لبنان
12 تموز 2021, 05:00

الرّاعي: لتكن نزاهة القضاء المشجّع الأوّل للمثول أمامه من أجل الحقيقة، فلماذا تخافون إذا كنتم أبرياء!

تيلي لوميار/ نورسات
قدّم البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، خلال قدّاس الأحد الثّامن من زمن العنصرة الّذي ترأّسه في الدّيمان، ذبيحة شكر لله على نيّة نجاح العمليّة الجراحيّة الّتي خضع لها الأسبوع الماضي، رافعًا الصّلاة من أجل أن يستعيد كمال صحّته فيواصل رسالته على رأس الكنيسة. كما أوكل من جهة ثانية الوضع اللّبنانيّ إلى العدالة الإلهيّة لتنير عدالة الأرض، مؤكّدًا مرّة جديدة أنّ "الحياد هو حلّ خلاصيّ للبنان"، ملقيًا عظة قال فيها:

"1."عبد الله"، في الكتاب المقدّس تشتقّ لفظته من فعل عَبَدَ. وبالتّالي هو "عابد الله" المحبّ والحافظ رسومه ووصاياه. فيختاره الله ويرسله. "عبد الله" بامتياز هو يسوع المسيح الّذي تنبّأ عنه أشعيا النّبيّ، وعن اختياره وإرساله لفداء العالم بآلامه.

2. "عبد الله" المختار والمرسل هو كلّ مسيحيّ بحكم المعموديّة والميرون، وكلّ كاهن وأسقف بحكم الدّرجة المقدّسة، وكلّ راهب وراهبة بحكم النّذور الثّلاثة: الطّاعة والعفّة والفقر. والكنيسة إيّاها، بكونها جسد المسيح السّرّيّ هي أيضًا "عبد الله". وقياسًا، نستطيع القول إنّ كلّ مسؤول في العائلة والمجتمع، والكنيسة والدّولة، هو نوعًا ما "عبد الله" لأنّه مختار إمّا من الله كما هي الحال في العائلة والكنيسة، وإمّا من الشّعب في المجتمع والدّولة. وهو بهذه الصّفة خادم الخير العامّ والجماعة.

3. يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة الّتي نقدّمها ذبيحة شكر لله على نجاح العمليّة الجراحيّة الّتي خضع لها في هذا الأسبوع قداسة البابا فرنسيس. ونصلّي كي يستعيد كمال صحّته فيواصل رسالته المقدّسة على رأس الكنيسة.

واذ أرحّب بكم جميعًا، وخاصّة بالوفد من مصلحة الطّلّاب في القوّات اللّبنانيّة، وبعائلة المرحومة أنطوانيت بيلان البيروتي: زوجها العزيز جورج، وأولادها الممثّلين عزيزنا الأب شربل بيروتي، الرّاهب اللّبنانيّ المارونيّ. وقد ودّعناها معهم بدموع الأسى والصّلاة منذ أسبوعين، نصلّي لراحة نفسها في الملكوت السّماويّ، ولعزاء أسرتها.

4. "يضع الله روحه" على كلّ من هو "عبد الله" المحبّ لله الّذي يختاره، ويرسله لكي "يبشّر الأمم بالحقّ"، لأنّ في الحقيقة خيرَ كلّ إنسان وسعادتَه وخلاصَه. هذه الحقيقة مثلّثة وهي حقيقة الله، وحقيقة الإنسان، وحقيقة التّاريخ. وتجلّت بكاملها في شخص المسيح وسُلّمت إلى الكنيسة لإعلانها لجميع الأمم. هذه الحقيقة المطلقة تنير كلّ الحقائق النّسبيّة، وتحرّر وتجمع.

5. يصف أشعيا النّبيّ روحانيّة "عبد الله" المرسل وفضائله وهي:

أ- المحافظة على روح الرّبّ الّذي أفيض عليه سواء بالمعموديّة والميرون، أم الدّرجة المقدّسة، أم النّذور الرّهبانيّة.  

ب- الهدوء والوداعة في القول والعمل: "لا يصيح ولا يماحك ..."

ج- الصّبر ورجاء الانتظار: "قصبة مرضوضة لا يكسر، وسراجًا مدخنًّا لا يطفئ".

د- الثّبات في إعلان الحقّ، بوجه الباطل والرّفض والاضطهاد، مع اليقين بأنّ النّصرة تأتي من عند الله: "يعلن الحقّ حتّى النّصر".

ه- أن يكون الرّسول محطّ آمال الشّعب وعلامة رجائهم: "على اسمه تتّكل الأمم".

6. على ضوء نبوءة أشعيا النّبيّ في إنجيل اليوم لا بدّ من تذكير المسؤولين في الدّولة عندنا وكلّ الّذين يتعاطون الشّأن السّياسيّ، أنّهم انتُدبوا من الشّعب من أجل توفير الخير العامّ، الذّي منه خير الجميع وخير كلّ مواطن، لا لخدمة خيرهم الخاصّ، ومصالحهم، على حساب الدّولة والشّعب، كما حذّرهم البابا فرنسيس في كلمته الختاميّة "ليوم التّفكير بشأن لبنان، والصّلاة من أجل السّلام فيه" في أوّل تمّوز الجاري.

7. إنّه لمن المخزي حقًّا أن يمعن هؤلاء المسؤولون عندنا في هدم الدّولة ومؤسّساتها وإفقار شعبها وتهجير خيرة قواها الحيّة، وتقويض وحدتها الدّاخليّة، فيما حاضرة الفاتيكان والدّول العربيّة والغربيّة تولي اهتمامًا بالغًا بالقضيّة اللّبنانيّة. وما زالت الدّولُ، الحريصةُ على بقاءِ هذه الوطنِ المميَّز، تلتقي وتتشاورُ وتَعمل معًا على بلورةِ حلٍّ سياسيٍّ بين اللّبنانيّين يُعالجُ إشكاليّةَ وجودِ لبنان كدولة تتعرّض دوريًّا لخضّاتٍ وأزَماتٍ وحروبٍ بسبب تَعدُّدِ ولاءاتِ مكوِّناتِها واختلافِها على السّلطة، وبسببِ التّدخّلاتِ الخارجيّة السّلبيّة والمشاريعَ المذهبيّةِ الّتي تطوف في الشّرقِ الأوسط وتجول. وحريٌّ بالأطراف اللّبنانيّة أن تُلَبْنِنَ الحلَّ الدّوليّ بتقديمِ مشاريعِ حلولٍ بنّاءةٍ عوض الإمعانِ في هدمِ الموجودِ من دونِ تقديمِ بديلٍ واقعيٍّ يَنسجمُ مع الشّراكةِ المسيحيّة- الإسلاميّة، وجوهرِ وجودِ لبنان الكبير، ودورِه الحضاريّ في المنطقة.

إنّنا بالامتنان نُثمِّنُ المساعي الّتي تقوم بها هذه الدّولُ للتّخفيفِ من معاناةِ اللّبنانيّين، كلّ اللّبنانيّين، في مجالات الصِّحّةِ والغذاءِ والتّعليمِ والطّاقةِ، ونُشجِّعُ المتردِّدين، حتّى الآن، إلى مساعدةِ شعب لبنان، بعيدًا عن أيِّ اعتبارٍ عقائديٍّ أو سياسيّ. فلا سياسةَ في الحالاتِ الإنسانيّة، والصّديقُ عند الضّيق.

8. مطلوب من الدّولة اللّبنانيّة وبإلحاح ملاقاة المجتمع الدّوليّ من خلالِ تأليفِ حكومةٍ تتمتّعُ بالمواصفاتِ الإصلاحيّة والحياديّةِ. إنّ العالمَ يُكرّر نداءاتِه، فيما المعنيّون بتشكيلِ الحكومةِ يَمتنعون عن القيامِ بواجباتِهم الدّستوريّةِ والوطنيّةِ حتّى شكليًّا. فرغم الانهيارِ الشّامل لا يزالون يتبادلون الشّروط المفتعلة قصدًا لتأخيرِ تأليفِ الحكومة. فلا عِبارةُ "الاتّفاقِ مع الرّئيسِ المكلَّف" تعني تعطيل التّشكيلات المقدّمة، ولا التّكليفُ يعني تكليفًا أبديًّا من دون تأليفِ حكومة. إنّ مصلحة الشّعبِ تعلو على كلِّ التّفسيراتِ والاجتهاداتِ الدّستوريّةِ والحساسيّات الطّائفيّة. لن نسمح، مع ذوي الإرادة الحسنة، بسقوطِ البلاد بين أطرافٍ لا تريد حكومةً وأطرافٍ أخرى لا تريد دولة.

9. إنّ وِحدة الدّولة تبقى ركيزة الوجودِ الوطنيّ. فلا دولةَ مستقلّةَ ومستقرّة وآمنة مع تعدُّدِ السّلطاتِ فيها، فيفتحُ كلُّ طرفٍ سياسةً خارجيّةً على حسابِه، وسياسةً دفاعيّةً على حسابِه، ويقرّرُ تطبيقَ الدّستورِ ساعةَ يَشاء، ويعطّله متى يَحلو له. إنّ الصّداقاتُ مع الدّولِ شيءٌ، والانحيازُ الاستراتيجيُّ إلى محاورَ عربيّةٍ وإقليميّةٍ ودوليّةٍ شيءٌ آخَر. لذلك، إنّ الحيادَ هو حلٌّ خلاصيٌّ للبنان، خصوصًا أنّه لا يحول دون تعزيز العلاقات مع أيِّ دولةٍ وتقويةِ الصّداقةِ معها لمصلحةِ لبنان، باستثناء تلك الّتي لا تكفّ عن استعدائنا.

10. اليوم، ونحن على عتبةِ السّنةِ الأولى من مأساة تفجير مرفأ بيروت، لم تُعرف بعد، بكلّ أسف، ملابساتُ هذه المجزرةِ المشبوهة: من تَسبّبَ بها؟ كيف حَصلت؟ إنّنا ندعمُ القضاءَ لبلوغِ الحقيقةِ وَفقَ عملٍ نزيهٍ ومتجرّدٍ بعيدًا عن الضّغوطِ السّياسيّة. ونطالب الجماعةَ السّياسيّةَ تسهيلَ عملِ القضاءِ لأنَّ الشّعبَ لا يَغفِر لمن يُعرقل مسارَ التّحقيقِ أو لمن يُسيِّسُه أو لمن يغطّي أيَّ شخصٍ تَثبُتُ التُّهمةُ عليه.

ويدمي القلب أن يجعل السّياسيّون من رفع الحصانة عن وزراء ونوّاب وعسكريّين استدعاهم القضاء لسماعهم، قضيّةً تفوق ثمن دماء المئتي ضحيّة ودموع أهاليهم النّازفة ومصيبانهم، وثمن آلام الخمسة آلاف جريح، وثمن خسارة سبعة آلاف من البيوت والمؤسّسات الّتي تهدّمت، وثمن تشريد وتهجير منطقة من بيروت، وثمن هدم المرفأ ومحتوياته هدمًا كاملًا، وقطع هذا المرفق عن محيطه، وهو منذ سنة مائل أمام أعيننا كشبح الموت. فيا للعار! فلتكن نزاهة القضاء المشجّع الأوّل للمثول أمامه من أجل الحقيقة. فلماذا تخافون إذا كنتم أبرياء؟ يجب التّمييز بين الأذونات الإداريّة لرفع الحصانة، والبحث القضائيّ عن الأدلّة.

11. إنّنا نكل أمرنا اللّبنانيّ إلى العدالة الإلهيّة، لتنير عدالة الأرض، رافعين المجد والتّسبيح للآب والإبن والرّوح القدس، إلى الأبد، آمين."