الرّاعي للنّوّاب: كيف ستواجهون ثورة شعبنا الجائع وغضبه؟ فلا تظنّوا أنّ دولة لبنان "بتمشي" بدون رئيس!
"1. يسوع المسيح، إبن الله المتجسّد، الّذي عاش على أرضنا ثلاثًا وثلاثين سنة، يجيء بالمجد في نهاية الأزمنة ديّانًا للعالمين. في مجيئه الأوّل أتى لخلاصنا، فإتّخذ جسدًا بشريًّا من مريم البتول، وكشف لنا سرّ الآب ومحبّته اللّامتناهية، وقَبِلَ الآلام والموت لفداء خطايا البشريّة جمعاء، وقام من بين الأموات في اليوم الثّالث وبثّ في العالم الحياة الجديدة لتقديس البشر أجمعين. أمّا في مجيئه الثّاني فيأتي ديّانًا، ويظهر ملكًا في جلالة مجده. لذا تحتفل الكنيسة اليوم بعيد يسوع الملك.
2. إنّنا نختتم معكم بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، وفي هذا الأحد زمن الصّليب والسّنة الطّقسيّة 2021-2022. فيطيب لي أن أرحّب بكم جميعًا مع تحيّة خاصّة لرابطة آل الشّمالي ولجامعة آل كرم في لبنان وبلدان الانتشار.
رابطة آل الشّمالي تأسّست سنة 1938 بهدف جمع شمل العائلة والاهتمام بشؤونها الاجتماعيةّ ونشر الإلفة والمحبّة بين أبنائها. فعملت على تنظيم النّشاطات الاجتماعيّة، والثّقافيّة والتّرفيهيّة، وعلى مدِّ يد المساعدة، لكلّ محتاج، والتّواصل مع كلّ أبنائها مقيمين ومنتشرين إيمانًاً منها بدور العائلة الواحدة الجامعة، فهي مصدر العادات والأعراف والتّقاليد، وهي الخليّة الأولى الّتي تنشر في المجتمع القيم الأخلاقيّة والإنسانيّة.
وجامعة آل كرم في لبنان وبلدان الانتشار الحاضرة معنا بهيئتها الجديدة، تأسّست عام 2019 بهدف الرّبط بين أبناء العائلة في لبنان والخارج والتّواصل فيما بينهم وتقديم الدّعم اللّازم لكلّ من يريد المشاركة في الخدمة العامّة وفي مختلف المجالات، وشدّ أواصر العائلة ليكونوا يدًا واحدة في مواجهة التّحدّيات الرّاهنة.
3. يتكلّم إنجيل اليوم عن الدّينونة العامّة بتأدية الحساب على الرّحمة والعدالة. وتتمّ مثلها الدّينونة الخاصّة بكلّ إنسان عند ساعة موته وحضوره أمام العرش الإلهيّ.
يؤكّد الرّبّ يسوع أنّه بتجسّده تماهى نوعًا ما مع كلّ إنسان وبخاصّة مع كلّ متألّم لأيّ سبب: كالجوع والعطش والغربة والعريّ والمرض والسّجن، ليس فقط بالمعنى الجسديّ والمادّيّ، بل أيضًا بالمعنى الرّوحيّ والمعنويّ والنّفسيّ.
فهناك بين النّاس من يجوع إلى الخبز وأيضًا إلى العلم والمعرفة؛ ومن يعطش إلى الماء وأيضًا إلى العدالة والكرامة؛ ومن يختبر غربة البيت والوطن، وأيضًا الغربة الإنسانيّة والرّوحيّة والاجتماعيّة؛ ومن يحتاج إلى ثوب ليستر عريه ويستدفئ، وأيضًا إلى محبّة تستر عيوبه، وصيت حسن يحمي كرامته؛ ومن يعاني من مرض الجسد وأيضًا النّفس والرّوح؛ ومن يعيش أسيرًا وراء قضبان السّجن أو أيضًا مستعبدًا لنزواته وميوله، ولأشخاص وإيديولوجيّات.
هؤلاء جميعًا يسميّهم الرّبّ يسوع "إخوته الصّغار" (متّى 25: 40 و45). هم "إخوته" لأنّه شابههم وتماهى معهم وشاركهم ما يعانون من آلام، وجعل خدمتهم الطّريق إلى الخلاص الأبديّ (راجع متّى 25: 34).
وهم "صغار" لأنّهم بحاجة إلى مساعدة. إنّهم هذا العدد الّذي لا يحصى من الرّجال والنّساء والأطفال والبالغين والعجزة، الرّازحين تحت عبء من البؤس لا يطاق. إنّهم ملايين من النّاس الّذين فقدوا الأمل لأنّ بؤسهم يتفاقم: جوع وتسوّل وتشريد بدون ملجأ، تنقصهم العناية الطّبّيّة، وينقصهم الرّجاء بمستقبل أفضل (البابا يوحنّا بولس الثّاني: الإهتمام بالشّأن الاجتماعيّ، 13 و42-43). إنّهم الفقراء اقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا ودينيًّا (السّنة المئة، 57).
4. سنُدان على الرّحمة والعدالة.
على الرّحمة الّتي تنبع من مشاعر الحنان والمحبّة في القلب البشريّ. كلّ الّذين نادوا يسوع ليشفيهم: عميان وبرص ومقعدون قالوا: "يا ابن داود، يا معلّم، يا يسوع، إرحمني!". وكان الإنجيل يردّد أنّ يسوع تحنّن عليهم وشفاهم. لا نستطيع أن ننظر إلى المحتاج من دون إحساس وشعور بالشّفقة. إنّ اللّامبلاة خطيئة عظيمة تجاه هؤلاء المحتاجين.
وعلى العدالة لأنّ من حقّ كلّ محتاج أن يحصل على المساعدة الّتي هي واجب. فلا يحقّ لأحد أن يحتفظ لنفسه بما يخصّه. فالمبدأ الأساس في تعليم الكنيسة الاجتماعيّ هو أنّ "على كلّ ملكيّة خاصّة رهن اجتماعيّ". ما يعني أنّه لا يوجد ملكيّة خاصّة بالمطلق. وتدعو الكنيسة في تعليمها إلى فضيلة التّضامن الّذي يعني "أنّنا كلّنا مسؤولون عن كلّنا".
5. فلو وُجدت ذرّة من الرّحمة والعدالة لدى المسؤولين السّياسيّين النّافذين عندنا الممسكين بمفاتيح الحلّ والرّبط، تجاه الشّعب اللّبنانيّ، لما تركوه يئنّ تحت عبء الفقر والحرمان والظّلم والتّهجير، ولما أمعنوا في هدم مؤسّسات الدّولة تباعًا وصولًا إلى رئاستها الّتي هي فوق جميع الرّئاسات والمؤسّسات، فأوقعوا هذه الرّئاسة العليا والأساسيّة في الفراغ، إمّا عمدًا، وإمّا غباوةً، وإمّا أنانيّةً! هذه الرّئاسة بصلاحيّاتِها ودورِها هي أساسُ الاعترافِ بوحدةِ لبنان، كيانًا ودولةً. فرئيس الجمهوريّة ليس رئيسًا بين رؤساء بل هو فوق كلّ رئاسة. إنّ العودةَ إلى نغمةِ التّرويكا قد ولّت، لأنّها تُعطّلُ التّآلفَ بين السّلطاتِ والفصلَ في ما بينها، وتَطعنُ في مفهومِ نشوءِ قيامِ الدّولةِ اللّبنانيّةِ وميثاقِها والشّراكةِ الوطنيّة، وتولّد الفوضى الدّستوريّة.
6. مع انتهاء ولايةِ فخامةِ الرّئيس العماد ميشال عون، نشارك اللّبنانيّين في وداعِه ونتمنّى له الخير والتّوفيق بعد حياةٍ طويلةٍ في مختلف المواقعِ العسكريّةِ والوطنيّةِ وصولًا إلى رئاسةِ الجمهوريّةِ الّتي يُغادرها اليوم من دون أن يُسلِّمَها لخلفٍ، ولا لحكومةٍ أصيلة كاملة الصّلاحيّات. لم يكن عهدُه سهلًا، بل محفوفًا بالأخطارِ والظّروفِ الصّعبة. فكان لبنان وسطَ محاور المنطقةِ وصراعاتِها، وعرفَ أسوأَ أزمةٍ وجوديّةٍ في تاريخِه الحديث، انعكَست عليه وعلى الشّعب اللّبنانيّ اقتصاديًّا وماليًّا واجتماعيًّا؛ وما زال في دائرة الخطر على كيانه ونظامه الدّستوريّ. فنناشدُ السّادة النّوّاب القيام سريعًا بواجبهم وانتخاب رئيس جديد، لأنَّ الشّغورَ الرّئاسيَّ ليس وكأنّه قدرٌ في لبنان، بل هو مؤامرةٌ عليه بما يشكّلُ في هذا الشّرقِ من خصوصيّةٍ حضاريّةٍ يَسعى البعضُ إلى نقضِها. والدّولة بلا رئيس كجسم بلا رأس. والجسم لا يحتمل أكثر من رأس.
7. فيا أيّها السّادة النّوّاب ورؤساء الأحزاب والكتلِ النّيابيّة، أنتم تعرفون منذ ستِّ سنواتٍ موعدَ انتخابِ رئيسٍ جديدٍ للدّولة، وقد كان لكم المديدُ من الوقت وبخاصّة في الشّهرين الأخيرين الدّستوريّين، لتتحاوروا وتتناقشوا وتتفاوضوا حولَ اختيارِ مرشّحٍ جدير للرّئاسةِ وانتخابِه. فهل يعقل أن تنعقد ثلاث جلسات انتخابيّة فقط في الشّهرين الحاسمين تنتهي كلّها بتعطيل النّصاب؟ ليس اليومَ، وقد انتهت المهلةُ الدُّستوريّة، وقتُ الحوار بل وقتُ انتخابِ الرّئيس الجديد. ويتمّ الانتخاب لا بالاتّفاق المسبق على الإسم، لأنّه غير ممكن، بل بجلسات الاقتراع المتتالية والمصحوبة بالتّشاور وبالمحافظة الدّائمة على النّصاب. أتدركون جسامة مسؤوليّتكم عن التّسبّب بالشّغورين: شغور رئاسة الجمهوريّة، وشغور حكومة كاملة الصّلاحيّات، وكلاهما يشكّلان السّلطة الإجرائيّة في الدّولة؟ أتدركون أنّكم بهذا تفاقمون من دون سقف الأزمة السّياسيّة والأزمات الاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة والاجتماعيّة؟ كيف ستواجهون ثورة شعبنا الجائع وغضبه؟ فلا تظنّوا أنّ دولة لبنان "بتمشي" بدون رئيس!
8. ثمّ لماذا هذا التّشكيك في الشّخصيّاتِ القادرةِ على تبوُّؤ هذا المنصب وتصوير الواقع كأنْ ليس بين كلِّ موارنةِ لبنان شخصيّةٌ صالحةٌ لتسلّمِ الرّئاسةِ وإنقاذِ البلاد. فكلّما طُرح اسمٌ يَنهال الطّعنُ بقدراتِه أكان مدنيًّا أو عسكريًّا، ديبلوماسيًّا أو مفكِّرًا استراتيجيًّا، تقنيًّا أو سياسيًّا، من الجيلِ الجديد أو من الجيلِ المخضرَم. هذا أمرٌ مدبَّر ومخطَّطٌ له، إمّا لإطالةِ الشّغورِ الرّئاسيِّ، وإمّا لفرضِ رئيسٍ من خارجِ الثّوابت الوطنيّة يكون خاضعًا للمشاريعِ المتجوِّلةِ في المنطقة. لا أيّها السّادة، الطّريقُ إلى قصر بعبدا يَمرُّ باحترام الدّستور والشّرعيّة وعدم تجييرهما لهذا المحورِ أو ذاك، وباختيار رئيس يتمتّع بتجربةِ إدارةِ الشّأنِ العامِّ ومعرفةِ الإدارةِ اللّبنانيّةِ والمؤسّساتِ، وبالقدرة على جمعِ المواطنين حول مبادئ لبنانيّةٍّ والولاءِ للبنان فقط، وباستعادةِ عَلاقاتِ لبنان مع أصدقائِه وتوسيعِها. فالرّئاسةُ ليست هوايةً ولا دورةً تدريبيّة بل ريادةٌ في الحكم وقيادةِ الشّعوب.
9. نصلّي إلى الله كي يمسّ ضمائر النّوّاب والكتل النّيابيّة، فيبادروا للحال إلى عقد جلسات المجلس النّيابيّ الانتخابيّ وفق الأصول الدّيمقراطيّة، وينتخبوا رئيسًا للدّولة تنتظم معه المؤسّسات الدّستوريّة الأخرى. فالله سميع مجيب! له المجد والشّكر إلى الأبد، آمين".