لبنان
19 تشرين الأول 2020, 05:00

الرّاعي للسّياسيّين: إرفعوا أياديكم عن الحكومة وأفرِجوا عنها

تيلي لوميار/ نورسات
في الأحد الخامس من زمن الصّليب، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في بكركي، رفع خلاله الصّوت في الذّكرى الأولى لثورة 17 تشرين، محمّلاً السّياسيّين مسؤوليّة "رمي البلاد في حالة الشّلل الكامل"، فقال:

"يندرج إنجيل اليوم في خطاب يسوع لتلاميذه عن النّهايات: مجيء الرّبّ والموت والخلاص والهلاك، وعن نهاية الأزمنة والدّينونة. إنّ مجيء العريس واستعداد العذارى العشر والمشاركة في فرحة العرس يُطبَّق على الموت الّذي هو اللّقاء بالمسيح وغير المعروف بيومه وساعته، "فعند منتصف اللّيل، صارت الصّيحة: العريس آتٍ أخرجوا إلى لقائه" (متّى 25: 6). ودخلت العذارى المستعدّات بمصابيحهنّ المضاءة معه إلى العرس. أمّا غير المستعدّات فبقين خارجًا. وأعطانا الرّبّ يسوع الأمثولة: "إسهروا، لأنّكم لا تعلمون اليوم ولا الساعة" (آ. 13).

إمنحنا، يا ربّ، أن نتذكّر دومًا آخرتنا، ونكون مستعدّين لها يوميًّا بالمحافظة على فضيلة الأمانة لك ولوصاياك وتعليمك وتعليم الكنيسة، ولواجب الحالة والمسؤوليّة.

يسعدني أن أحيّيكم جميعًا فيما نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة ومعنا رابطة Cross Road درب الصّليب الّتي تجمع وتُعنى بالمحاربين القدامى الّذين تعرّضوا لإصابات جسديّة فيما كانوا يقومون بواجب المقاومة اللّبنانيّة المسيحيّة. هذه الرّابطة تشجّعهم للبقاء فعّالين عبر المساهمة في بناء مجتمع الأجيال الآتية، وللاتّصال الدّائم بزملائهم بواسطة نشاطاتٍ متنوّعة؛ وتساعدهم للتّغلّب على مشاكلهم الجسديّة والنّفسيّة، ولتأمين نمط معيشيّ مقبول ومشرّف. من أجل هذه الغاية تعمل الرّابطة على تأمين أدوية مختلفة ومزمنة لهم، ووسائل المواصلات، وكراسي متحرّكة، وخدمات عاجلة مادّيّة عند الضّرورة، وهي مشكورة على كلّ ذلك.

تحتفل الكنيسة في هذا الأحد الثّالث من شهر تشرين الأوّل باليوم العالميّ الرّابع والتّسعين للرّسالات. وقد وجّه قداسة البابا فرنسيس كالعادة رسالة خاصّة عنوانها: "ها أنذا أرسلني" (أشعيا 8: 6). هذه الكلمة كانت جواب أشعيا النّبيّ عندما سمع الرّبّ يقول: "من أُرسل؟" إنّها دعوة صادرة من قلب الله ورحمته إلى الرّسالة بالخروج من ذواتنا من أجل المشاركة في رسالة المسيح والكنيسة. نصلّي من أجل جميع المرسلين والمرسلات، كي يصل إنجيل المسيح إلى الجميع فيعرفون الحقّ وينالون الخلاص.

العذارى الحكيمات هم الأشخاص الواعون المدركون معنى الحياة والتّاريخ والموت، ويطرحون على ذواتهم أسئلة مصيريّة متعلّقة بهذه المواضيع. وبالتّالي ينفتحون على سرّ الله وقيمة الوجود التّاريخيّ، وحتميّة الأبديّة بخلاصها وهلاكها.

أمّا العذارى الجاهلات فيمثّلن الأشخاص المغفلين عن معنى وجودهم وقيمة حياتهم وارتباطها بالله وبالآخرة. ويعيشون بالتّالي لدنياهم بكلّ رغائبها، من دون أن يطرحوا على نفوسهم أيّ سؤال يتعلّق بمصيرهم الأبديّ بعد هذه الحياة.

المصابيح والزّيت هما العقل وزيته الإيمان لمعرفة حقيقة الله والإنسان والتّاريخ؛ والإرادة وزيتها الرّجاء للالتزام بكلّ ما هو خير وجمال؛ والقلب وزيته المحبّة للامتلاء من المشاعر الإنسانيّة وعواطف الرّحمة والحنان.

في مساء الحياة، سنُدان على مصابيحنا: هل هي مضاءة أم منطفئة، عند مجيء الرّبّ في حياتنا اليوميّة، ثمَّ عند ساعة موتنا. يأتي الرّبّ يسوع في حياتنا اليوميّة في كلّ مرّة يريد منّا أن نقول كلمة الحقّ بوجه الباطل، ونقف إلى جانب العدل ضدّ الظلم، ونزرع الحبّ حيث البغض، والمغفرة حيث الإساءة، والسّلام حيث النّزاع. لقد وهبنا المسيح الرّبّ نعمة أن نواصل رسالته الإنجيليّة هذه، وبني مجتمعًا أفضل.  

مرّت سنة كاملة على انطلاق الثّورة الشعبيّة، من أجل التّغيير في ذهنيّة السّياسيّين، ودور المجتمع وأداء مؤسّسات الدّولة. لكنّنا نرى بألمٍ وإدانة المنظومةَ السّياسيّةَ تَتجاهلُ عمدًا وإهمالاً وازدراءًا مطالبَ المتظاهرين وشعبنا: فلا تَهُزُّها ثورةٌ، ولا تفجيرُ مرفأٍ، ولا تدميرُ عاصمةٍ، ولا انهيارٌ اقتصاديٌّ، ولا تدهورٌ ماليٌّ، ولا وباءٌ، ولا جوعٌ، ولا فَقرٌ، ولا بطالة، ولا موتُ أبرياء. فلا تؤلّفُ حكومةً، ولا تَحترمُ مبادراتٍ صديقة، ولا تُجري إصلاحاتٍ، ولا تُفاوض جِدّيًّا مع المؤسّساتِ الماليّةَ الدّوليّة. لقد فقدَ الشّعبُ الثّقةَ بالجماعة السّياسيّة والدّولة، والمسؤولون السّياسيّون من جهتهم فقدوا الحياء واحترامَ الشّعبِ والعالم، والقيّمون على الدّولة عطّلوا دورها ككيانٍ دستوريٍّ في خِدمةِ الشّعب والمجتمع.

لا أحدَ بريءٌ من دم لبنان النّازف. المسؤوليّةُ جَماعيّةٌ والحِسابُ جَماعيّ. مَن منكم، أيّها المسؤولون والسّياسيّون، يملِكُ تَرفَ الوقتِ لكي تؤخِّروا الاستشاراتِ النّيابيّةَ وتأليفَ الحكومة؟ مَن منكم يَملِكُ صلاحيّةَ اللَّعبِ بالدّستورِ والميثاقِ ووثيقة الطّائف والنّظامِ وحياةِ الوطن والشّعب؟ إرفَعوا أياديَكم عن الحكومةِ وأفرِجوا عنها. فأنتم مسؤولون عن جُرم رمي البلاد في حالة الشّلل الكامل، بالإضافة إلى ما يفعل وباء كورونا.

في الذّكرى السّنويّة لانطلاقة الثّورة، نحن نعتبر أنّها نجحت في إحداثِ تحوّلٍ في الشّخصيّةِ اللّبنانيّةِ، وفي إعادةِ النّبضِ إلى الشّعبِ اللّبنانيّ، وفي تزخيمِ طاقاتِه النّضاليّةِ من أجلِ بناءِ دولةٍ حرّةٍ، وطنيّةٍ، قويّةٍ وعصريّةٍ. نجحت الثّورةُ في توحيدِ جيلٍ لبنانيٍّ متعدّدِ الانتماءاتِ الدّينيّة والثّقافيّة والحزبيّة، فاندمجَ وِجدانيًّا حولَ أولويّات الحياةِ. ونجحت الثّورةُ أيضًا في تعزيزِ المفهومِ السّلميٍّ للتّغيير.

منذ يومِها الأوّل، رحّبنا بهذه الثّورةِ البهيّة، وأيّدنا شبابَها وشابّاتِها، ودَعونا الدّولةَ، بأجهزتِها الأمنيّة والعسكريّةِ، إلى احتضانِها وحمايتِها، وشَجَبنا التّعرّضَ للمتظاهرين الّذين هم أبناؤنا ومستقبلُ لبنان. لكنّنا بالمقابل ندّدنا بشدّةٍ بالمتسلّلين الّذين اعتدوا على الأملاك الخاصّة والعامّة وعلى المؤسّسات، وشوّهوا وجه الثّورة الحضاريّ.

وإذ لا نزالُ نَتطلّعُ إلى الثّورةِ بأمل، نريدها ثورةً متجدّدةً، ثورةً أخلاقيّةً مستقلّةً وغيرَ تابعةٍ لأحدٍ في الدّاخل والخارج. نريدُها ثورةً مُوحِّدةً وموحَّدةً تُحدِّدُ أهدافَها اللّبنانيّةَ بجرأةٍ ووضوحٍ. نريدها ثورةً تَحمِل برنامجًا اجتماعيًّا ووطنيًّا بنّاءًا، فلا يختلفُ الثّوّارُ على مطالبِهم في السّاحاتِ ويَنزلِقون في حلقاتِ العنف. نريدُها ثورةً تُطِلُّ بقيادةٍ جديدةٍ متفاهمةٍ مع بعضِها البعض، تُمثّلُ الشّعبَ وتحاورُ الدّولةَ والمجتمعَ الدّوليّ. فلا ثورةَ من دونِ أهدافٍ وبرنامجٍ وقيادة. إنّها لجريمةٌ أن يَخسِرَ لبنان ثورتَه الرّائعة. هذه فرصةُ لبنان لكي يُغيّرَ من خلالِ الدّيمقراطيّةِ والتّراثِ والقيم. فهَلُمّوا يا شبابَ لبنان وشابّاتِه، إلى التّغيير. أنتم مستقبل لبنان وعنكم قال صديقكم البابا يوحنّا بولس الثّاني أنتم قوّة لبنان التّجدّديّة، ونحن معكم.

في أحد الرّسالات الذّي تحتفل به الكنيسة الجامعة في هذا الأحد، نصلّي من أجل انتشار إنجيل المسيح، إنجيل السّلام والحقيقة والعدالة والمحبّة. ونذكر بصلاتنا إخوانًا لنا يعانون من الحرب الدّائرة بين أذربيجان وأرمينيا في إقليم ناغورنو كاراباخ المحاصر، والمعروف بأرتساخ، ملتمسين من الله إيقاف هذه الحرب، وتثبيت وقف إطلاق النّار، وحماية المدنيّين. ونأسف لإخفاق الدّولِ ذاتِ التّأثيرِ هناك في نقل الصّراع من واقعه العسكريِّ إلى المفاوضات السّلميّة. إنّنا نناشد الأممَ المتّحدةَ إيقاف دورة العنفِ وحفظ سيادة الدّول وتوفير الظّروف الشّرعيّة للشّعبِ الأرمنيّ هناك من أجل أن ينعم بالأمنِ والحرّيّةِ وجمعِ الشّمل في إطار القوانين الدّوليّة.

فالله سميع مجيب، له المجد والتّسبيح، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."