لبنان
30 تموز 2017, 08:30

الراعي : نعمل على إحلال العدالة والسلام والتغلّب على الظلم والاستبداد

ترأس البطريرك الماروني الكردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الأحد في كنيسة الصرح البطريركي في الديمان. بعد الانجيل المقدس، ألقى الراعي عظة بعنوان: " "روحُ الربِّ عليَّ، مسحني وأرسلني" (لو4: 18). قال فيها :

 

صاحب المعالي ممثِّل فخامة رئيس الجمهورية،

سيادة السفير البابوي وإخواني السادة المطارنة والآباء،

سعادة النائب والممثّلين الرسميِّين،

أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء.

 

1. نبوءة أشعيا التي تمّت بالمسيح، تتحقّق فينا نحن أيضًا بمسحة المعمودية والميرون. فيسوع نال في بشريّته مسحة الروح القدس الذي ملأه فصار اسمه "المسيح" الذي كرّسه الآب وأرسله إلى العالم نبيًّا وكاهنًا وملكًا بامتياز. ولقد أشركنا في المسحة والنبوءة والكهنوت والملوكيّة، ولذا دُعينا "مسيحيِّين"، وبالتالي شركاءَ في هويّة المسيح ورسالته، الواضحتَين في نبوءة أشعيا: "روحُ الربِّ عليَّ مسحني وأرسلني" (لو4: 18).

 

2. إنّ شهداءنا تلاميذ القدّيس مارون، الذين نعيِّد لهم غدًا وسائر شهداء الإيمان، عاشوا بطولة الشهادة لهويّتهم المسيحيّة ولرسالتهم الإنجيليّة، وأراقوا دماءهم في سبيلها. فيسعدنا أن نقيم معًا هذه الليتورجيّا الإلهيّة إحياءً لعيدهم ولذكرى جميع شهداء الإيمان ومعنا رابطة قدامى الإكليريكيّة البطريركيّة في مناسبة إصدار "موسوعة شهداء الكنائس، في آسيا الصغرى والشَّرق الأوسط وشمالي أفريقيا". وهي مبادرة من "لجنة الدراسات والأبحاث" في الرابطة، وقد حقّقها الدكتور الياس رشيد خليل مع مجموعة من المؤلّفين. وسنسمع في آخر القداس كلمات بشأنها. فإنّنا نرحّب بكم جميعًا، ونحيّي فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الممثَّل بمعالي الوزير بيار رفول، وزير الدولة لشؤون رئاسة الجمهورية. فنشكر فخامة الرئيس على مشاركته من خلالكم، ونرجو له النجاح في قيادة سفينة الوطن. ونرحّب بجمهور رابطة آل كرم الّذين يقومون برحلة تقويّة إلى الوادي المقدّس.

 

3. يندرج هذا الإصدار في "سنة الشهادة والشهداء" التي بدأناها في عيد أبينا القدّيس مارون في 9 شباط الماضي، ونختمها في عيد أبينا البطريرك الأوّل القدّيس يوحنا مارون في 2 اذار 2018. إنّها تحيي مرور 1500 سنة على استشهاد تلاميذ القدّيس مارون الثلاثماية والخمسين في العام 517، وتمتدّ لتشمل جميع شهداء كنيستنا المارونية، ومن بينهم البطريرك دانيال الحدشيتي والبطريرك جبرائيل حجولا في عهد المماليك، والطوباويّون الإخوة المسابكيّون الثلاثة الذين أدّوا شهادة الدم في دمشق سنة 1860، وشهداء مجاعة 1914 في العهد العثماني، وصولًا إلى شهداء الإيمان في الحرب اللبنانيّة.

 

ويُضاف إليهم شهداء موارنة كثيرون بينهم بطاركة وأساقفة وكهنة ورهبان وراهبات وعلمانيّون مؤمنون على مدى الألف وخمسماية سنة، نجد أسماءهم وسيرة حياتهم في الكتاب الذي أصدره في هذه الأيام الدكتور طوني ضو بعنوان: "شهادتنا وشهداؤنا زرع الكنيسة ولبنان الكيان".

 

هؤلاء كلُّهم حافظوا على هويّتهم ورسالتهم المسيحيّة، وشهدوا لها بحياتهم وأعمالهم، وأراقوا دماءهم في سبيلها. فأخصبوا حياة كنيستنا بالثمار الوفيرة، إذ كانوا مثل حبّات قمح ماتت في أرض الشهادة فأعطت الثمار ثلاثين وستّين ومئة، وشكّلت حقلًا خصبًا من مروج الكنيسة.

 

4. "روحُ الربّ عليّ مسحني وأرسلني" (لو4: 18). امتلاء يسوع من الروح القدس يُسمَّى في الكتاب المقدس "المسحة". ولهذا دُعِي "المسيح" حامل الرسالة الإلهيّة. في العهد القديم كان "يُمسَح" بالزيت الأشخاص المكرّسون لرسالة انتدبهم الله لها، مثل الكهنة والأنبياء والملوك. فجاء يسوع مسيحًا كاهنًا ونبيًّا وملكًا بامتياز لأنّه في آن: الكاهن والذبيحة، النبيّ والكلمة، الملك والمملكة.

 

مسحة الرّوح هي هويّته، وأصبحت هويّة الكنيسة التي هي جسده. فالمسحة التي استقرّت عليه كرأس، إنّما شملت جسده كلّه. وهي هويّة كلّ أبناء الكنيسة وبناتها، لكونهم أعضاءً في جسده، فنالوها بمسحة الميرون.

 

أمّا رسالة المسيح فيؤدّيها في ضوء نبوءة أشعيا، بوظائفه الثلاث: ككاهن، يبشّر بالغفران المنسحقين، التائبين؛ وكنبيّ، يعزّي منكسري القلوب، ويُنير عميان البصيرة؛ وكملك، يحرّر المسبيِّين، المأسورين، ويعلن زمنًا جديدًا مقبولًا للربّ.

 

     5. بالمعمودية ومسحة الميرون، أصبح الشعب المسيحي شريكًا في مسحة المسيح وفي كهنوته المثلّث. إنّه الكهنوت العامّ المختلف عن كهنوت الدرجة المقدّسة والخدمة. ذلك أنّ المعمَّدين الذين مُسحوا بالميرون يصبحون مكرَّسين ويشكِّلون هيكلًا روحيًّا، وكهنوتًا مقدّسًا.

 

عندما قرأ يسوع هذا النصّ من أشعيا الذي عمره سبعماية سنة قبل الميلاد، قال: "اليوم تمّت هذه الكتابة التي تُليَت على مسامعكم" (لو4: 21). كلّ مسيحي ومسيحيّة مدعوّان لترداد هذا القول في حياتهما. ما يعني الالتزام بمفاعيل المعمودية والميرون، التي هي المشاركة في كهنوت المسيح المثلَّث الأبعاد. ففيالبُعد الكهنوتي كلّنا مدعوّون لنجعل من أعمالنا الصالحة وتضحياتنا وأفراحنا وآلامنا قرابين روحيّة نقدّمها مع ذبيحة المسيح الفادي. وفي البُعد النبوي نتقبّل كلام الله في الكتب المقدّسة، وتعليم الكنيسة في العقل والقلب، ونجسدّهما في الأفعال والمبادرات والمواقف بحيث تصبح ثقافة مسيحيّة تعمل في المجتمع كالخميرة في العجين. وفي البعد الملوكي، نعمل على إحلال العدالة والسلام، والتغلّب على الظلم والاستبداد.

 

6. هذا الالتزام مطلوب بنوع خاصّ في المجتمع والدولة، ولاسيّما من المسؤولين عن الشأن الزمني العام، الموكولة إليهم سلطة التشريع والإجراء والإدارة والقضاء. إنّهم ملتزمون بتأمين خدمة المواطنين وفقًا للدستور والقوانين. فمن غير المقبول أن يلجأ الشعب إلى الإضرابات والمظاهرات والاعتكافات لكي ينال حقوقه المشروعة، في كلّ مرّة يُسنّ قانون أو يُتَّخذ إجراء. لا يمكن إغفال القاعدة الأولى والأساسية وهي تأمين خير الشعب ونموّ الشخص البشري والمجتمع؟ وفي كلّ حال، مطلوب من السلطة السياسية إصلاح كلّ خلل، وحاليًّا ما يختصّ بقانون سلسلة الرتب والرواتب التي طال انتظارها، لكنّها أتت مرهقة ومجحفة بحقّ بعض الفئات من الشّعب وفقًا لمطالبها. ويهمّنا أن نلفت النظر إلى ما يتعلّق بالمدارس الخاصّة، المجّانيّة وغير المجّانيّة. فالمطلوب عدم تطبيق أي زيادة على الرّواتب تصدر بعد الأوّل من تمّوز 2017، لأنّ تسجيل الطّلاب للعام الدّراسي المقبل قد تمّ وفقًا للأقساط المقرّرة، ولأنّ العقود مع الهيئة التّعليميّة قد وُقّعت برواتب محدّدة تبعًا لذلك. والمطلوب من الدّولة أن تؤمّن فرق الزّيادات وتعمل على إيجاد الإيرادات كما تفعل بالنّسبة إلى القطاع العام. طالما هي تربط القطاع الخاص بالقطاع العام من غير حق. وإلاّ جاءت زيادة الأقساط على الأهل مرهقة للغاية ما يضطرّهم إلى سحب أولادهم من هذه المدارس، وترغم هذه الأخيرة إمّا على الإقفال وإمّا على صرف العديد من الأساتذة والموظّفين وحرمانهم من فرص العمل. إنّ الدّولة هي المسؤولةٌ عن هذه الأزمة الاجتماعية الجديدة وعليها واجب معالجتها. وفي كلّ حال، ينبغي سماع الأمانة العامّة للمدارس الكاثوليكيّة واتحاد المؤسسات التربوية الخاصة، من أجل خير المعلّمين والأهل والمدرسة.

 

7. أجل، نبوءة أشعيا النبي تُطبَّق على كلّ واحد وواحدة منّا: "روحُ الربِّ عليَّ، مسحني وأرسلني" (لو4: 18). فلتكن كلمةُ الربّ يسوع كلمتَنا في كلّ يوم وحالة وظرف: "اليوم تمّت هذه الكتابة" (لو 4: 21). فنلتزم عيش هويتنا ورسالتنا المسيحية وتصبح حياتُنا نشيدَ مجد وتسبيح للثالوث القدوس: الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.