لبنان
22 شباط 2021, 06:00

الرّاعي: نتمنّى للقضاء الإفلات من يد السّياسيّين وأن يقيم المؤتمر الدّوليّ لبنان من تعثّره

تيلي لوميار/ نورسات
في أحد الأبرص، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في كنيسة الصّرح البطريركيّ- بكركي، أطلقت خلاله كاريتاس لبنان حملتها السّنويّة تحت شعار "معكم بتبقى الحياة". وللمناسبة ألقى البطريرك الرّاعي عظة أضاء فيها على دور كاريتاس اليوم من جهة، وتطرّق إلى الوضع الحاليّ في لبنان من جهة ثانية، فقال:

"بفعل إيمان وتواضع جاء الأبرص إلى يسوع، والبرص يتآكل جسده ويشوّهه، والعزلة عن عائلته ومجتمعه تخنقه، فجثا وتوسَّل إليه قائلاً: "إن شئتَ، أنت قادر أن تطهّرني" (مر1: 40). فتحنّن يسوع ومدّ يده ولمسه قائلاً: ""قد شئت، فاطهر". فزال برصه للحال" (مر1: 41).

هذا هو واقعنا الدّائم واليوم على الأخصّ. الواقع الدّائم فيما الخطايا المتراكمة والمتمادية تتآكل نفوسنا كالبرص، وتشوّه صورة الله فينا؛ والواقع على الأخصّ فيما وباء كورونا يفتك بشعبنا وبأرضنا، وبالعالم ويخطف الضّحايا والأعزّاء، وفيما الجوع يتآكل شعبنا، وفيما أوصال الدّولة تتفكّك، والمسؤولون السّياسيّون يتشوّهون في إنسانيّتهم، وفي سء ممارسة سلطتهم وجعلها للخراب لا للبنيان.

إنّنا بإيمان الأبرص وتواضعه، نلتمس من الرّبّ يسوع، مخلّص العالم وفادي الإنسان، الشّفاء من الخطايا ومن وباء كورونا ومن حالة البؤس الّتي تتآكلنا وتتآكل دولتنا ومقوّماتها.

نفتتح في هذا الأحد، مع رابطة كاريتاس لبنان، جهاز الكنيسة الاجتماعيّ الرّسميّ، حملتها السّنويّة لمناسبة صوم 2021.  فإنّي أحيّي سيادة أخينا المطران ميشال عون المشرف عليها من قبلنا ومن قبل مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وأحيّي رئيسها الأب الكرمليّ ميشال عبّود ومجلسها وكلّ العاملين في الإدارة المركزيّة والأقاليم والمراكز وشبيبتها على مدى الأراضي اللّبنانيّة. إنّها تعتمد شعارًا لحملتها: "معكم بتبقى الحياة". وإنّنا نحيّي كلّ المحسنين من لبنان والخارج، أفرادًا ومؤسّسات ودولاً، مدّوا يد المساعدة. فتمكّنت كاريتاس من متابعة برامجها المتنوّعة: الاجتماعيّة والصّحّيّة والتّربويّة والإنمائيّة، ومن مواجهة جائحة كورونا، وانفجار مرفأ بيروت.

بالنّسبة إلى وباء كورونا، تقدّم كاريتاس مساعدات استثنائيّة في أربعة من أقسامها: في قسم الصّحّة، توزّع أدوية، وأدوات وقاية، وتُجري فحوصات وتقدّم إرشادات. وفي القسم الاجتماعيّ، توزّع مساعدات ماليّة وموادًّا غذائيّة. وفي قسم التّربية، تنظّم التّعليم المدمج، والدّروس التّعويضّية، وتوزّع أجهزة لوحيّة إلكترونيّة، وفي قسم اللّاجئين الأجانب، تنظّم دورات لمنع وصول الوباء إلى أماكن الإيواء.

أمّا بالنّسبة إلى انفجار المرفأ، فكانت شبيبة كاريتاس الّتي تضمّ ألف شابّ وشابّة كلّهم متطوّعون في طليعة الواصلين إلى المناطق المنكوبة، فنقلوا المصابين إلى المستشفيات، وساهموا في تنظيف المباني والشّوارع، وفي توزيع المساعدات الاجتماعيّة والعينيّة والغذائيّة والماليّة لترميم المنازل في حاجاتها الأوّليّة. فكان لكاريتاس الدّوليّة، ولروابط كاريتاس الشّقيقة في مختلف البلدان، ولمنظّمات دوليّة، ومؤسّسات حكوميّة أجنبيّة ولمنظّمات أهليّة عالميّة، دور أساسيّ في مدّ يد المساعدة للمنكوبين، وهم مشكورون.

نشكرالله على أنّ محبّته المسكوبة في القلوب ظاهرة وشاهدة عبر هذه المحبّة الاجتماعيّة الّتي كنّا وما زلنا ننتظر بوادرها لدى المسؤولين في الدّولة اللّبنانيّة وفي إداراتها العامّة. ولكنّهم خنقوا في قلوبهم المشاعر الإنسانيّة بتغليب أنانيّاتهم ومصالحهم وفسادهم.

أين هم من مدّ يد الرّحمة والحنان الّتي مدّها يسوع ولمس قروح الأبرص فشفاه للحال بمحبّته وأزالها عنه برحمته؟

هذا المصاب بالبرص هو صورة كلّ إنسان مشوّه بتراكم خطاياه الشّخصيّة الّتي لم يتب عنها، فتآكلت قلبه وانتزعت منه المشاعر الإنسانيّة من حبّ وحنان ورحمة. فعلى كلّ واحد وواحدة منّا أن يلجأ إلى الله بالتّوبة لالتماس الرّحمة والشّفاء الدّاخليّ.

والمصاب بالبرص يمثّل المواطن عندنا الّذي يعاني من جراحات الجوع والعوز، والبطالة والحرمان، والاستبداد والظّلم، والاستكبار. والسّلطات السّياسيّة يمعنون في ازدياد هذه الجراح بتعطيل مسيرة الدّولة ومؤسّساتها الدّستوريّة، وعلى رأسها عدم تشكيل حكومة وعرقلة العدالة بالتّدخّل السّياسيّ.

والمصاب بالبرص يتمثّل بواقع الدّولة الّتي نخرها الفساد، بعيدًا عن الحياء ومخافة الله ومحكمة الضّمير، والّتي يمعن الموكّلون على حمايتها وإنمائها في خرابها وتهديمها وفكفكة أوصالها، وإفقار مواطنيها، وتبديد قواها الحيّة، من أجل البخيس من الحصص والمصالح الخاصّة النّفوذيّة والمذهبيّة وما وراءها من مكاسب ماليّة. وهذا ما نحن نشجبه بالمطلق.

إنّنا نضمّ صوتنا، الصّاعد من عمق قلبنا مجروح، إلى أصوات منكوبي انفجار بيروت. وهم أهالي الضّحايا الـ204، و6500 جريحًا، و300000 مشرّد من أصحاب البيوت والمتاجر والمؤسّسات المهدّمة والمتضرّرة. هؤلاء كلّهم كانوا ينتظرون نتيجة التّحقيق العدليّ منذ أكثر من ستّة أشهر، إلى جانب الموقوفين من دون إثبات قانونيّ، فإذا بشكليّات وبراهين واهية تطغى على كلّ هذه الكوارث فتكفّ يد المحقّق العدليّ، ليعود التّحقيق إلى نقطة الصّفر. وهذا يثبت المطلب الأساسيّ منّا ومن غيرنا بضرورة التّعاون مع محقّقين دوليّين، نظرًا لاتّساع رقعة هذه الجريمة ضدّ الإنسانيّة. وفي كلّ حال، نتمنّى للمحقّق الجديد الرّئيس طارق البيطار النّجاح والإسراع في مهمّته الدّقيقة. ونتمنّى للقضاء الّذي كان إحدى منائر لبنان، الإفلات من يد السّياسيّين والنّافذين، فلا تظلّ تشكيلاته مجمّدة، ولا تكون أحكامه مؤجّلة، وملفّاته "غبّ الطّلب"، ولا أداة لاتّهامات كيديّة. وإلّا كيف يكون العدل أساس الملك؟

أمام هذا الواقع المؤسف، بالإضافة إلى استحالة التّفاهم بين المرجعيّات السّياسيّة لتشكيل "حكومة مهمّة"، ولاتّخاذ أيّ قرار إصلاحيّ منذ مؤتمر CEDRE، وإلى فقدان الثّقة فيما بين هذه المرجعيّات، وانقطاع الحوار، وتوقّف عجلات الدّولة، وعدم وجود سلطة دستوريّة قادرة على إحيائها، دعونا إلى مؤتمر دوليّ خاصّ بلبنان برعاية منظّمة الأمم المتّحدة، من أجل إعادة إحياء لبنان، عبر تحصين وثيقة الوفاق الوطنيّ الصّادرة عن مؤتمر الطّائف سنة 1989، وتطبيقها نصًّا وروحًا، وتصحيح الثّغرات الظّاهرة في الدّستور المعدّل على أساسها سنة 1990. أمّا الهدف الأساسيّ والوحيد فهو تمكين الدّولة اللّبنانيّة من أن تستعيد حياتها وحيويّتها وهويّتها وحيادها الإيجابيّ وعدم الانحياز، ودورها كعامل استقرار في المنطقة.

إنّ ما نطمح إليه عبر هذا المؤتمر هو دولةٌ موحَّدةٌ بشعبِها وأرضِها، بشرعيّتِها وقرارِها، بمؤسّساتِها وجيشِها، بدستورِها وميثاقِها؛ ودولةٌ قويّةٌ تَبني سِلمَها على أساسِ مصلحتها الوطنيّة وحقِّ شعبِها بالعيش الآمن، لا على أساسِ مصالحِ دولٍ أخرى؛ ودولةٌ ديمقراطيّةٌ حضاريّةٌ تَعيش زمانَها، وتواصل رسالتها في بيئتها المشرقيّة بتلاقي الحضارتين المسيحيّة والإسلاميّة والعيش المشترك النّموذجيّ.

إذا كان مؤتمر الطّائف، الّذي عُقد برعاية عدد من الدّول العربيّة والأجنبيّة، قد وضع حدًّا للحرب الأهليّة في لبنان من دون رجعة، نأمل من المؤتمر الدّوليّ الخاصّ برعاية الأمم المتّحدة أن يقيم لبنان من تعثّره إلى سابق عهده، وأن يصحّح مسبّبات هذا التّعثّر.

عندما قام يسوع قبل طلوع الفجر وذهب إلى مكان قفر وأخذ يصلّي هناك (مر1: 35)، كان ذاك الأبرص في خاطره، لأنّ الشّريعة كانت تلزمه بالانفصال عن حياة الجماعة والعيش في البرّيّة، لأنّ مرضه معدٍ. بفضل صلاة يسوع كان اللّقاء والشّفاء من البرص.

الكنيسة في صلاة دائمة، ومن ثمار صلاتها لقاءات إيمانيّة شافية بين يسوع والعديد من المتألّمين في أجسادهم وأرواحهم ونفوسهم ومعنويّاتهم. إنّ الصّلاة تفتح أبواب السّماء فتفيض النّعم والبركات الإلهيّة على أرضنا.

بهذا الإيمان نواصل من هذا الكرسيّ صلاتنا اليوميّة المسائيّة مع عشرات الألوف من المشاركين عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ من أجل شفاء المصابين بوباء كورونا، ومن أجل إبادة هذا الوباء، وراحة نفوس ضحاياه الّتي تسقط يوميًّا، وعزاء عائلاتهم.

فليكن،, في كلّ حال، إسم الله ممجّدًا، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."