لبنان
18 تشرين الأول 2021, 05:00

الرّاعي مستنكرًا أحداث الخميس: المسّ بالسّلم الوطنيّ وبحسن الجوار الأخويّ مرفوض أيًّا يكن مصدره

تيلي لوميار/ نورسات
متذكّرًا ما حدث الخميس في الطّيّونة، أكّد البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي في عظته خلال قدّاس الأحد الّذي ترأّسه في بكركي، أنّ شباب لبنان ليسوا "للتّقاتل بل للتّآخي. ليسوا للقتل والموت بل للنّموّ والحياة. ليسوا للتّباعد، بل للحوار. ليسوا للتّجاهل، بل للتّعارف". وألقى في هذا السّياق عظة تحت عنوان "صارت الصّيحة هوذا العريس آت، اخرجوا للقائه" (متّى 25: 6)، قال فيها:

"1. مثل العذارى العشر يشرح مجيء الرّبّ يسوع المثلّث: الأوّل مجيئه بالمجد في نهاية الأزمنة. الثّاني مجيئه في حياتنا اليوميّة، وهو حاضر في الكنيسة، ويواصل رسالته من خلالها، وهي جسده، ومن خلال أبنائها وبناتها أعضاء جسده. الثّالث مجيئه عند ساعة موت كلّ واحد منّا.

المطلوب أن يكون الإنسان في حالة الانتظار بالتزامه الواجب اليوميّ تجاه الله والذّات والعائلة والمجتمع. إنتظار مجيء الرّبّ اليوميّ يقتضي الاستنارة بكلامه ومثله، وبإلهامات الرّوح القدس، وباكتشاف إرادة الله، في كلّ عمل وقول ومبادرة وموقف. إنتظار مجيئه عند ساعة الموت يقتضي العيش في حالة اتّحاد دائم مع الله، والنّهوض من سقطات الخطيئة بواسطة سرّ التّوبة والمصالحة، والمشاركة في ذبيحة القدّاس وتناول جسد الرّبّ ودمه. إنتظار مجيئه بالمجد في نهاية الأزمنة يقتضي العمل الدّائم على نشر إنجيل الحقيقة والمحبّة، وبناء مدينة الأرض على العدالة والسّلام، وجعل المجتمع البشريّ أكثر إنسانيّة وفي حالةٍ أفضل.

2. يطيب لي أن أرحّب بكم جميعًا، وأن أوجّه عاطفة تعزية إلى عائلة المرحوم سامي كحّالي الّذي ودّعناه بالأسى الشّديد والصّلاة مع زوجته وأولاده وعائلاتهم والأنسباء منذ ثلاثة أشهر. نصلّي لراحة نفسه وعزاء أسرته. إنّه صديق عزيز تعاونت معه عندما كنت كاهن رعيّة أدونيس- زوق مصبح. فترك هو وعائلته في قلبي ذكرًا طيّبًا. كما أوجّه عاطفة تعزية إلى عائلة المرحومة هيلانه طوبيا سلامه، أرملة المرحوم جورج شاهين الأشقر، الّتي ودّعناها بالأسى والصّلاة مع ابنيها وابنتها وعائلاتهم، ومع أحفادها وشقيقاتها وعائلاتهم. نصلّي لراحة نفسها وعزاء أسرتها. لقد عرفناها مع عائلتها وأنسبائهم من خلال عمّها المثلّث الرّحمة المطران يوسف سلامه رئيس أساقفة حلب، ونجلها عزيزنا بيار نقيب أصحاب الفنادق.

3. نحتفل بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة وفي القلب غصّة لما جرى الخميس الماضي الرّابع عشر من الشّهر الجاري في محلّة الطّيّونة وعين الرّمانة الّذي أوقع ضحايا وجرحى. فإنّا نتقدّم بالتّعازي الحارّة من عائلات الضّحايا، وندعو بالشّفاء للجرحى. وفي الوقت عينه نستنكر أشدّ الاستنكار هذه الأحداث وما رافقها من مظاهر مسلّحة استعملت بين الإخوة في الوطن الواحد.

ليس شباب لبنان للتّقاتل بل للتّآخي. ليسوا للقتل والموت بل للنّموّ والحياة. ليسوا للتّباعد، بل للحوار. ليسوا للتّجاهل، بل للتّعارف. الشّباب المسيحيّون مدعوّون هم أيضًا ليعرفوا حقيقة الإسلام وإيمانه وقيمه، والشّباب المسلمون مدعوّون ليعرفوا حقيقة المسيحيّة وإيمانها وقيمها. هذا هو جوهر العيش المشترك الّذي يشكّل ميزة لبنان ورسالته، والتّعدّديّة في الوحدة ثقافيًّا ودينيًّا.

فلنسهّل لشباب لبنان المسيحيّين والمسلمين عيش فرح الحياة، وتحقيق ذواتهم وأحلامهم بما حباهم الله من مواهب وفكر وقيم وإمكانيّات وروح مواطنة. ما أجملهم عائلة واحدة على تنوّعهم في ذاك 17 تشرين عندما بدأوا ثورتهم الحضاريّة الخلّاقة. وما أمرّ هذه الذّكرى السّنويّة الثّانية اليوم الّتي يلفّها الحزن والحداد وتفكّك أوصال وحدتهم في التّنوّع.

4. عائلات لبنان، بكبارها وشبابها وأطفالها، تعذّبت وبكت بما فيه الكفاية، وما زالت تنتظر لتفرح بمستقبل أفضل وبالاستقرار. من أجل هذه الغاية كانت الثّورة إذ بدا للشّعب اللّبنانيّ فشلُ الجماعةِ السّياسيّةِ في نقلِ لبنانَ من التّوتّرِ إلى الاستقرار، ومن الهيمنةِ إلى الاستقلال، ومن الفسادِ إلى النّزاهة، ومن القلقِ على المصير إلى الثّقةِ بالمصير، ومن الحوكمةِ الرّديئةِ إلى الحوكمةِ الرّشيدة. إنتفض الشّعبُ بكلِّ فئاتِه ومناطقِه وأجيالِه وطالَب بدولةٍ صالحة، وبشرعيّةٍ فاعلة، وبإصلاحاتٍ عميقة، وبجيشٍ واحِد، وبقرارٍ وطنيٍّ واحد. وبَدَت الثّورةُ في بداياتِها شفّافةً وسلميّةً وحضاريّةً ومتَّحِدة. ونحن كنّا منذ اليوم الأوّل ولا نزال إلى جانبها؛ فإنيّ أتوجّه إلى شبيبة لبنان بالقول: "عبّروا عن إرادتِكم في الانتخاباتِ النّيابيّةِ المقبلة واختاروا الأفضلَ والأشْجعَ والأقدرَ على أن يوفِّر لكم التّغييرَ المنشود، والثّقةَ بوجود حرّ".

5. لقد وفّر لنا النّظامُ الدّيمقراطيُّ وسائل سلميّةٍ للتّعبيرِ عن الرّأي قَبولًا أو رفضًا، تأييدًا أو معارضة. وبالتّالي لا يَجوزُ لأيِّ طرفٍ أن يلجأَ إلى التّهديدِ والعنفِ، وإقامةِ حواجزَ حزبيّةٍ أو عشائريّةٍ على الطّرقِ العامّة، لينال مبتغاه بالقوّة. إنَّ المسَّ بالسّلمِ الوطنيِّ وبحسنِ الجوارِ الأخويِّ مرفوض أيًّا يكن مصدره. نرفض أن نعودَ إلى الاتّهاماتِ الاعتباطيّة، والتّجييشِ الطّائفيّ، والإعلامِ الفتنويِّ. نرفض أن نعودَ إلى الشّعاراتِ الجاهزة، ومحاولاتِ العزل، وتسوياتِ التّرضية. نرفض أن نعودَ إلى اختلاقِ الملفّات ضِدَّ هذا الفريق أو ذاك، واختيارِ أناسٍ أكباشَ محرَقة، وإحلالِ الانتقامِ مكانَ العدالة.

لقد نذرنا أنفسَنا من أجلِ تعزيزِ روحِ المحبّة والشّراكةِ بين جميع اللّبنانيّين، وندعو جميعَ الأفرِقاءِ إلى التّلاقي لقطعِ دابرِ الفِتنة. ونؤيّد ما جاء في كلمةِ فخامةِ رئيس الجمهوريّة حين أعلن أنّه "يرفضُ التّهديدَ والوعيد، وأخْذَ لبنانَ رهينة، وأكّد تمسَّكَه بالتّحقيقِ العدليِّ، وحَذّرَ من إعادةِ عقاربَ السّاعةِ إلى الوراء".

6. فلنحتكم في خلافاتنا إلى القانون والقضاء، ونمحّضهما ثقتنا، ولنحرّر القضاء من التّدخّل السّياسيّ، والطّائفيّ والحزبيّ ولنحترم استقلاليّته وفقًا لمبدأ الفصل بين السّلطات، ولندعه يصوّب ما وجب تصويبه بطرقه القضائيّة. ما من أحد أعلى من القضاء والقانون. وحدهما كفيلان بتأمين حقوق جميع المواطنين، فالقانون شامل والقضاء شامل. إنّ الثّقة في القضاء هي معيارُ ثقةِ العالم بدولةِ لبنان. والتّشكيكُ المتصاعِدُ في القضاءِ منذ فترةٍ لم يَنل من القضاءِ فحسب، بل من سُمعة لبنان أيضًا، إذ أجْفلَ الدّولَ المانحةَ والشّركاتِ الّتي كانت تَنوي الاستثمارَ في المشاريعِ الّتي يُتّفق عليها مع صندوقِ النّقدِ الدُوَليِّ والبنكِ الدّوليّ. إنَّ هذه الحربَ الممَنْهَجةَ على جميعِ مؤسّساتِ الدّولةِ تَدفعنا إلى التّساؤل: ماذا يريد البعضُ بَعدُ من لبنان ومن شعبِ لبنان؟ ألا يكفي الانهيارُ الماليُّ والاقتصاديّ؟ ألا تكفي رؤيةُ اللّبنانيّين، جميعِ اللّبنانيّين، أذِلّاءَ ومقهورين ومشتَّتين ومهجَّرين ومهاجِرين؟  

7. إنّنا ندعمُ دورَ الجيشِ في الحفاظِ على الأمنِ القوميّ، وقد نجحَ في الأيّامِ الأخيرةِ في حصرِ مناطق الاشتباك، ومنعِ توسُّعِ الاعتداءِ على الأحياءِ السّكنيّةِ الآمنة. لقد أظهرَ الجيشُ اللّبنانيّ أنَّ القوّةَ الشّرعيّة، بما تُمثّلُ من أمنٍ، هي أقوى من أيِّ قوّةٍ أخرى مع كلّ ما تُمثّل من إخلال بالأمن. وفي هذا الإطار، إنّ الحكوماتِ موجودةٌ لمواجهةِ الأحداث. فمجلسُ الوزراء الّذي أصبحَ مع دستورِ الطّائف مركزَ السّلطةِ الإجرائيّة يَجدُر به أن يجتمعَ ويؤكّدَ سلطةَ الدّولة ويَتّخِذَ القراراتِ الوطنيّة اللّازمة، ويجدر بكلّ وزير احترام هذه السّلطة، وممارسة مسؤوليّتهم بإسم الشّعب اللّبنانيّ لا بإسم نافذين.

8. لا يجوزُ الاستقواء بعضِنا على بعض لأنَّ الاستقواءَ ليس قوّة، ولأنّ القوّةَ لا تخيفُ المؤمنين بلبنان. لا يوجد ضعيفٌ في لبنان، فكُلّنا أقوياءُ بإرادةِ الصّمودِ والدّفاعِ عن النّفس، وعن أمنِنا وكرامتِنا وخصوصيّتِنا. كلُّنا أقوياءُ بحقِّنا في الوجودِ الحرّ وبولائِنا للوطنِ من دون إشراك. كلُّنا أقوياء بفعلِ ما يمثّل لبنان من حقيقةٍ تاريخيّةٍ وجغرافيّةٍ وحضاريّة لا يَقوى عليها أحد. في لبنان، وحدَه الحوارُ يؤدّي إلى الانتصارِ وإنقاذِ الشّراكةِ الوطنية، ووحدَه الاستقواءُ يؤدّي إلى الهزيمةِ وتَرنّحِ الشّراكةِ الّتي نَتمسَّكُ بها في أطرٍ حديثةٍ ترتكزُ على اللّامركزيّةِ الموسَّعةِ، والحيادِ، والتّشريعِ المدنيّ، والشّراكةِ في التّعدّديّة، والانفتاحِ على العالم والثّقافة.  

9. "هوذا العريس آتٍ، اخرجوا للقائه" (متّى 25: 6). العريس ليس فقط المسيح الآتي بمجيئه المثلّث. بل هو أيضًا وطننا لبنان، وشعبنا اللّبنانيّ.الآتيان من المحنة. فلنخرج كلّنا للقائهما بمصابيح مضاءة: مصباح العقل المضاء بزيت الإيمان لمعرفة حقيقة لبنان وقيمته ورسالته، وتحريرها من أيّ تضليل؛ ومصباح الإرادة المضاء بزيت الرّجاء والثّبات في حماية لبنان وشعبه وإنمائه مهما كانت المصاعب والمحن؛ ومصباح القلب المضاء بزيت المحبّة تجاه لبنان وكلّ الشّعب اللّبنانيّ، الّتي تعيد للعائلة الوطنيّة اللّبنانيّة جمال عيشها، معًا في بيتنا المشترك "لبنان".

إستجب يا ربّ دعاءنا هذا لمجدك وتسبيحك أيّها الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."