الرّاعي: نريد حكومة واحدة لكلّ اللّبنانيّين وللبنان واحد لا مجموعة حكومات في حكومة
هذا وتوقّف الرّاعي عند الوضع الرّاهن المحلّيّ مجدّدًا مطالبته بتأليف حكومة تكون لكلّ اللّبنانيّين، فقال:
"1. هذا التّرائي لتلميذي عمّاوس، في مساء أحد قيامة الرّبّ يسوع، هو ظهور إفخارستيّ، فنستطيع القول إنّه قدّاس يسوع الأوّل بعد قيامته. إنّ فيه أجزاء القدّاس الأربعة: خدمة الكلمة والذّبيحة والمناولة والإرسال.
نحن نرجو أن تتفاعل قلوبنا عند سماع كلام الرّبّ في كلّ قدّاس، كما حدث للتّلميذين، وأن نعرفه في ذبيحة الفداء ومناولة جسده كما عرفاه، وأن نحمل رسالة بشراه بدون تعب أو ملل كما فعلا بالعودة ليلاً إلى أورشليم لنقل الخبر، على الرّغم من طول المسافة وعناء السّفر.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، فأحيّيكم جميعًا مع تحيّة خاصّة لجمعيّة آل عطالله الخيريّة وعلى رأس الحاضرين سيادة أخينا المطران سمعان عطالله رئيس أساقفة بعلبك- دير الأحمر سابقًا. إنّنا نشجّع أعمال هذه الجمعيّة في خدمة المعوزين في العائلة وشدّ روابط التّضامن والتّعاون بين أعضائها.
كما نوجّه تحيّة لأولاد شقيقة المرحومة الأخت إليان الخوري، من جمعيّة راهبات العائلة المقدّسة المارونيّات. وقد ودّعناها معهم منذ ثمانية عشرة يومًا. إنّنا نصلّي لراحة نفسها في الملكوت السّماويّ ولعزاء جميع ذويها وأنسبائها وراهبات العائلة المقدّسة.
3. أجل نستطيع القول إنّ ترائي يسوع لتلميذي عمّاوس، في مساء أحد قيامته، كان قدّاسه الأوّل، ففيه أقسام القدّاس الإلهيّ الأربعة:
أ- قسم الكلمة هو تعليم يسوع للتّلميذَين بشأن ما نطق به الأنبياء عن المسيح الّذي يجب عليه أن يعاني تلك الآلام فيدخل في مجده. وراح يفسّر لهما ما جاء عن المسيح في جميع الكتب بدءًا من موسى وسائر الأنبياء (راجع الآيات 25- 27).
ب- قسم الذّبيحة ظاهر في شخص يسوع الذّبيح والقائم من الموت، والحامل آثار الصّلب في جسده الممجّد، كما فسّر للتّلميذين: "يجب على المسيح أن يعاني تلك الآلام قبل أن يدخل في مجده" (الآية 26). ذبيحته هي مصدر سلام داخليّ وطمأنينة، وسبب فرح وعزاء يأتينا من كون الله يحبّنا من دون حدود، والمسيح يحبّنا من دون قياس وحساب.
ج- قسم المناولة هو اكتمال قسم الذّبيحة: "لمّا جلس معهما للطّعام أخذ الخبز وبارك وكسره وناولهما" (لو 24: 30). لا تنفصل الذّبيحة عن المناولة: المسيح يُذبح لفدائنا، وليكون لنا طعامًا للحياة الأبديّة، هو المسيح الكلمة تجسّد ليكلّمنا بكلام الحياة، وقبل الموت ذبيحة فداء عن خطايانا، وأعطانا ذاته غذاءً روحيًّا. هذه الأقسام الثّلاثة: الكلمة والذّبيحة والمناولة، تشكّل وحدة مترابطة ومتكاملة، من دون أيّ انفصال الواحدة عن الأخرى، ومن دون أيّ ذوبان للواحدة في الأخرى. لذلك علينا المشاركة في القدّاس منذ دخول الكاهن إلى أمام المذبح حتّى مغادرته بالبركة الأخيرة.
د- قسم الرّسالة في ختام القدّاس يعيدنا إلى التّلميذين اللّذين قاما للحال، ونسيا التّعب، واخترقا ظلام اللّيل، وعادا إلى أورشليم لكي ينقلا خبر قيامة يسوع من الموت.
4. أسّس الرّبّ يسوع سرّ الإفخارستيّا ليكون حاضرًا في حياة كلّ إنسان وجماعة. فهو "النّور الذّي ينير كلّ إنسان يأتي إلى العالم" بشهادة يوحنّا الرّسول (يو 1: 9). ويقول الرّبّ عن نفسه: "أنا نور العالم، من يتبعني لا يمشي في الظّلام" (يو 8: 12).
لا يستطيع أحد أن يعيش من دون هذا النّور الإلهيّ، وإلّا عاش في ظلمة نزواته ومصالحه وأنانيّته وحقده، وأضاع معنى الحياة، وأخطأ قراءة أحداثها وعلامات الأزمنة. النّور الإلهيّ يحرّر من الخطأ ويجمع. يُضاف إلى هذا النّور عنصرٌ أساسيٌّ هو المحبّة المنفتحة على العطاء. لو لم يصرّ تلميذا عمّاوس على استضافة ذاك الغريب لما عرفا أنّه يسوع عند "كسر الخبز"، ولما استعادا كلّ قواهما الرّوحيّة والمعنويّة والجسديّة.
5. إنّ الّذين يصنعون الخير يختبرون حضور الله في حياتهم. اليوم شعب لبنان يتعرّض بكلّ فئاته ومناطقه، لحربٍ اقتصاديّةٍ ونقديّة ومعيشيّة مفتوحةٍ تستدعي مواجهتَها والانتصارَ عليها بالصّمود الّذي يبدأ بالبقاءِ في لبنان للحفاظِ على وجودِنا وهويّةِ الأرضِ والوطن. الكنيسة، بطريركيّةً وأبرشيّات ورهبانيّات ومؤسّسات ومنظّمات خيريّة تابعة لها ومحسنين من أبنائها، كلّهم يلتزمون بتوفير الحاجاتِ المادّيّةِ للعائلات المعوزة. إنّنا، بانتظارِ عودةِ مؤسّساتِ الدّولة المركزيّةِ، ندعو جميعَ السّلطاتِ المحلّيّةِ والبلديّاتِ واتّحاداتِ البلديّات، والجمعيّاتِ المدنيّةِ والأحزابِ والنّوادي والتّعاونيّات والنِّقابات والفئاتِ الميسورة إلى توحيدِ الجهود، وإلى استعمالِ جميعِ القدراتِ الشّرعيّة الاقتصاديّة المتوافرِةِ في القرى والبلدات والمناطق لتأمينِ إنعاشٍ اقتصاديٍّ وزراعيِّ وتجاريٍّ وسياحيٍّ وماليٍّ، من شأنه أن يؤمِّنُ مقتضياتِ الحياةِ والصّمودِ للأفرادِ والعائلات، وأن يثني الشّبابِ عن الهِجرة، ويساعد اللّبنانيّين على منعِ سقوطِ وطنِهم، وعلى استعادةِ دولتِهم الواحِدة والمحرّرة من ذوي المصالح الخاصّة والمشبوهة. قَدرُنا أن نبقى أمناءَ على هذا الوطنِ ونمنعَ الاستيلاءَ عليه. قَدرنُا أن نقومَ من بين أنقاضِ الدّمارِ والانحطاطِ والانهيار. قَدَرُنا أن نعودَ إلى النّهضةِ والبناءِ والازدهارِ والسّلام.
6. لا نستطيع بأيّ شكلٍ من الأشكال قبول ممارسة الجماعة السّياسيّة وبخاصّة المقامين في السّلطة، أعني خيارهم سلوك درب الانهيار، مكابرتهم على قبول الحلول المتوافرة، إقفالهم كلّ باب يأتي منه الخير والمساعدات للشّعب وللبنان، أكان من الدّول المانحة، أم من صندوق الدّعم الدّوليّ، أم من الدّول العربيّة الشّقيقة، وبالمقابل إبقاءهم معابر الهدر والتّهريب على الحدود الشّماليّة والشّرقيّة مفتوحة على مصراعيها.
العالمُ ينتظرُ أن تُؤلّفَ حكومةٌ ليتّخذَ المبادراتِ الإيجابيّةَ تجاه لبنان. ما من موفدٍ عربيٍّ أو دوليٍّ إلّا ويُردِّدُ هذا الكلام. جميعُهم يَتوسَّلون المسؤولين عندنا أن يَضعوا خلافاتِهم ومصالحَهم وطموحاتِهم الشّخصيّةَ جانبًا، وأن يَنكبّوا على إنقاذِ البلادِ. ما لم تتألفْ حكومةُ اختصاصيّين غيرِ حزبّيين لا هيمنةَ فيها لأيِّ طرفٍ، عبثًا تَتحدّثون، أيّها المسؤولون، عن إنقاذٍ، وإصلاحٍ، ومكافحةِ فسادٍ، وتدقيقٍ جنائيّ، واستراتيجيّةٍ دفاعيّة، ومصالحةٍ وطنيّة. إنَّ معيارَ جِديّةِ المطالبةِ بكلِّ هذه المواضيع هو بتأليف الحكومة. فلا تَلهُون المواطنين بشؤونٍ أخرى، وهم باتوا يميّزون الحقَّ من الباطل.
7. لكي تكون الحكومة الجديدة فاعلة وقادرة على إجراء إصلاحات وشدّ عُرى الوحدة الوطنيّة استُبعدت حكومة من كتل نيابيّة، لئلّا تكون مجلسًا نيابيًّا مصغّرًا تتعطّل فيها المحاسبة والمساءلة. واستُبعدت حكومة حزبيّة، منعًا لخلافات داخليّة تعطّل عملها. وكان الاتّفاق أن تكون حكومة من اختصاصّيين ذوي خبرة في شؤون الدّولة وفي مختلف حقول الحياة، ومجلّين في أخلاقيّتهم ونتاجهم. فإذا بنا نسمع اليوم بحكومة من وزراء طائفيّين ومذهبيّين يعيّنهم السّياسيّون. في دستورنا، لبنان دولة مدنيّة، طوائفها تنتمي إلى ربّها. وميثاقنا الوطنيّ يقتصر على الشّراكة الوطنيّة في إطار المناصفة والمساواة. ليس لبنان بحكم هويّته دولة دينيّة وطائفيّة ومذهبيّة، بل الانتماء إليه هو انتماء بالمواطنة لا بالدّين.
إنّنا نريد حكومة واحدة لكلّ اللّبنانيّين وللبنان واحد، لا مجموعة حكومات في حكومة، لكلّ طائفة حكومتها داخل الحكومة، منعًا لنزاعات طائفيّة ومذهبيّة يرفضها عيشنا المشترك الّذي يميّز لبنان عن سواه من الدّول المحيطة.
أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء،
8. نأمل أن نتّعظ من جائحة كورونا الّتي اجتاحت الكرة الأرضيّة بكاملها، من دون سلاح وجيوش وأموال، وركّعت الجميع بدءًا من الكبار، فتؤول بنا جميعًا إلى وقفة وجدانيّة مع الذّات ومع الله، لكي يدرك كلّ واحد منّا هشاشة الحياة، ويبدّل مجرى حياته، ويوجّهه إلى الخير والحقّ والجمال. لله المجد والتّسبيح الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."