لبنان
06 كانون الثاني 2019, 10:00

الرّاعي: أكثر ما تحتاج إليه مجتمعاتنا هو صانعو سلام كرسل وشهود أصيلين للّه الآب

إحتفالاً بعيد الدّنح أو الغطاس، ويوم السّلام العالميّ، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، قدّاس الأحد في مقرّ البطريركيّة في بكركي؛ بمشاركة رئيس اللّجنة الأسقفيّة "عدالة وسلام"، المطران شكراللّه نبيل الحاج، وسائر أعضاء اللّجنة، وكتب راعويّة المرأة في الدّائرة البطريركيّة، منسّقةً وأعضاءً، ولجنة أصدقاء المدرسة الرّسميّة في المتن، وحشد المؤمنين.وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى البطريرك الرّاعي عظةً بعنوان "لمّا اعتمدَ يسوع، وكان يصلّي، انفتحت السّماء" (لو ٣/ ٢١)، وقد جاء فيها:

"نحتفل اليوم بعيدَين: عيد الغطاس وهو معموديّة يسوع بالماء على يد يوحنّا المعمدان. وفيها تمّ اعتلان ألوهيّة يسوع وظهور سرّ الثّالوث القدّوس. لذا، يُعرف العيد، بحسب اللّفظة السّريانيّة،  "بالدنح" أيّ "الظهور". فلما اعتمد يسوع، وكان يصلّي انفتحت السّماء، ونزل عليه الرّوح القدس في صورة جسديّة بشكل حمامة، وجاء صوت من السّماء يقول: "أنت هو ابني الحبيب، بك رضيت" (٣/ ٢١-٢٢). في هذا العيد تقام رتبة تبريك الماء الذي يؤخذ بركة إلى البيوت، لأنّ الرّبّ يسوع، بمعموديّته في نهر الأردن، وبحلول الرّوح القدس عليه من فيض محبّة الآب، قدّس المياه وجعلها "الحشى" الذي يولد منه أبناء اللّه وبناته بقوّة الرّوح القدس.

 

فيما نتذكّر اليوم معموديّتنا التي بها وُلدنا من الماء والرّوح، نلتمس من اللّه نعمة الالتزام بأمانة في عيش بنوّتنا المشتركة للّه، والأخوّة بين بعضنا البعض.

 

العيد الثّاني هو الاحتفال بيوم السّلام العالميّ على المستوى الوطنيّ في لبنان، بينما العيد الأساسيّ هو في أوّل كانون الثّاني، كما حدّده القدّيس البابا بولس السّادس.

 

إنّنا نخصّص هذه العظة لنقل تعليم قداسة البابا فرنسيس في رسالته ليوم السّلام العالميّ، بعنوان "السّياسة الصّالحة هي في خدمة السّلام"؛ يحدّد فيها مفهوم السّياسة الصّالحة بمبادئها الإنسانيّة والصّفات التي ينبغي أن يتحلّى بها رجل السّياسة؛ ويتكلّم عن العيوب التي تُفقدها صلاحها، وينهي بمشروع السّلام الكبير.

 

السّياسة الصّالحة بمفهومها هي التي تقدّم السّلام إلى كلّ شخص وعائلة وجماعة ووطن، وإلى أرضنا التي يسمّيها البابا فرنسيس "بيتنا المشترك"، والتي أسكننا اللّه عليها ويدعونا لنعتني بها.

 

هذا السّلام قدّمه المسيح للعالم، ويشكّل لبّ رسالة تلاميذه، فلما أرسلهم قال:"حيثما كنتم، قولوا السّلام لهذا البيت" (لو ١٠:٥). من هذا المنطلق حدّد الرّبّ يسوع السّياسة بأنّها "خدمة متفانية"(لو ٩: ٣٥)، لتأمين خير الشّخص والجماعة، بحيث تحميهم وتوفّر لهم الأوضاع الكفيلة بمستقبلهم اللّائق والعادل، سواء كانوا في البيت، أم العائلة أم المجتمع، أم الكنيسة أم الدولة. إن لم تكن السّياسة كذلك تصبح أداة ظلم وإقصاء بل وهدم (الفقرات، 1 – 2).

 

عندما تُمارَس السّياسة الصّالحة يتّصف العمل السّياسيّ بالعدالة والإنصاف والاحترام المتبادل والإخلاص والصّدق والأمانة. ويتحلّى رجل السّياسة بالصّفات الحميدة التي تجمّل عمله ونشاطه ومسؤوليّته، من مثل: الضّمير المدرك للمسؤوليّة؛ العمل الدّؤوب من أجل الخير العام، لا من أجل المصلحة الخاصّة؛ السّعي بجدّية إلى تحقيق تغيير جذريّ في الممارسة والإدارة من أجل الخير العام الأفضل؛ الشّجاعة في الدّفاع عن الحقيقة والعدل؛ حسن سماع حاجات المواطنين والعمل على تلبيتها؛ أخيرًا لا آخرًا احترام حقوق المواطنين الأساسيّة وتعزيزها، مع ما يقابلها من واجبات (الفقرة 3).

 

إذا ألقينا نظرة إلى واقعنا اللّبنانيّ، وإلى كيفيّة ممارسة السّياسة عندنا، في ما آلت اليه اليوم، لرأيناها بعيدةً كلّ البُعد عن مفهوم السّياسة الصّالحة. فكيف يمكن قبولها عندما تكون وسيلة للاغتناء غير الشّرعيّ ولتأمين المصالح الخاصّة والفئويّة والمذهبيّة والحزبيّة، على حساب الصّالح العام؟

كيف يمكن القبول بتعطيل تأليف الحكومة بعد ثمانية أشهر من أجل مصالح النّافذين ومَن معهم ومَن وراءهم، غير آبهين بالخراب الاقتصاديّ والخطر الماليّ المتفاقم، وبالشّعب المتضوّر جوعًا، والعائلات التي تتفكّك، وبالبطالة المحطّمة للقدرات الشّبابيّة؟ كيف يغمضون عيونهم ويصمّون آذانهم عن أنين هذا الشّعب ومطالباته في مظاهرات وإضرابات، نحن نؤيّدها تمامًا لأنّها محقّة وعادلة؟ لقد سئم الشّعب والرّأي العام كلّ ذلك! وعندما نسمعهم كلّ يوم يتكلّمون عن حصصٍ من أجل تأليف حكومة، لسنا ندري متى تأتي، تشعر كأنّك أمام مشهد جثّة وطنٍ يتناتشها المنقضّون عليها، ويسمّون ذلك "وحدة وطنيّة".

 

إنّنا لا نرى مخرجًا من نَفَق الحصص بين السّياسيّين إلّا بحكومة مصغّرة حياديّة من ذوي اختصاص معروفين بصيتهم العاطر وتجرّدهم وحسّهم الوطنيّ ومفهومهم السّليم للعمل السّياسيّ. تعمل على تنفيذ الإصلاحات الضّروريّة والمطلوبة دوليًّا، وتوظّف الأموال الموعودة في مؤتمر "سيدر"، وتخلّص البلاد من الخطر المتفاقمة. ولتجلس الكتل السّياسيّة حول طاولة الحوار أو الكتل النّيابيّة في المجلس النّيابيّ للتّفاهم على جميع المواضيع الخلافيّة، بدءًا بما سُمّي "بمعايير" أو "أعراف"، وذلك على ضوء الدّستور والميثاق الوطنيّ ووثيقة الوفاق الوطنيّ. فقبل أن تغرق السّفينة بنا كلّنا، ينبغي أن يقتنع الجميع بوجوب تسيير شؤون الدّولة أوّلًا، والتّخلّي عن المصالح الخاصّة، السّياسيّة والمذهبيّة والحزبيّة. فلا يحقّ لأحد أو لفئة أخذ البلاد، بشعبها وكيانها ومؤسّساتها، رهينة لمصالح تعطّل خير الأمّة. بعد التّفاهم على النّقاط الخلافيّة، يُصار إلى تأليف حكومة عاديّة وفقًا للدّستور والميثاق الوطنيّ.

 

إنّ العيوب التي تُفقد السّياسة صلاحها ومصداقيّتها وهيبتها في قراراتها وأعمالها، إنّما هي عيوب في السّياسيّين، من مثل: الفساد، بمختلف أشكاله، والاغتناء غير المشروع، والسّعي إلى المصالح الشّخصيّة فقط، والاحتفاظ بالسّلطة بكلّ السّبل، والتّمييز العنصريّ، والخوف من الآخر المختلف، واللّاثقة، والانغلاق على الذّات وعلى الحزب والمذهب. هذه كلّها تقضي على الأخوّة التي يحتاجها عالمنا ونحن في زمن العولمة. ما يعني أنّ أكثر ما تحتاج إليه مجتمعاتنا هو "صانعو سلام" كرسل وشهود أصيلين للّه الآب الذي يريد الخير والسّعادة لكلّ العائلة البشريّة.

 

بنتيجة هذه العيوب، يكون مستقبل الشّبيبة مظلمًا ومقلقًا، وتولد فيهم اللّاثقة بالمسؤولين السّياسيّين وبالوطن، حيث محكومٌ عليهم أن يعيشوا على هامش الحياة العامّة، ومن دون إمكانيّة المشاركة في مشروع بناء المستقبل، بما لهم من مواهب وقدرات. في هذه الحالة، لن يعيش الشّباب في سلام ولن يتذوّقوا طعمه، لأنّهم لا يجدون قلبًا يحبّ، وعقلاً يفكّر ويخطّط، ويدًا تمتدّ لتعضد وتُنهض. فهذه الثّلاثة تولّد السّلام.

 

ومن أخطار العيوب المشوِّهة للسّياسة، استراتيجيّة الحرب والتّخويف، التي يعزّزها انتشار الأسلحة المنافية للأخلاقيّة،  والمولّدة للرّعب في أشخاص سريعي العطب. وتجدر الإشارة إلى أنّ طفلاً من أصل ستّة هو ضحيّة عنف الحرب ونتائجها (الفقرات 4-6).

 

السّلام هو ثمرة مشروع سياسيّ كبير يتأسّس على المسؤوليّة المشتركة وعلى التّرابط بين البشر.. وهو رهان يتطلّب قبولاً يوماً بعد يوم. السّلام هو ارتداد القلب والرّوح، وله ثلاثة أبعاد:

 

 السّلام مع الذّات أيّ العذوبة ورفض التّشدّد والغضب ونفاذ الصّبر.

 

 السّلام مع الآخر أكان إبن البيت أم غريبًا أم فقيرًا أم متألِّمًا، فيجب لقاؤه وسماع ما يحمل من رسالة في داخله.

 

السّلام مع الخلق باكتشاف عظمة عطيّة اللّه، ووعي مسؤوليّة كلّ واحد منّا كساكن في العالم ومواطن وصانع سلام (الفقرة 7). فلا يحقّ استغلال موارد الطّبيعة بشكل عشوائيّ بهدف الرّبح السّريع.

 

سياسة السّلام تستوحي نشيد العذراء مريم، أُمّ المسيح المخلّص، وملكة السّلام، التي ترفعه باسم البشريّة جمعاء: "تعظّم نفسي الرّبّ. فرحمتُه من جيلٍ إلى جيلٍ للذين يتّقونه. أظهر شدّة ساعده: فبدّد المتكبّرين بأفكار قلوبهم. حطّ المقتدرين عن عروشهم، ورفع المتواضعين. أشبع الجياع من خيراته، وصرف الأغنياء فارغين؛ عضد شعبه، وتذكّر رحمته" (لو ١: ٤٦، ٥٠-٥٤).

بهذا النّشيد، نرفع صلاة الشّكر والتّسبيح لإله السّلام، الثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."