الرّاعي: هذا هو الآن الوقت المصيريّ المناسب ليعود فيه المسؤولون السّياسيّون عندنا إلى لله
"1. يلتقي يوسف مع خطّيبته مريم فيالطَّاعة لإرادة الله. فعندما بشَّر الملاك جرائيل مريم بالأمومة لابن الله بقوَّة الرُّوح القدس،أطاعت وأجابت:"أنا أمة الرَّبّ. فليكن لي بحسب قولك" (لو38:1). كذلك يوسف، لمَّا أوحى له الملاك في الحلم سرَّ حبل مريم ودورَه ومسؤوليَّتَه،أطاع "وفعلكما أمره ملاك الرَّبّ" (متّى 24:1).
2. يُسعِدُنا أن نحتفل معًا بهذهاللّيتورجيَّا الإلهيَّةالّتي نُحيي فيها ليتورجياالبيان ليوسفوهو بمثابة البشارة له على مثال البشارة لمريم والبشارة لزكريَّا. وكلُّها تكشف تصميم الله الخلاصيّ وتعاونه مع الثَّلاثة لتحقيقه وَفقًا لِدَورِ كلّ واحدٍ وواحدةٍ منهم ودعوته. فيتَّضح لنا أنَّ الله يتعاون مع الإنسان من أجل تحقيق تصميمه الإلهيّ عبر مسار التَّاريخ البشريّ. فلا بدّ من أن يلتمس كلُّ واحدٍ من الله فهمَ دوره واكتشافَ دعوته في الحالة الّتي هو فيها، والمسؤوليَّة الموكولة إليه في الكنيسة والمجتمع والدَّولة. هذا الأمر يستوجب الإصغاء إلى الله بالصَّلاة وقراءة الكتب المقدَّسة واستلهام الرُّوح القدس. فتأتي الأعمال والمشاريع كلُّها تصبُّ في الخير العامّ الّذي منه خير جميع المواطنين وخير كلّ مواطن.
3. عندما يتدخَّل الله في حياتنا يُبدِّل نظرتنا ومشاريعنا ومواقفنا إلى ما هو الأفضل بالنِّسبة إلينا وإلى الجماعة.يوسف ومريمكانا مخطوبَين، وقبل انتقال مريم إلى بيت يوسف كزوجته وفقًا للشَّريعة، تدخَّلَ الله وجعلَ زواجهما الشَّرعيَّ بتوليًّا بحيث تحبل مريم بقوَّة الرُّوح القدس بإبن الله الّذي سيكون مخلِّصَ العالم وفادي الإنسان. ولمَّا لم يفهميوسفسرَّ حَبَل مريم، ولم يجد مكانَه فيه، وقرَّرَ تطليق مريم سرًّا، تدخَّلَ الله وكشَفَ له مقاصدَه في مريم، ودورَه كأبٍ شرعيٍّ ليسوع يتولَّى حراسته وإعالته مع أمِّه. بطاعة مريم ويوسف تمَّ أعظمُ مشروعٍ خلاصيٍّ للعالم كلِّه، لا يُقاس بمشروع زواجهما البشريّ المقرَّر.
4. فلو وقف كلُّ مسؤولٍ سياسيٍّعندنا أمام الله والتمسَ نورَه لِفَهمِ دوره في تصميمه الخلاصيّ، لكان تصرَّفّ ويتصرَّف خلافًا للنَّمط الّذي يسير عليه. لو استلهم السِّياسيُّون إرادة الله بالصَّلاة والتمسوا أنواره الهادية، لما وصل لبنان إلى هذه الحالة البائسة باقتصاده وماليَّته وشللِ مؤسَّساته، ولما تمَّ تجويع الشَّعب وتحقيرُه ورميُ أكثر من ثلثه تحت مستوى الفقر، وحوالي نصفه في حالة البطالة، ولما أقفلَتْ مؤسَّسات وسُرِّح موظَّفون وتفاقمت الأزمة الإجتماعيَّة.
ولو أصغى السِّياسيُّون إلى صوت الله في ضمائرهم، لما استباحوا مال الدَّولة وتقاسموه حصصًا عبر الحصص الوزاريَّة وفقًا لتكتُّلاتهم النِّيابيَّة؛ ولما أصمُّوا آذانهم عن مطالب الشَّعب في المظاهرات والاضرابات المتتالية؛ ولما كانت الانتفاضة والحراك المدنيّ والثَّورة الإيجابيَّة الّتي جمعت الشَّعب اللُّبنانيّ في وحدةٍ متماسكة ومتحرِّرةٍ من وطأة الانتماءات الطَّائفيَّة والمذهبيَّة والحزبيَّة، والتي شكَّلت قوَّة لا يقوى عليها أحد، ولا يحقُّ للمسؤولين السِّياسيّين إهمالَها أو تجاوُزَها أو الاستهزاءَ بقدرتها؛ وفي المقابل لا يحقُّ للمسؤولين السِّياسيِّين البقاء في نقطة الصّفر بالنِّسبة إلى تشكيل الحكومة والنُّهوض بالبلاد من عجزها الماليّ وشللها الاقتصاديّ وشبه إفلاسها، بعد ستِّين يومًا من ثورة الانتفاضة، وبعد دعوة قمَّة دول الخليج في الرّياض (الثّلاثاء 16 ك1) واجتماع مجموعة الدّعم الدَّوليَّة في باريس (الأربعاء 17 ك1).
5. فيا أيُّها المسؤولون السِّياسيُّون، تذكَّروا أنّ نبل العمل السِّياسيّ مستمَدٌّ لا من مقامكم، بل من الشَّعب، عندما توفِّرون له الخير والعدل والإنصاف، لأنَّ هذه هي إرادةُ الله، ولأنَّ الشَّعب هو مصدر سلطتكم. فحذارِ أن تُهملوه أو تستصغروه. فلبنان دولةٌ ديمقراطيَّةٌ لا ديكتاتوريَّةٌ. ولا يحقُّ لأحدٍ أن يُملي عليها إرادته مستقويًا. كفى كيديَّةً في العمل السِّياسيّ، وتلاعبًا بمصير دولةٍ آخذةٍ بالانهيار، وشعبٍ ترمونه في الذُّلّ، وأنتم تتبادلون الأدوار من أجل التَّعثُّر والتَّعطيل، من دون أيَّة مسؤوليَّةٍ وطنيَّةٍ، وكأنَّ البلاد والعبادَ ألعوبةٌ بين أيديكم. لبنان ليس مُلككم بل مُلك شعبه.
6. البيان الإلهيُّ ليوسفيكشف لنا أنَّ الله يواكب خطوات كلِّ إنسانٍ لحظةً بلحظة، لكونه معاونه في صنع تاريخ البشر على ضوء تصميم الخلاص. عند ساعات القلق والحيرة والاضطراب، نتعلَّم من يوسف أن نعود إلى الله بالصَّلاة والالتماس لكي نصغي في أعماق قلوبنا وضمائرنا إلى ما يكشفه لنا، فنلتزم به.
هذا هو الآنالوقت المصيريّ المناسبليعود فيهالمسؤولون السّياسيُّونعندنا إلى لله لاستلهامه والاصغاء إلى إرادته. إنَّأزمة الحكومةلا تُحَلُّ بالتَّحجُّر في المواقف، ووضع العصيّ في الدَّواليب، بل بالتَّجرُّد والتَّواضع، وبالتَّقدُّم المسؤول بخطوات بين هذا وذاك من الفرقاء، واضعين نصب أعينهم فقط مسؤوليَّة النُّهوض بالوطن المشترك وإنمائه وإسعاد شعبه، ومتحرِّرين من كلِّ ارتباطٍ خارجيٍّ ومن جعل الذَّات وسيلةً للغير من أجل هذا الاستقواء. ولكنَّ التَّاريخ علّمنا ويُعلِّمنا أنَّ الدُّول تصنع مصالحها على حساب من كانوا وسيلةً لها في تدمير بلادهم. فلا ترموا الانتفاضة الشَّعبيَّة بتهمة الارتباط بالخارج أو الاستقواء به. فهذا ليس من عادة شبابنا المنتفضين ولا من ثقافتهم. فلا تتَّهموهم بما أنتم تفعلون وتعوَّدتم عليه من أجل مصالحكم.
7. على ضوء هذا الحدث الإنجيليّ،نُصلِّي اليوملكي ينفتح كلُّ واحدٍ وواحدةٍ منَّا، وكلُّ مسؤولٍ في الكنيسة والمجتمع والدَّولة، على تصميم الله في حياته وحالته ومسؤوليَّته، ولكي يعود إليه بالصَّلاة مستلهمًا نعمة الإدراك لإرادته. فتصبح حياتنا وأعمالنا الصَّالحة والبنَّاءة نشيد مجدٍ وتسبيحٍ للثَّالوث القدُّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".