لبنان
17 آب 2020, 05:00

الرّاعي من الدّيمان: كلّ مشروع تسوية على حساب لبنان مرفوض وسنواجهه

تيلي لوميار/ نورسات
صلّى البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، من كنيسة الدّيمان خلال قدّاس الأحد، من أجل لبنان في الأحد الثّاني بعد كارثة انفجار مرفأ بيروت، الأحد الثّاني عشرة بعد العنصرة، دعا خلاله اللّبنانيّين إلى الثّبات بإيمانهم على ضوء إنجيل إيمان المرأة الكنعانيّة، فقال في عظته:

"كشفَ الرّبُّ يسوع للجميع إيمان المرأة الكنعانيّة، الّتي صمدَت في إيمانها بأنّ يسوع قادرٌ على شفاء ابنتها، على الرّغم من سوء المعاملة الّتي لقيتها لديه. إنّها محنة الإيمان الّذي يبقى ثابتًا بقوّة الرّجاء والمحبّة. بفضل هذا الإيمان لدى المرأة الكنعانيّة أغدقها المسيح بوافر رحمته، وقال لها: "أيّتها المرأة، عظيمٌ إيمانكِ! فليكن لكِ كما تريدين! وللوقت شُفيت ابنتها" (متّى 28:15).

ها نحن في الأحد الثّاني بعد كارثة انفجار مرفأ بيروت في 4 آب الجاري، الّذي أوقع الكثير من الضّحايا: بين موتى وجرحى ومفقودين ومنكوبين ومشرّدين؛ وهدَّمَ أو ألحقَ الكثير من الأضرار في المنازل والمدارس والجامعات ودور العبادة والمستشفيات والمؤسّسات العامّة والخاصّة التّجاريّة والصّناعيّة والسّياحيّة. إنّنا نذكرهم جميعًا في هذه اللّيتورجيا الإلهيّة، طالبين لهم تجلّي رحمة الله وتعزياته. وأردّد لهم كلمة الرّبّ يسوع: "لا تخافوا!".

وأودّ أن أوجّه من جديد كلمة الشّكر والامتنان للدّول الّتي هبّت من كلّ صوب لمساعدة اللّبنانيّين المتضرّرين بمختلف الأنواع، بالإضافة إلى المبادرات اللّبنانيّة من أفراد محسنين ومؤسّسات اجتماعيّة وإنسانيّة يدعمها ماليًّا محسنون لبنانيّون في الوطن و في الخارج. وأُثني بالتّقدير على الشّبّان والشّابّات الّذين تطوّعوا لمساعدة السّكّان المنكوبين، وتنظيف الشّوارع، وتوزيع الحصص الغذائيّة. كافأهم الله جميعًا بفيضٍ من نعمه وبركاته.

يبان لنا من إنجيل اليوم أسلوب الرّبّ يسوع التّربويّ. عندما سمع المرأة الكنعانيّة، غير اليهوديّة، بل الوثنيّة، تناديه باسمه البيبليّ: "يا ابن داود، ارحمني، إنّ ابنتي بها شيطانٌ يعذّبها جدًّا" (متّى 22:15)، ما يعني: "أيّها المسيح الآتي من سلالة داود أنت الحامل رحمة الشّفاء للبشريّة المتألّمة"، سقطَ نداؤها الموجوع في صميم قلبه. فأدركَ أنّ هذه المرأة تتميّز بإيمانها عن كلّ الجمع المرافق له. ولذلك أراد امتحانها، يقينًا منه أنها ستصمد. فكان كذلك.

إمتحنها بثلاث:

عدم الاكتراث لوجعها إذ "لم يُجبْها بكلمة"، وواصل طريقه كأنّ شيئًا لم يكن.

التّمييز العنصريّ بإعلانه للتّلاميذ: "لم أُرسَل إلّا للخراف الضّالّة من بيت إسرائيل"، وبالتّالي الكنعانيّون هم خارج نطاق رحمته.

الإساءة لكرامة ابنتها، إذ لمّا جاءت المرأة وسجدت أمامه متوسّلة: "ساعدني يا ربّ!"، أجابها بكلامٍ جارحٍ للكرامة: "لا يَحسُن أن يؤخذ خبز البنين، ويُلقى إلى جراء الكلاب".

أمّا هي فانتصَرَت بإيمانها الثّابت بالرّجاء والحبّ الاحتراميّ ليسوع، إذ أجابت: "نعم، يا ربّ، وجِراءُ الكلاب أيضًا تأكل من الفتات المتساقط عن مائدة أربابها!".

فما كان من يسوع إلّا أن أعلن إيمانها الكبير أمام الجمع كلّه، وغمرَها برحمته إذ قال: "عظيمٌ إيمانكِ، أيّتها المرأة! فليكن لكِ كما تريدين! ومن تلك السّاعة شُفيت ابنتها". إنّه اللّقاء بين إيمان الإنسان ورحمة الله.

هي أمثولةٌ لنا رائعة في كيفيّة الانتصار على محنة الإيمان، بالثّبات في رجائنا بالمسيح، فادي الإنسان ومخلّص العالم. وها هو يدعونا في مكانٍ آخر إلى هذا الثّبات في الرّجاء: "سيكون لكم في العالم ضيق. لكن ثقوا، أنا غلبتُ العالم" (يو 33:16 ).

أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء،

شعب لبنان يمرّ في محنةٍ قاسية، بدأت سياسيّة فاقتصاديّة وماليّة ومعيشيّة، وتفاقمت مع انتشار وباء كورونا، ثمّ بلغت ذروتَها بانفجار مرفأ بيروت. وعبّر الشّعب عن وجعه بثورةٍ محقّة نحن باركناها منذ 17 تشرين الأوّل الماضي. ولكنّنا أدنّا تسلّل المخرّبين في صفوفها، وأسفنا كلَّ الأسف لتصادمها مع الجيش والقوى الأمنيّة حتّى أنَّ هذه استعملَت سلاحًا مؤذيًا وجارحًا لأجساد المتظاهرين، خلافًا لكلّ قانون وعرف دوليّين.

إنّنا ندعو القوى الأمنيّة إلى احتضان وحماية شابّات وشباب لبنان الثّائرين. فلا أمن بدون حرّيّة. ولا سلطان بدون شعب. حين يثور شعبٌ لا يعود إلى بيوته بعد تسوية بل بعد حلّ. وكلّ مشروع تسوية على حساب لبنان مرفوض وسنواجهه. وهذا ما فعلَت البطريركيّة في كلّ مرّة كان لبنان في خطر. ولبنان اليوم يواجه أعظم الأخطار. ولن نسمح بأن يكون ورقة تسوية بين دول تريد ترميم العلاقات فيما بينها، على حساب آلام الشّعب اللّبنانيّ.

ونهيب بالسّلطة السّياسيّة بأن تفسح في المجال أمام الطّاقات اللّبنانيّة القديرة والوطنيّة الجديدة والنّزيهة لكي تشارك في استعادة لبنان شرعيّته الوطنيّة وثقة العالم به. كيف يمكن إعطاء الثّقة لأيّ حكومة لا تتبنّى الخيارات الوطنيّة، أو توفير تغطية لمشاركة هذا الفريق أو ذاك خارج الثّوابت الوطنيّة؟

هل يدرك المسؤولون السّياسيّون والكتل النّيابيّة والأحزاب خطورة حجب الثّقة الدّوليّة عنهم، سلطةً تشريعيّة وإجرائيّة وإداريّة وعدليّة، ووجوب البدء فورًا بالتّغيير، مسرعين إلى إجراء انتخابات نيابيّة مبكّرة، من دون التّلهّي بسنّ قانون جديد، وإلى تأليف الحكومة الجديدة، كما يريدها الشّعب، الّذي هو "مصدر السّلطات" (مقدّمة الدّستور)، ويحتاجها واقع لبنان اليوم.

فالشّعب يريد حكومةً تَنقُض ولا تُكمِل. تنقض الماضي بفساده الوطنيّ والأخلاقيّ والمادّيّ، تنقض الأداء والسّلوك والذّهنيّة. الشّعب يريد حكومة إنقاذ لبنان لا إنقاذ السّلطة والطّبقة السّياسيّة. الشّعب يريد حكومةً منسجمة معه لا مع الخارج، وملتقية في ما بين مكوّناتها حول مشروع إصلاحيّ. والإصلاح الّذي نفهمه ليس إصلاحًا إداريًّا فقط، بل إصلاح القرار الوطنيّ بأبعاده السّياسيّة والأمنيّة والعسكريّة. الشّعب يريد أن يكون التّمسّك بالثّوابت والمبادئ الوطنيّة، والإقرار بسلطة الشّرعيّة دون سواها، كأساس المشاركة في الحكومة.

وليعلم الجميع أنّ لا حكومة وحدة وطنيّة من دون وحدة فعليّة؛ ولا حكومة إنقاذ من دون شخصيّات منقذة. ولا حكومة توافق من دون اتّفاق على الإصلاحات. إنّنا نريد مع الشّعب حكومةً للدّولة اللّبنانيّة، وللشّعب اللّبنانيّ، لا حكومة للأحزاب والطّوائف والدّول الأجنبيّة.

أيُّها الإخوة والأخوات الأحبَّاء،

فلنصلِّ، كما يدعونا الرّبُّ يسوع، لئلاّ نسقط في التّجرية، بل لكي نتجاوز المحنة الصّعبة بالإيمان والتّضامن وبوحدتنا الدّاخليّة. ومعًا نرفع نشيد المجد والتّسبيح للآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."