعدة لبنان على تمويل مشاريع تهدف إلى إصلاحات عصريّة في موازناته وهيكليّاته وقطاعاته، وفي طليعتها موازنة 2019، التي لم تر النّور بعد، والكهرباء التي نرجو إقرار خطّتها أخيرًا في جلسة الغد لمجلس الوزراء. هذا الإهمال والتّقاعس والتّأخير إنّما ينال من سمعة لبنان ومصداقيّته وشفافيّته تجاه الأسرة الدّوليّة. وتبقى في أساس هذه الإصلاحات مكافحة الفساد المستشري شرط أن يبدأ من القمّة نحو القاعدة، وإيقاف هدر المال العام من كلّ أبوابه.

 

أجل، هذه هي أبعاد آية شفاء طيما الأعمى، المرتكزة على بصيرته الدّاخليّة الإيمانيّة. لقد أدرك هذا الأعمى أنّ يسوع، الذي هو نور العالم، قادر أن يعطي النّور لعينيه المنطفئتين. وتؤكّد هذه الآية أنّ يسوع نورنا.

هو نورنا بشخصه الذي يكشف لنا سرّ الإنسان بإنسانيّته، وسرّ الله بألوهيّته.

هو نورنا بكلامه الذي ينير العقل والإرادة والقلب والضمير، ويجعلنا خلقًا جديدًا.

هو نورنا بأفعاله وآياته التي تعلّمنا حقائق سامية.

إنّ نور المسيح ضرورويّ لحياتنا كضرورة نور الشّمس للعين والنّظر. يقول الطّوباوي أبونا يعقوب حدّاد الكبّوشيّ: "الإيمان هبة من الله، يشبه نجم المجوس، ويقودنا مثلهم إلى يسوع. فلو حاد المجوس عن الطّريق السّائر فيه النّجم الدّليل، لضاعوا وما وصلوا إلى الطّفل يسوع".

 

وينيرنا المسيح بنور مواهب روحه القدّوس السّبع:

بمواهب الحكمة والفهم والعلم، ينير إيماننا وعقلنا.

وبموهبتَي المشورة والشّجاعة، ينير رجاءنا وإرادتنا.

وبموهبتَي التّقوى ومخافة الله، ينير محبّتنا وقلوبنا.

 

إنّنا نلتمس هذا النور، ونحن نصلّي: "أيُّها النّور السّماويّ، إملأ باطن قلوب مؤمنيك"، لكي نشفى من عمى القلب والبصيرة، ومن عمى الخطيئة والشّرّ، ومن عمى المصالح والمكاسب الصّغيرة على حساب الخير العامّ، ومن عمى الإهمال للواجب ولنداء المسؤوليّة. فإذا تحرّرنا من هذا العمى القاتل، وهدانا نور إيماننا إلى الله والإنسان، نستطيع أن نسبّح ونعظّم من صميم القلب الثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."