لبنان
01 نيسان 2025, 05:55

الرّاعي: نأمل تتويج لبنان بنظام الحياد الإيجابيّ

تيلي لوميار/ نورسات
في أحد شفاء المخلّع، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في بكركي، حيث كانت له عظة بعنوان "مغفورة لك خطاياك... قم احمل سريرك واذهب إلى بيتك" (مر 2: 5 و11)، توقّف فيها عند الجانب الرّوحيّ لآية شفاء المخلّع، متطرّقًا إلى الشّأن الوطنيّ، وقال:

"1.تذكّر الكنيسة في هذا الأحد وطيلة الأسبوع آية شفاء مخلّع كفرناحوم. وقد حمله أربعة رجال إلى يسوع ليشفيه، فبادره يسوع بشفائه من شلل نفسه بالخطيئة، ثمّ من شلله الجسديّ، قائلًا له: "يا ابني مغفورة لك خطاياك... قم احمل سريرك واذهب إلى بيتك" (مر 2: 5 و11). هذا ما حصل بفضل إيمان الرّجال الأربعة. فقد تولّد إيمانهم من سماع كلمة الله الّتي كان يلقيها يسوع على الجمع الغفير في بيت سمعان بطرس في كفرناحوم. فانطلق الرّجال الأربعة ممتلئين إيمانًا بيسوع وحبًّا لذاك المشلول في بلدتهم. وإذ لم يستطيعوا الدّخول لكثرة الجمع، أملى عليهم إيمانهم أن يفتحوا سقف البيت ويدلّوا السّرير والمخلّع عليه إلى أمام يسوع، "فلّما رأى إيمانهم" (مر 2: 5)، أجرى شفاء المخلّع نفسًا وجسدًا، وكشف عن نفسه أنّه "طبيب الأرواح والأجساد".

2. يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا، لنحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة. مع ترحيب حارّ بحاكم مصرف لبنان الجديد الدّكتور كريم سعيد، مع تهانينا القلبيّة وتمنّياتنا بنجاحه في مهمّته هذه الصّعبة والدّقيقة. فإنّا نصلّي من أجلك ومن أجل نجاحك لخير لبنان واللّبنانيّين.

وأوجّه تحيّةً خاصّة إلى عائلة المرحوم الخورأسقف دومينيك الخوري طوبيا الأشقر، كاهن رعيّة سيّدة لبنان في واشنطن، وقد ودّعناه مع أهالي برمّانا العزيزة. نصلّي لراحة نفسه ولعزاء أسرته: شقيقاته، وعائلة المرحوم شقيقه، والمرحومة شقيقته. ونسأل الله أن يعوّض على الكنيسة بكهنة قدّيسين.

3. "الإيمان من السّماع، والسّماع من كلمة الله" (روم 10: 17). ويضيف بولس الرّسول: "كيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف يسمعون من دون مبشّر؟ وكلّ من يدعو باسم الرّبّ يحيا" (مر 10: 13).

زمن الصّوم هو زمن سماع كلام الله في الرّياضات الرّوحيّة في الرّعايا، وفي البرامج الدّينيّة عبر وسائل الاتّصال الاجتماعيّ، وعبر مطالعات نصوص من الكتاب المقدّس، فكلّ هذه الوسائل تغنينا بكلام الله، وتشدّد إيماننا فنعود إلى الله بالتّوبة عن خطايانا، ونحسّن مسلكنا، ونعيش فصحنا مع المسيح الّذي مات وقام لنموت معه عن خطايانا ونقوم معه لحياة جديدة. هذا هو جوهر عيد الفصح.

4. الكنيسة جماعة المؤمنين بالمسيح، تولد من سماع كلمة الله. ففي إنجيل هذا الأحد نقرأ: "اجتمع الكثيرون، وكان يلقي عليهم الكلمة" (مر 2: 2). هؤلاء الكثيرون كانوا نواة الكنيسة. كذلك نقرأ في كتاب أعمال الرّسل عن تكوين الكنيسة الأولى: "كانت كلمة الله تُعلن، وتنمو، وعدد التّلاميذ يتكاثر في أورشليم، وكان كثير من شعب اليهود ينصاع للإيمان" (أعمال 6: 7). وقال بهذا المعنى القدّيس أوغسطينوس: "إنّ الرّسل كرزوا بكلام الحقّ وولّدوا الكنيسة".

5. الإيمان باب الخلاص. المرأة النّازفة شفيت من نزيفها بقوّة إيمانها الّذي عبّرت عنه بلمس طرف ثوب يسوع. فقال لها: "تشجّعي يا ابنتي، إيمانك خلّصكٍ" (لو 8: 48). ليئيروس عندما بلغه خبر وفاة ابنته، قال له يسوع: "تشجّع، يكفي أن تؤمن فتحيا ابنتك". وهكذا صار (لو 8: 50). كذلك ذاك الأعميان اللّذان تبعا يسوع يصرحان: "ارحمنا يا ابن داود". فقال لهما: أتؤمنان أنّي قادر أن أفعل هذا؟ قالا له: "نعم يا ربّ". حينئذٍ فتح أعينهما قائلًا: "فليكن لكما بحسب إيمانكما" (متّى 9: 29).

6.المخلّع يمثّل كلّ إنسان، مخلّع في نفسه وروحه وقلبه بالخطيئة الّتي تخلّع العقل والإرادة والقلب. فالعقل المفطور على الحقيقة ينحرف إلى الكذب؛ والإرادة الموجّهة إلى الخير تنزع إلى الشّرّ؛ والقلب موطن الحبّ والحنان يتّسع للحقد والبغض. كلّ إنسان مصاب بشللٍ ما. وهو مدعوّ لاكتشافه والتّوبة عنه، والسّير في مسلك جديد.

ويمثّل المخلّع واقع الدّولة، إذ تعاني من شلل بسبب انتقاص السّيادة والتّدخّلات الخارجيّة الرّامية إلى إزكاء التّفرقة، وتعطيل الحياة السّياسيّة والدّيموقراطيّة، وتعاظم الدّيون، وتكاثر أعداد الفقراء، وتزايد قطاع البطالة، وركود الإنتاج الزّراعيّ والصّناعيّ وإغراقه في سوق السّلع الخارجيّة.

فمشكورة الدّول الصّديقة الّتي تساعد لبنان للشّفاء من شلله، مثل أولئك الرّجال الأربعة. فالوطن لا يقوم وينهض ويزدهر إلّا بتضافر جهود جميع أبنائه. فلكلّ دينه ومذهبه وطريقة تعبّده، لكنّ الوطن، مثل الله، للجميع.

7.إذا تطلّعنا إلى تحوّلات شعوب أوروبا الغربيّة بعد الحرب العالميّة الثّانية (1939-1945)، وشعوب أوروبا الشّرقيّة بعد خروجها من الاحتلال السّوفياتي بين سنتي 1989 و1991، نرى كيف استخلصت العبر من مآسيها. وكيف اجتمعت وتصالحت ونقّت ذاكرتها. وكيف تجرّأت وطالبت بتقرير المصير. وكيف نفضت عنها نزاعاتها الدّاخليّة لتنهض من جديد. وكيف خرجت من صراعاتها المناطقيّة والدّينيّة نحو المركزيّة. وكيف قضت على تيّاراتها العقائديّة المتطرّفة والعنصريّة. وكيف طلّقت ولاءاتها للغرباء والتزمت الإيمان بأممها. وكيف خرجت من منطق القوّة العسكريّة إلى منطق القوّة السّلميّة والاقتصاديّة.

إذا تطلّعنا نحو لبنان، ونظرنا كيف تصرّفنا بعد كلّ أزمة ومحنة وحرب واحتلال، لتعرّض إيماننا بوحدتنا الوطنيّة. وبدا لنا أنّ صراعاتنا تنافس إرادة العيش معًا وتعطبها، وأنّ ذهنيّة الكسب تتفوّق على ذهنيّة التّضامن، كأنّ لبنان مشروع مناصب لا مشروع دولة.

نحن نأمل بعد كلّ المستجدّات في المنطقة ولبنان، وفي خضمّ اهتمام الدّول الإيجابيّ بلبنان، وفي وجود رئيس للبلاد يصون الدّستور ويحمي الوحدة الدّاخليّة ويحظى بالثّقة الدّاخليّة والخارجيّة، أن يتحصّن الشّعب اللّبنانيّ والأحزاب بفلسفة إيجابيّة، وبنفسيّة متوقّدة وبشخصيّات ذات صدقيّة، وبتتويج لبنان بنظام الحياد الإيجابيّ، الّذي يمكّنه من إداء دوره في رسالة السّلام والحوار وحماية حقوق الشّعوب والحرّيّات العامّة واحترام كرامة الشّخص البشريّ والعيش المشترك المثاليّ بين المسيحيّين والمسلمين.

8. فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات، لكي يشفينا الله من شللنا الرّوحيّ والمعنويّ والجسديّ، ويمكّننا من النّهوض من ركام الحروب والنّزاعات إلى عالم أفضل. فنرفع نشيد المجد والشّكر للثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."