لبنان
28 أيلول 2020, 05:00

الرّاعي محذّرًا: أصبحت البلاد أمام أخطار متعدّدة

تيلي لوميار/ نورسات
في الأحد الثّاني من زمن الصّليب، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ، في كنيسة الدّيمان، حيث ألقى عظته على ضوء الآية الإنجيليّة "الحقّ أقول لكم: لن يُترك حجر على حجر إلّا ويُنقض" (متّى 24/ 2)، فقال:

"نبوءة يسوع عن خراب هيكل أورشليم، تحقّقت على يد الرّومان سنة 70. فتوقّفت نهائيًّا تقدمة الذّبيحة وأفعال العبادة، وأصبح الهيكل قلعةً، ولم يبقَ منه حتّى يومنا سوى "حائط المبكى". نبوءة يسوع هذه استبقتها علامة واضحة، فعندما أسلم الرّوح مصلوبًا، "انشقّ حجاب الهيكل إلى شطرين، من فوق إلى تحت" (متّى 27: 50-51). ما يعني أنّ الهيكلَ فقد مبرّر وجوده، كمكانٍ لقاء مع الله بالذّبيحة والصّلاة. لأنّ الشّعب قتل ربَّ الهيكل.

هذه عبرةٌ لجميع النّاس، وعلى الأخصّ لحكّام الدّول والجماعة السّياسيّة الّتي تتولّى خدمة شؤون المواطنين من أجلِ خيرهم العامّ وخير كلّ مواطن. فإذا وضعوا الله جانبًا، ماذا يصبح المواطنون؟ يصبحون كما عندنا في حالة إهمال، وفقر، وحرمان، وظلم، وهجرة. وفي أيّ حال تصبح الدّولة؟ تصبح كما عندنا في تفكّك مؤسّساتها الدّستوريّة وأوصالها، وفي حالة نفوذ واستقواء وفرض شروط بين مكوّنات الوطن، خلافًا لنظام لبنان السّياسيّ الّذي هو ديموقراطيّ وتعدّديّ ثقافيًّا ودينيًّا، ومنفتح على الدّول شرقًا وغربًا بتواصلٍ وتعاونٍ وتبادلٍ، مع حفظ سيادته بعيدًا عن النّزاعات والأحلاف والحروب، وحياديّ ناشط بحكم هويّته وطبيعته من دون نصٍّ قانونيّ، داخليٍّ أو إقليميٍّ أو دوليّ، كما في السّنوات الخمسين الأُول من حياته كدولة قائمة بذاتها.

نلتقي للاحتفال معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، ونحن مع كلّ شعبنا في حالة قلق بسبب تفشّي وباء كورونا بشكلٍ مخيف، وتداعيات انفجار مرفأ بيروت، واشتداد الأزمة الاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة الخانقة، وفوق كلّ ذلك إفشال تأليف حكومة جديدة كما كان يريدها الشّعب والعالم منقذة تكنوقراطيّة، غير مسيّسة، فاعلة، وقادرة على اجراء الإصلاحات والبدء بعمليّة النّهوض الاقتصاديّ والماليّ والاجتماعيّ. وبكلّ أسف الخراب يكتفي بلحظة وبتحجّر في المواقف، أمّا البناء فيقتضي سنوات من العمل بتجرّد وتواضع وبذل.

إنّ المسيح الحاضر معنا في سرّ محبّته القربانيّة لن يتركنا فريسة الألم والظّلم والقلق والحرمان، ولا فريسة "تجّار السّياسة" كما سمّاهم المغفور له الرّئيس فؤاد شهاب.

يسعدني أن أحيّي جميع الحاضرين معنا، وبخاصّة الرّابطة المارونيّة، رئيسًا وهيئة تنفيذيّة وأعضاء، ومؤسّسة المقدّم المغوار الشّهيد صبحي العاقوري الّتي أسّستها زوجته السّيّدة ليا إحياءً لذكراه وذكرى شهداء الجيش اللّبنانيّ، تحت شعار "للهِ رجال، إن هم أرادوا أرادَ". نحيّيها مع أولادها الأربعة ومعاونيها. تُعنى المؤسّسة بأطفال شهداء الجيش وعائلاتهم، فتقوم بنشاطات لصالحهم من مثل السّفر إلى الخارج وتنظيم رحلات ومخيّمات ترفيهيّة، ودورات تثقيفيّة وجوقة تراتيل وأغاني، بالإضافة إلى إنشاء حدائق عامّة في أكثر من منطقة لبنانيّة، وتجهيز قاعات في ثكنات عسكريّةٍ، بالتّعاون مع قيادة الجيش والقوى الأمنيّة وقوّات الأمم المتّحدة العاملة في جنوب لبنان. وأنشأت لها فرعًا في إيطاليا للتّبادل الثّقافيّ والحضاريّ.

تذكّرنا هذه المبادرة النّبيلة بأنّ شهداء الجيش هم شهداءُ كلِّ عائلة لبنانيّة، وبأنّ استشهادهم هو من أجلِنا جميعًا. إستشهدوا دفاعًا عن لبنان ضِدَّ الإرهابِ ومنعًا للفتنةِ وصونًا للوِحدة الوطنيّة. فنوجِّه تحيّةَ تقديرٍ لقيادةِ الجيشِ على التّضحياتِ الّتي قدّمَها والإنجازاتِ الّتي حقّقها وكان آخرها العمليّة الأمنيّة الّتي جرت بالأمس في منطقة وادي خالد ضدّ المجموعات الارهابيّة ومطاردتهم بالتّعاون مع الأجهزة الأمنيّة الأخرى.

إنّ الجيش مخوَّلٌ، مع سائر القوى الأمنيّة الشّرعيّة دون سواهم، حمايةَ سيادةِ لبنان، واحتضانَ ثورةِ الشّعبِ اللّبنانيِّ من أجل التّغيير. فإليه وحده يرتاحُ الشّعب.

"الحقّ الحقّ أقول لكم: لن يترك هنا حجر على حجر إلّا ويُنقض" (متّى 2:24). إنصدم تلاميذ يسوع بهذه النّبوءة، فظنّوا أنّ خراب الهيكل يعني نهاية العالم، واقتراب مجيئه الأخير. فبخرابه تنتهي الذّبيحة، ويفقد الله سكناه بين البشر. لهذا السّبب جاؤوا إلى يسوع وسألوه: "متى تكون هذه، وما هي علامة مجيئك وانتهاء العالم؟" (متّى 3:24).

لم يجبهم يسوع على سؤالهم المزدوج. بل كلّمهم عن أحداث ومصاعب واضطهادات وتضليلات، تستدعي منهم الثّبات في الإيمان، والصّمود في الرّجاء، والصّبر على المحنة. كلّمهم عن المسحاء الكذبة الّذين يحاولون زعزعة إيمانهم، وعن الحروب والفتن الّتي تهدّد رجاءهم، وعن الاضطهادات والمضايقات الّتي قد تفقدهم القدرة على الصّبر. لقد دعاهم بهذه الثّلاثة إلى الغاية الأساسيّة من جوابه وهي تأكيده أنّ: "من يثبت إلى المنتهى يخلُض" (الآية 13).

إنّها دعوة موجّهة إلى الجميع، ولاسيّما في الظّروف الصّعبة الرّاهنة الّتي نعيشها اليوم في لبنان، وغيرُنا في بلدانهم، وبخاصّة في بلدان الشّرق الأوسط. بفضل هذا الثّبات في الإيمان والرّجاء والصّبر، استطاع أجدادنا، عبر العصور ومحنها المتنوّعة، المحافظة على وحدتهم وكرامتهم واستقلاليّتهم حتّى بلغوا إلى إنشاء دولة لبنان الكبير.  

وختم الرب يسوع جوابه لتلاميذه بالدّعوة إلى الكرازة بإنجيل الملكوت، من أجل خلاص العالم وانتصار القيم السّماويّة، ومن بعدها تكون النّهاية (الآية 14).

يملي علينا إنجيل اليوم أنّ في الزّمنِ المصيريِّ ينبغي على مكوّناتِ الأمّةِ أن تلتقي لتُنقِذَ الدّولة ولا تَختلِف فتَخسِرَها. في الزّمنِ المصيريِّ لا قيمةَ لأيِّ نُقطةٍ تُسجَّلُ خارجَ مرمى الوطنِ والخير العامّ، بل يَتنازلُ الجميعُ لصالحهما. إنّ فعِاليّة أيِّ مكّونٍ هي في تفاعلِه مع الآخرين لا في الاستقواء عليهم. دورُنا معًا أقوى من دورنِا متفرِّدين ومنفرِدين. حبّذا لو أنّ انفجار المرفأ والتفاف الدّول حول شعب لبنان شكّلا صحوة الضّمير الوطنيّ الدّاعي إلى تأليفِ حكومةٍ حَسْبَ الدّستورِ والميثاقِ ووثيقة الوفاق الوطنيّ نصًّا وروحًا، وبنيّة صادقة وبسرعة خارقة.

أمّا وقد أُحرج الرّئيسُ المكَلَّف مصطفى أديب فأقدم على الاعتذارَ، أصبحَت البلادُ أمام أخطارٍ متعدّدةٍ ليس أقلَّها غيابُ حكومةٍ تقودُ عمليّةَ إنقاذِ البلاد وملاقاةِ المؤتمراتِ الدّوليّةِ والتّفاوضِ مع صندوقِ النّقدِ الدّوليِّ. وفوق ذلك خيَّب الاعتذار آمالَ المواطنين ولاسيّما الشّباب الّذين كانوا يراهنون على بَدءِ تغييرِ في الطّبقةِ السّياسيّةِ من خلال حكومةٍ جديدةٍ بوجوهِ واعدة، وفاقم الأزمة الوطنيّة والحكوميّة، إذ بدا كأنّه يسلّم بـ"فيتو" غير موجود في الدّستور والميثاق ووثيقة الوفاق الوطنيّ.

إنّ البطريركيّة المارونيّة تنطلق دائمًا من أركان الدّولة الثّلاثة المتكاملة: الدّستورِ والميثاقِ ووثيقة الوفاق الوطنيّ الّتي تحفظ توازن مكوّنات وطننا الواحد، المشترك والنّهائيّ، وتجمعنا في وحدة وطنيّة على تنوّع طوائفنا ومذاهبنا وأحزابنا وحرّيّة الرّأي والتّعبير.

وإذ نحرص على أن تبقي فرنسا مشكورة عزمها على مساندة لبنان، فإنّنا حفاظًا على الأركان الثّلاثة ندعو إلى عدم تخصيص أيّ حقيبة وزاريّة لأيّ فريق أو حزب أو طائفة أو مذهب بشكل دائم، بل إلى اتّباع قاعدة المداورة الدّيمقراطيّة. فلا يمكن الاعتداد بعرف أو التّفرّد بخلق أعراف من دون توافق، ومن دون اعتراف الآخرين بها.

وفي كلّ حال مهما اختلَف اللّبنانيّون، يجب أن تَبقى لغةُ الحوارِ أقوى من أيٍّ لغةٍ أُخرى. ويجب أنْ تَبقى إرادةُ العيشِ معًا أقوى. فمعيارُ نجاح "العيش معًا" ليس الوجود الجسديّ بل التّفاعلُ الرّوحيُّ والحضاريُّ والوطنيُّ والنّظرةُ إلى أفْقٍ واحدٍ وغاية واحدة، هما لبنان وشعبه.

فلنصلِّ كي يعضد الله الجميع على ذلك، فله المجد والشّكر والتّسبيح، الآب والابن، والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."