لبنان
06 آذار 2023, 06:00

الرّاعي: نزيف القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة ظاهر في مجتمعنا في المسلك والكلام والتّعاطي

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك المارونيّ قدّاس أحد النّازفة في الصّرح البطريركيّ في بكركي، وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس ألقى عظة بعنوان "يا ابنتي إيمانك شفاكِ... لا تخف، آمن فقط وابنتك تحيا"(لو 8: 18 و 50)، جاء فيها:

 

"1. عندما جاءت المرأة النّازفة من وراء يسوع، ولمست طرف ردائه فتوقّف للحال نزيف دمها، الذي دام إثنتي عشرة سنة، وكرّر السّؤال: "من لمسني، لأنّ قوّة خرجت منّي"، اعترفت مرتعدة لماذا فعلت ذلك، وكيف توقّف للحال نزيف دمها. فقال لها يسوع: "تشجّعي. يا ابنتي، إيمانك شفاك، إذهبي بسلام"، (لو 8: 18). 

ولمّا جاء قوم ينقلون ليائيرس خبر وفاة ابنته الصّبيّة، ولا حاجة لإزعاج يسوع بالمجيء إلى بيته ليشفيها، قال له الرّبّ: "لا تخف، آمن فقط وابنتك تحيا" (لو 8: 50). 

2. اللّقاء بيسوع يشفي، عندما يكون لقاء إيمانٍ بقدرة الله الشّافية، كإيمان المرأة النازفة؛ ولقاءَ رجاءٍ ثابت كالصّخر بأنّ الله لا يخيّب، مثل إيمان يائيروس. إنّنا نلتمس من الله اليوم أن يحيي فينا الإيمان، ويثبّتنا في الرّجاء. لسنا شعبَ التّشكيك، بل شعبُ الإيمان. ولسنا شعب اليأس بل شعب الرّجاء. بالإيمان والرّجاء نؤكّد أنّ الله هو سيّد التّاريخ وحده، فيتدخّل ساعة وكيفما وعندما يشاء. فإن أمهل، لا يهمل.

3. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، فأرحّب بكم جميعًا، وأحيّي كلّ المشاركين عبر تيلي لوميار- نورسات، وسائر وسائل الاتّصال الاجتماعيّ. وأوجّه تحيّة خاصّة إلى عائلة المرحومة جورجيت بطرس مرعب، أرملة المرحوم شاكر ياغي مختار العاقورة. وقد ودّعناها بالأسى والصّلاة منذ شهر ونصف مع إبنها بولس مختار العاقورة، وأرملة إبنها المرحوم ماجد، وابنتها ماجدة وشقيقها أنطوان، وأرملة شقيقها المرحوم مورات وسائر أنسبائهم. نصلّي لراحة نفسها وعزاء أسرتها.

4. يستهلّ إنجيل اليوم كلامه بأنّ "الجمع استقبل يسوع، لأنّهم جميعهم كانوا ينتظرونه" (لو 8: 40). فيسوع هو قبلة أنظار كلّ إنسان وشعب يؤمن به، وعلى شفاهه صرخة الأجيال: "تعال أيّها الرّبّ يسوع" (رؤيا 22: 20). المسيح، فادي الإنسان حيّ وآت أبدًا في حياتنا اليوميّة، كما وعد: "ها أنا آتٍ أجعل كلّ شيء جديدًا. أنا الألف والياء، الأوّل والآخر. أنا أعطي العطشان من معين ماء الحياة مجّانًا" (رؤ 21: 5-6). 

5. الإيمان عطش إلى المسيح.

يائيرس، رئيس المجمع، "عطش"، آمن بيسوع فانتظر ووقع ساجدًا على قدميه متوسّلًا أن يأتي بيته ليشفي ابنته الصّبيّة المشرفة على الموت. "وعطشت" إلى يسوع أيضًا المرأة النّازفة وانتظرته، وآمنت أنّها إذا استطاعت لمس طرف ثوبه تشفى. العطش إلى يسوع المسيح هو عطش إلى الله الواحد والثّالوث: الآب الذي يخلق ويحفظ بعنايته، والإبن الذي يخلّص ويشفي، والرّوح القدس الذي يشرك في الحياة الإلهيّة. بقوّة هذا الإيمان أقام يسوع ابنة يائيرس من الموت بندائه: "يا صبيّة قومي". فعادت روحها إليها، وللوقت قامت (لو 8: 54-55). وشفى المرأة النّازفة بلمس طرف ثوبه: "وحالًا توقّف نزف دمها" (لو 8: 44). 

6. هذا الإيمان وهذا الخلاص متواصلان عبر أسرار الكنيسة السّبعة التي أسّسها الرّبّ يسوع لتكون "أداة" لحضوره معنا ولعمل الله الثّالوث فينا، و"علامة" لنعمة الخلاص ومنحًا لها. الأسرار هي: المعموديّة، والميرون، والقربان، والتّوبة، ومسحة المرضى، والزّواج، والكهنوت.

في إنجيل اليوم كانت "الأداة" لمس النّازفة طرف ثوب يسوع، وذهاب الرّبّ إلى بيت يائيرس ومناداته الفتاة الميّتة: "يا صبيّة قومي". وكانت "النّعمة" الشّفاء من النّزيف والقيامة من الموت. لا يستطيع أحد أن يقبل نعمة الخلاص والحياة الجديدة من دون هذه الأسرار وإيمان قابليها.

7. نزيف تلك المرأة الدّمويّ يرمز إلى نزيف القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة، ونزيف السّياسة من مضمونها النّبيل، ونزيف خزينة الدّولة من مالها العام، ونزيف المؤسّسات الدّستوريّة من فاعليّتها.

نزيف القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة ظاهر في مجتمعنا في المسلك والكلام والتّعاطي. فالكلّ يُجمع على فقدان القيم والشّعور الإنسانيّ. ومردّ ذلك إلى عدم الرّجوع إلى الله ووصاياه ورسومه، وإلى خنق صوت الضّمير، الذي هو "صوت الله في أعماق الإنسان" (الدّستور الراعويّ: الكنيسة في عالم اليوم، 16). فلنفكّر مثلًا في التّلاعب بأسعار المواد الغذائيّة والأدوية، فيما الشّعب يتضوّر جوعًا، وأولاد يُحرمون الغذاء اللّازم لنموّهم، ومرضى يموتون لعدم إمكانيّة توفير دوائهم. فصرنا أشبه بالسّمك الصّغير الذي يأكله السّمك الكبير. 

8. ونزيف السّياسة من مضمونها النّبيل كفنٍّ لتأمين الخير العام، الذي يوفّر الخير لجميع المواطنين ولكلّ مواطن. فإذا بنا أمام جماعة سياسيّة خالية من أيّة مسؤوليّة، وتمارس السّياسة من أجل مصالحها الخاصّة والفئويّة فقط، بل تبيد الخير العام غير آبهة بالشّعب الذي أوكل إليها هذه المسؤوليّة العامّة بموجب مقدّمة الدّستور (عدد "د"). ومن المؤلم حقًّا غياب رجال دولة عندنا، والبرهان أنّ لا أحد من السّياسيّين والأحزاب أو الكتل النّيابيّة، يقدّم مشروعًا واحدًا جدّيًّا لإنهاض لبنان من انهياره الكامل. فإن تكلّم بعضهم فاهوا بالكيديّة والحقد والذّهنيّة الميليشياويّة والإساءة الشّخصيّة وبثّ سمّ التّفرقة والإنقسامات والعداوة، الأمر الذي يزرع الأشواك والألغام على طريق انتخاب رئيس للجمهوريّة. 

9. ونزيف خزينة الدّولة من مالها العام، بالسّرقات والهدر وغياب المحاسبة، وسدّ ينابيع الدّخل للدّولة بالتّعطيل عن العمل والإضرابات المفتوحة، وايقاف أجهزة المراقبة إهمالًا وربما تواطؤًا، وعدم السّيطرة على الجمارك في المرافئ البحريّة، والمطار، وإيقاف التّهريب بضبط الحدود خروجًا ودخولًا، وسوء الحوكمة باستئجار الدّولة مباني إداراتها بالدّولار، وإيجار ممتلكاتها باللّيرة اللّبنانيّة، والتّهرّب من دفع ضرائب الماء والكهرباء، واعتماد سياسة الرّيع بدلًا من سياسة الإنتاج، وإهمال مكمن الخسارة في الفرق الشّاسع بين قيمة الاستصدار وقيمة التّصدير.

10. ونزيف المؤسّسات الدّستوريّة من فاعليّتها، إذ بعدم انتخاب رئيس للجمهوريّة، يتوقّف المجلس النّيابيّ عن صلاحيّة التّشريع، وحكومة تصريف الأعمال عن صلاحيّة إصدار القرارات التّنفيذيّة وإجراء التّعيينات في الإدارات العامّة، فتتعطّل مسيرة الدّولة، ويتحكّم بها النّافذون والمتمرّدون والمدعومون، ويستبيح السّياسيّون التّدخّل في الإدارة والقضاء، وتسود الفوضى ويُمارس الظّلم والاستبداد من هذا وذاك من المسؤولين، ومن وزير تجاه المدير العام لأغراض مذهبيّة وطائفيّة وحزبيّة، متجاوزًا هكذا إطار صلاحيّاته. 

11. يتعثّر انتخاب رئيس للجمهوريّة، لأنّه، وبكل أسف يدور الخلاف حول إنتمائه إمّا لفئة الممانعة،كما يسمى، وإمّا لفئة السّيادة. والحلّ الوحيد هو في الخروج من هذه المعادلة، والعمل من قبل الشّعب على انتخاب رئيس وطنيّ متحرّر من كلّ إرتباط وانحياز وفئة ومحور. هذا هو الرّئيس الذي يحتاجه لبنان لكي يكسب ثقة الجميع في الدّاخل، وثقة كلّ الدّول في الخارج، ولكي يتمكّن هذا الرّئيس من قيادة الإصلاحات اللّازمة والمطلوبة من أجل نيل المساعدات الدّوليّة والإقليميّة.

12. هذه هي أولويّة الأولويّات والضّرورات التي يذكّر بها النّائبان المعتصمان في المجلس النّيابيّ زملاءهم النّواب منذ ثلاثين يومًا. أمّا السّعيّ إلى تمديد الشّغور الرّئاسيّ من أجل أهداف مبطّنة منافية للهويّة اللّبنانيّة، فهو الإمعان في تكبير حجم الجريمة: بهدم مؤسّسات الدّولة، واضطهاد المواطنين اللّبنانيّين بافقارهم وتهجيرهم من وطنهم، وحرمانهم من تحقيق ذواتهم على أرض الوطن، ومن المساهمة في بنيانه، مثلما يفعلون في بلدان أخرى استضافتهم.

من واجب من يتعاطى الشّأن السّياسيّ العمل الجدّيّ على تجديد العقد الاجتماعيّ الضّامن للتّنوّع الثّقافيّ والدّينيّ بين اللّبنانيّين على أسس من الحداثة وإزالة الخوف المتبادل. فيتطلّع الجميع، أفرادًا وجماعات، إلى مستقبلهم الوطنيّ بأمل وثقة، ويتشاركون بروح المسؤوليّة في صياغة دور رياديّ للبنان في العقود المقبلة، مستثمرين ما يملكه من خصوصيّات وميزات تفاضليّة وقيم حضاريّة.

13. إنّنا بالإيمان والرّجاء نصمد بوجه المصاعب ونعمل متضامنين على إزالتها بقوّة النّعمة الإلهيّة. والله وحده والثّالوث نسبّح ونشكر الآن وإلى الأبد، آمين."