الفاتيكان
08 شباط 2020, 09:05

الرّاعي من روما: البطريرك الحويّك هو أوّل من طالب بالدّولة المدنيّة

جوزفين ضاهر الغول، نورسات، روما
في ذكرى عيد القدّيس مارون، وفي إطار البرنامج الاحتفاليّ بهذه المناسبة، نظّمت الوكالة البطريركيّة لدى الكرسيّ الرّسوليّ والمعهد الحبريّ المارونيّ والرّعيّة المارونيّة في روما، ندوةً حول المُكرَّم البطريرك الياس الحويك، برعاية وحضور البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، وبالتّعاون مع المؤسّسة المارونيّة للانتشار، وذلك في كنيسة مار مارون في روما.

تحدّث في هذه النّدوة كلّ من: أسقف الموارنة في باريس المطران ناصر الجميّل، سفير لبنان لدى الكرسيّ الرّسوليّ الدّكتور فريد الخازن، الرّئيسة العامّة لراهبات العائلة المقدّسة المارونيّات الأم أنطوانيت سعادة، الخوري الياس الحلو، وأدارتها أمل ضو.

وحضر النّدوة كلّ من سفيري أرمينيا وإيران لدى الكرسيّ الرّسوليّ غارن نازاريان، والدّكتور سايد طاها هاسهيمي، قنصل لبنان في إيطاليا كوين ماريل غياض، بطريرك السّريان الكاثوليك الإنطاكيّ مار اغناطيوس يوسف الثّالث يونان، بطريرك كاثوليكوس كليليكا للأرمن الكاثوليك كريكور بيدروس العشرون كيرويان، الوكيل البطريركيّ لدى الكرسيّ الرّسوليّ ورئيس المجلس الحبريّ المارونيّ المطران يوحنّا رفيق الورشا ونائبه الأب هادي ضو، عضو مجلس دعاوى القدّيسين المطران فرانسوا عيد، رئيس المؤسّسة المارونيّة للانتشار شارل الحاج ممثّلًا بالأمينة العامّة للمؤسّسة هيام البستاني، ورئيس مكتب روما ڤكتور طراد، رئيس المجلس الاغترابي في بلجيكا مارون كرم، الدّكتور جيلبير المجبر، العميد في الجيش اللّبنانيّ إميل نخلة، رئيس مكتب طيران الشرق الأوسط في روما مروان عطالله، ممثّلو الرّهبانيّات اللّبنانيّة المارونيّة في روما، وأبناء الرّعيّة، ومدعوّيين .

بعد صلاة الافتتاح، ألقت مديرة النّدوة كلمةً عن أهميّة هذا اللّقاء ودور المُكرَّم على كافّة الأصعدة.

ثمّ ألقى المطران الورشا كلمةً رحّب فيها بالحاضرين وشَكَرَ فيها البطريرك الرّاعي على رعايته، والمؤسّسة المارونيّة على تعاونها في إقامة هذه النّدوة، وقال: "بفرح وفخر كبيرين نستقبلكم في المعهد المارونيّ لنفكّر معًا بشخصيّة مهمّة في تاريخ الكنيسة المارونيّة، هي شخصيّة البطريرك الياس الحويّك، مُسلّطين الأضواء على أبعاد متعدّدة في حياته، على المستوى الشّخصيّ والإنسانيّ والرّوحيّ والكنسيّ والوطنيّ؛ بالإضافة إلى كلّ ما قدّم وحقّق في المجال الاجتماعيّ من أجل الخير العام في لبنان، ولخير الكنيسة في الشّرق، وفي أوروبا، والعالم .

وشخصيّة المُكرّم هي مذهلة، وقد تركت بصماتها في حقبة دقيقة من تاريخ لبنان، ولها دورًا رائدًا من النّاحية الكنسيّة والوطنيّة والسّياسيّة، بدون أن ننسى الدّور الحيويّ الذي قام به في هذا المعهد الحبريّ في روما.

ولا يجوز أن نتناسى العذابات التي واجهها بقوّة وحكمة ولإرادة صلبة، فاتحًا قلبه على السّماء ليُميّز الإرادة الإلهيّة؛ وفاتحًا قلبه على الآخرين بروح الإنفتاح والتّضامن والحوار. فالصّليب حاضر دائمًا في تاريخ الكنيسة المارونيّة، ولكن بالرّجاء الذي أعطانا إيّاه المسيح الذي غلب العالم، سنبلغ السّلام الحقيقيّ الدّائم والعادل. والتّاريخ يُعيد ذاته من نواحٍ عدّة، وما عاشه أجدادُنا عبر التّاريخ، نعيشه اليوم في لبنان وفي الشّرق الأوسط، من إرهاب ونزوح واضطّهادات وآلام .

وأحيرًا، ومن النّاحية الإنسانيّة والأُفقيّة، تبدو الأشياء معقّدة ولكن بعناية المسيح الرّبّ وبشفاعة قدّيسي لبنان، شربل ونعمة الله ورفقا، ومن خلال ذوي الإرادة الصّلبة يمكننا أن نتخطّى كلّ الصّعوبات، لأنّه من بعد الصّليب هناك المجد، وبعد الموت فجر القيامة.

وبدوره، استعرض المطران الجميّل، في مُداخلتِه، المراحل التّاريخيّة والسّياسيّة والدّينيّة التي طبعت شخصيّة المُكرَّم ودفعته إلى صقل رؤية سياسيّة وكنسيّة ثابتة.

ثمّ تحدّث عن مُلابسات إعادة تأسيس المدرسة المارونيّة الحديثة بدعم من البابا لاوون الثّالث عشر والبطريرك يوحنّا الحاج، وركّز على ما قام به البطريرك الحويّك في استنهاض نقمة الحكومة الفرنسيّة من جهة، وهِمّة الكنيسة الفرنسيّة أيضًا في ايجاد كنيسة للموارنة في باريس، وفي الحصول على مِنح دراسيّة للموارنة في إكليريكيّة سان سولبيس.

ولفت الجميّل إلى أنّ الياس الحويك لم يتوانَ عن الوقوف إلى جانب فرنسا عندما نكبت بالطّوفان سنة ١٩١٠، فطلب يومها من جميع الرّعايا المارونيّة جمع المُساعدات وإرسالها إلى ضحايا النّكبة.

وإختتم الجميل مُذكّرًا بالتّوأمة بين الأبرشيّات الفرنسيّة والمارونيّة وإيجابيّاتها، في خلال القرن التّاسع عشر، إضافةً إلى استقدام المُرسَلين والمُرسَلات ونشرهم للعلم والتّربية .

أمّا الخازن، فقد تناول في كلمته الظّروف الإقليميّة والدّوليّة التي رافقت ولادة لبنان الكبير، ودور البطريرك الحويّك، وجاء في كلمته: "إرتبط المُكرَّم  بالمرحلة الفاصلة بين 1918-1920، بعد انتهاء الحرب العالميّة الأولى وسقوط السّلطنة العثمانيّة وبروز طروحات جديدة لإنشاء كيانات دول في المنطقة. وكان لفرنسا وبريطانيا طروحات متنوّعة وسياسات مُتقلِّبة على رغم اتّفاق سايكس بيكو في 1916 الذي أَعيد النّظر به بعد انتهاء الحرب.

أمّا دور البطريرك الحويّك، فكان مِحوريًّا قبل وبعد عرضه المطالب في مؤتمر السّلام في باريس، مُترئّسًا الوفد اللّبنانيّ الثّاني في 1919، ومقابلته رئيس الحكومة الفرنسيّة كليمونسو. وبالنّسبة إلى البطريرك الحويّك، إنّ نشوء كيان دولة مستقلّة عن أيّ طروحات أخرى كانت متداولة آنذاك تأتي في سياق تاريخيّ نشأ مع نظام المُتصرِّفيّة في 1861 وعكس ركائز القضيّة اللَّبنانيّة التي أرادها البطريرك تعبيرًا عن المساواة بين مُكوّنات المجتمع اللُّبنانيّ. وخلافًا للمُطالبات الأخرى، تميّز موقف البطريرك بثباته وبمتابعة حثيثة، في مرحلة حافلة بالتّناقضات في سياسات الدّول الكبرى، وفي الأوضاع غير المُستقرِّة في المنطقة.

وقد واجه لبنان الكبير اعتراضات داخليّة استمرّت حتّى أواخر الثلاثينيات، لكن سرعان ما بدأت تتلاشى مع إقرار الدّستور في 1926، وأثمر التّقارُب الدّاخليّ فيما بعد الإستقلال المُتلازم مع الميثاق الوطني في 1943.

ولبنان الذي نشأ عام ١٩٢٠ رفعه البابا يوحنّا بولس الثّاني إلى مصاف الرّسالة في ما يخُصُّ الحريّات والتّعدُّديّة عام ١٩٨٩؛ وهذا ما أرادهُ البطريرك الحويّك قبل نحو قرن .

وتحدثت سعادة عن روحانيّة البطريرك الحويّك ورؤيته النّبويّة الكنسيّة، مُستشهدةً بما قاله الخوري منصور عوّاد مُعاصر الحويّك وكاتب حياته "إنّ سرّ نجاح الحويّك في كلّ إنجازاته يَكمُن بلا شكّ من اتّحاده العميق بالله ومن محبّته له، من حياة صلاة ورغبة بالاتّحاد بالله وتتميم مشيئته والبحث عن رضاه، من روحانيّة البُنوَّة للآب، والتّسليم لعنايته الإلهيّة، وطواعيّته لعمل وإلهامات الرّوح القدس".

وأكّدت سعادة أنّ الحويّك "كان رجل المحبّة بلا حدود، نبيّ عصره بالغيرة على كنيسته وعلى إخوته في الوطن بدون تفرقة بين الأديان والجنسيّات.

وإنّ أبرز ما عُرف به الحويّك، أنّه الواعظ والرّاعي وخادم الفقراء، محامي العائلة ومؤسّس جمعيّة راهبات العائلة المُقدّسة المارونيّات، مُجدِّد الكنيسة المارونيّة السّاهر على تنشئة كهنتها ورهبانها، رجل الانفتاح والحوار والوحدة، ومؤسّس دولة لبنان الكبير.

وأدعو الجميع إلى الصّلاة لكي يَمنُّ الله، في هذه الظّروف الصّعبة بواسطة الحويّك، شفيع العائلة والوطن، على لُبنانِنا بالسّلام والازدهار، وعلى عائلاتنا وكنيستنا بالقداسة التي تُرضي الله."

ومن جهته، تناول الحلو دور الياس الحويّك والمدرسة المارونيّة الرّومانيّة الجديدة؛ مُشيرًا إلى الجهود الكبيرة التي بذلها المُكرّم من أجل إعادة إحياء المدرسة المارونيّة في روما، وقد تكبّد لأجل ذلك عناء السّفر مرارًا إلى إيطاليا وزيارة الآستانة ودولًا أوروبيّة سعيًا وراء تمويل المشروع الذي كلّفه به البطريرك، ليتعمّق فيها موارنة في التّعاليم الدّينيّة، ويتعرّفوا على لغّات الغرب ويتقنوها.

وقال الحلو: "لم يقتصر اهتمام الحويّك على إعادة إحياء المدرسة المارونيّة في روما، بل تابع أمورها الإداريّة والرّوحيّة بعد افتتاحها، وهو في كلّ هذا على تعاون دائم مع البابا والبطريرك وبعض الكرادلة وآخرين كانوا مُهتمّين بهذا المشروع الحلم.

وإنّ اهتمامالمطران الحويّك بالمدرسة لم يتوقّف عند اختياره بطريركًا عام ١٨٩٩، بل تابع جهوده ورعاها بكثير من عنايته وأُبوّتِه.

وفي الختام ألقى البطريرك الرّاعي كلمةً، أعرب فيها عن سرورِه لِما قيل عن المُكرَّم في هذه النّدوة، ومُتحدِّثًا عن أربع نقاط في سيرة حياة البطريرك الحويّك: الوجه الرّوحيّ، الثّقافة والتّربية، الخدمة الاجتماعيّة، والشّأن الوطنيّ، فقال:

"إنّ قوّة البطريرك الحويك كانت بروحانيّته، وهو يدعونا اليوم كلُبنانيّين لأن نفتح المجال لله في قلوبنا والعمل بالرّوح القدس لكي تتغيّر النّظرة والقراءة، كما وأن نخرُج من ذاتِنا لنرى الأمور بطريقةٍ أفضل.

والمعروف أنّ قيمة الشّعوب تكمُن بثقافتها، فالشّعب الذي لا يمتلك الثّقافة هو شعب من دون هويّة. والثّقافة الرّوحيّة والعلميّة كانت من أساسات ودعائم وميزات لبنان، وللأجيال الطّالعة نقول إنّ قوّتنا هي بثقافتنا وتربيتنا .

وعندما حصلت المجاعة الكبرى، حصلت في عهد البطريرك الحويّك، وأبادت مئتي ألف مواطن لبنانيّ، ففَتَحَ أبواب بكركي أمام النّاس مُتّكِلًا على العناية الإلهيّة ورهن كلّ شيء في سبيل خدمة الغير، وعِلمِنا أنّنا عندما نكون أسخياء في العطاء وفعل الخير، لا نصل يومًا إلى الإفلاس بل إلى الغنى الأكبر. لذلك نحن مدعوّون اليوم في لبنان لأن نفتح أيدينا، كلّ حسب إمكانيّاتِه، لمساعدة إخوتِنا كي لا يموت أحد منهم من الجوع .

وإنّنا في لبنان اليوم نعيش حالة ضياع على الصّعيد الوطنيّ، وهنا أُحيّي الحراك المدنيّ الذي يُطالب بالدّولة المدنيّة؛ فهل يعرف هذا الحراك أنّ البطريرك الحويّك هو أوّل من طالب بالدّولة المدنيّة يومَ قال إنّ في لبنان يوجد طائفة واحدة إسمها لبنان وكلّ الطّوائف الأخرى هي المكوّنات لهذا اللُّبنان؟

وهذا يعني أنّ لبنان بأساسه هو دولة مدنيّة والإنتماء إليه هو بالمواطنة وليس بالطّائفة والدّين. وإنّ الميثاق الوطنيّ أعطى روحًا لهذا المفهوم وللدّستور، في العيش معًا مسيحيّين ومُسلمين بالاحترام والتّعاون المُتبادل. ولكن، للأسف هذا المفهوم بدأ يزحل حتّى أصبح لبنان بلد الطّوائف، وأصبح الانتماء إلى لبنان من خلال الطّائفة والمذهب؛ واليوم وللأسف أصبح من خلال الحزب ورئيسه .

وعلى الحراك المدنيّ، الذي يُطالب بالدّولة المدنيّة، أن يُطالب باستعادة هذه الدّولة واستكمالها باللّامركزيّة الإداريّة الموسّعة ومجلس الشّيوخ، وعندها فلتُلغى المادّة ٩٥ من الدّستور، والتي لا أحد مُتعلّق بها، فالمُكرَّم النّبيّ البطريرك الياس الحويّك أرسى أساسات هذا الوطن، فلنعُد إليه وتُحلّ عندها كلّ الأمور عند الكبار والصّغار، فعلينا إزالة الغُبار عن هذه الحقيقة الموجودة وعن هذه الجوهرة الثّمينة التي أنشِأت في لبنان ليعود ويَطهُر الذّهب جليًّا من جديد .

وإنّ دعوة تطويب البطريرك الحويّك وصلت إلى نهايتها، والكنيسة أعلنت أنّه عاش ببطولة الفضائل الإلهيّة والرّوحيّة والإنسانيّة، ويبدو أنّ هناك أُعجوبة ستقدم من أجل تطويبه، ونحن نُصلّي ونأمل في مئويّة لبنان الكبير أنّ هذه السّنة، سنة تطويبه، ليعود ويعطي قيمة أكبر لهذا الوطن الجريح لبنان ."

بعذ ذلك، قدّم البطريرك الرّاعي والمطران الورشا مُجسّم البطريرك الحويّك للمنتدين وللبطريركين يونان وبيدروس العشرون ولممثّلي الرّابطة المارونيّة .