لبنان
11 كانون الثاني 2021, 06:00

الرّاعي للمسؤولين والسّياسيّين: الشّعب يمهل ولا يهمل

تيلي لوميار/ نورسات
في الأحد الأوّل بعد الدّنح، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في كنيسة الصّرح البطريركيّ- بكركي، صلّى خلاله كي يُبدّد الله وباء كورونا من جهة، وكي يمُسّ الله ضمائر المسؤولين السّياسيّين في لبنان فيتنازلوا عن كبريائهم ومصالحهم ويتصالحوا مع شعبهم من جهة ثانية.

وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظة قال فيها: "غداة معموديّة يسوع على يد يوحنّا المعمدان، والظّهور الإلهيّ الّذي أعلن بنوّة يسوع الإلهيّة الأزليّة، تنبّأ يوحنّا عنه شاهدًا: "هذا هو حمل الله الّذي يحمل خطيئة العالم" (يو1:29). هذه النّبوءة بأنوار الرّوح القدس، أتت يوحنّا المعمدان عندما رأى يسوع متقدّمًا مع الخطأة لينال معموديّة التّوبة، هو الّذي لم يعرف خطيئة شخصيّة، ولم يكن بحاجة إلى توبة. فأدرك يوحنّا أنّ يسوع مشى مع الخطأة لكي يتضامن معهم، ويحمل خطاياهم، ويكفّر عنهم. وهذا ما جرى بموته على الصّليب فدىً عن الجميع، وبقيامته من بين الأموات ليبثّ الحياة الإلهيّة في المؤمنين.

نحتفل بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة. ونحيّي كلّ المشاركين معنا روحيًّا عبر تلفزيون تيلي لوميار– نورسات وCharity TV والفيسبوك وسواهما. ونصلّي معًا إلى الله الغنيّ بالرّحمة كي يُبدّد وباء كورونا ويُحرّر منه كلّ الكرة الأرضيّة، ويشفي المصابين، رأفةً بالفقراء والعاطلين عن العمل والمقهورين. ونصلّي لكي يمُسّ الله ضمائر المسؤولين السّياسيّين فيتنازلوا عن كبريائهم ومصالحهم، ويتصالحوا مع شعبهم الّذي هو ضحيّة إهمالهم، ومع السّياسة كفنّ شريف لخدمة الخير العامّ. لكنّه فنٌّ يقتضي من المسؤول أن يكون مضحّيًا ومتواضعًا ومتجرّدًا.

عندما تقدّم يسوع مع الخطأة لقبول معموديّة التّوبة من يوحنّا، تضامن مع الخطأة، لا مع خطاياهم. فحملها وافتداها ككاهن، ودشّن رسالته كعبد الله المتألّم، الّذي تنبّأ عنه أشعيا قائلاً: "طُعن بسبب معاصينا، وسُحق بسبب آثامنا. أُنزل به العقاب من أجل سلامنا، وبجرحه شُفينا... كحمل سيق إلى الذّبح ولم يفتحْ فاه" (أشعيا 53: 4 و5و7).

إنّ معموديّة يسوع الحقيقيّة، الّتي منها نبعت معموديّتنا، هي معموديّة موته فاديًا ومخلّصًا (راجع مر 10:38). في معموديّة يوحنّا حمل يسوع خطايا البشر، وفي معموديّة موته ودمه المُراق على الصّليب غسل خطاياهم، متمّمًا إرادة الآب بحبّ لا حدّ له. وهكذا عندما تقدّم ليقبل معموديّة يوحنّا، عبّر في قرارة نفسه عن قبوله بمعموديّة الموت من أجل غفران خطايانا. فجاء صوت الآب من السّماء يعلن هذا القبول، ويعلنه للبشر أجمعين "أنّه ابنه الحبيب".

بنتيجة الخطيئة الأصليّة وخطايا النّاس الشّخصيّة، بات العالم يعيش في حالة خطيئة روحيّة واجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة، إذ أضحت الخطيئة مجموعة خطايا شخصيّة لا يتوب عنها النّاس، فإذا بنا نعيش في هيكليّة خطيئة. وحده يسوع افتدى بموته البشر وشرورهم، فذُبح فوق الصّليب وهو بريء منها، وبقيامته انتصر عليها وحرّر منها الإنسان، كلّ إنسان، ومكّنه من الانتصار عليها بنعمة منه.

عندما نتأمّل في وصف القدّيس بولس الرّسول تفاني الرّبّ يسوع في سبيل خلاص العالم وفداء الإنسان، بقوله: "تخلّقوا بخلق المسيح الّذي، مع أنّه على مثال الله، لم يعدّ مساواته الله غنيمة، بل أخلى ذاته... وواضع نفسه، وأطاع حتّى الموت، موتًا على الصّليب" (فيل 2-5-8)، عندما نتأمّل في هذا الكلام وفي هذا الواقع نتساءل:  

هل الحقائب والحصص وتسمية الوزراء أهمّ وأغلى عند المسؤولين عن تشكيل الحكومة من صرخة أمٍّ لا تعثر على ما تطعم به أولادها، ومن وجع أبٍ لا يجد عملاً ليعيل عائلته، ومن جرح شابّ في كرامته لا يملك قسطه المدرسيّ والجامعيّ؟ عندما زارنا فخامة رئيس الجمهوريّة الخميس الماضي أكّدنا معًا وجوب الإسراع في تشكيل حكومة إنقاذيّة غير سياسيّة تباشر مهمّاتها الإصلاحيّة، وتكون المدخل لحلّ الأزمات السّياسيّة والاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة.

ونتساءل أيضًا:  

ألا تتلاشى العقبات الدّاخليّة والخارجيّة أمام إنقاذ مصير لبنان وإحياء دولة المؤسّسات؟ ولماذا الإصرار على ربط هذا الإنقاذ بلعبة الأمم وصراع المحاور؟  

ما قيمة حكومةِ اختصاصيّين إذا تمّ القضاءُ على استقلاليّتها وقدراتِها باختيار وزراء حزبيّن وليسوا على مستوى المسؤوليّة؟

ما قيمةُ الحيادِ والتّجرّدِ والشّفافيّة والنّزاهة إذا تسلّمَ الحقائب المعنيّة بمكافحة الفساد ومقاضاة الفاسدين وزراءُ يُمثّلون قوى سياسيةً؟

هذة الأسئلة الخطيرة تحملنا على تجديد الدّعوة إلى فخامة رئيس الجمهوريّة ودولة الرّئيس المكلّف لعقد اجتماع مصالحة شخصيّة، يجدّدان فيه الثّقة الّتي تقتضيها مسؤوليّتهما العليا، ولا ينهيانه من دون إعلان حكومة، وفقًا لنصّ الدّستور وروحه.  

من المعيب حقًّا، لكي لا أقول جريمة أن يبقى الاختلافُ على اسمٍ من هنا وآخرَ من هناك، وعلى حقيبةٍ من هنا وأُخرى من هناك، وعلى نسبةِ الحصصِ ولعبةِ الأثلاث وإضافة الأعداد، فيما تكاد الدّولة تسقط نهائيًّا، ولسنا ندري لصالح من هذا الانتحار.

نحن ندرك أنّ ثمّة صعوبات تعترض الجهود لتشكيل الحكومة، لكن الصّعوبات الكبيرة تستدعي موقفًا بطوليًّا. والموقف البطوليّ هنا يَندرج في إنقاذ لبنان لأنّ تأليفها هو المدخلُ الإلزاميُّ والطّبيعيُّ والدّستوريُّ لإعادة الحياة اللّبنانيّة إلى طبيعتها. أيّها المسؤولون والسّياسيّون لكم نقول: إستفيدوا من هدوء العاصفة الشّعبيّة لتتفادوا هبوبًا من جديد. فالشّعبُ يُمهل ولا يُهمل.

بالأمس زارنا الوزير السّابق ابراهيم شمس الدّين، نجل المغفور له الإمام الشّيخ محمد مهدي شمس الدّين، وذكّرني بأنّ تاريخ اليوم يصادف ذكرى مرور عشرين سنة على وفاة والده. وتذكّرنا معًا تعليمه في كتابه "الوصايا" الّذي يبدأ بوصيّته "إلى عموم الشّيعة في كلّ وطن ومجتمع أن يدمجوا أنفسهم في مجتمعاتهم وأوطانهم، وأن لا يميّزوا أنفسهم بأيّ تمييز خاصّ، وأن لا يخترعوا لأنفسهم مشروعًا خاصًّا يميّزهم عن غيرهم" (الوصايا، ص17). في هذه "الوصايا" يعتبر أنّ "لبنان استجابة للمسيحيّين وضرورة للعالم العربيّ والعالم الإسلاميّ"، ويحذّر "بألّا يستنجد واحدنا بغريب على قريب".

ويعتبر أيضًا أنّ النّظام السّياسيّ في لبنان سليم لولا ما شابه من بعض الأخطاء في صياغة اتّفاق الطّائف وفي تطبيقه. فيدعو، إلى جهد وطنيّ مخلص للنّظر في العيوب والثّغرات في نظامنا الطّائفيّ القائم على اتّفاق الطّائف، وبهذا نحقّق للبنان استقرارًا سياسيًّا وإمكانات كبرى للثّقة المتبادلة بين مجموعاته، ونموّه وتقدّمه. وبهذا يبقى لبنان منارة ونموذجًا لكلّ المجتمعات الأخرى الّتي تتميّز بالتّنوّع (الوصايا، ص32).

أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، نرجو أن يجدّد اللّبنانيّون ثقتهم بلبنان "الرّسالة والنّموذج"، وأن تحافظ عليه الجماعة السّياسيّة، وتتفانى في سبيل إنقاذه، لكي تتمّ فيه كلمة الكتاب المقدّس: "مجد لبنان أُعطي لله" (أشعيا 2:35)، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."