لبنان
10 كانون الثاني 2022, 06:00

الرّاعي: لتسترجع الشّرعيّة اللّبنانيّة قرارها الحرّ ووحدة سلطتها العسكريّة وتنسحب من لعبة المحاور المدمّرة وتحافظ على مؤسّساتها الدّستوريّة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاس الأحد الأوّل بعد الدّنح في بكركي، داعيًا في عظته إلى استرجاع "الشّرعيّةُ اللّبنانيّةُ قرارَها الحرَّ الواضحَ والقويم، ووِحدةَ سلطتِها العسكريّة، وأن تنسحب من لعبة المحاور المدمّرة، وتحافظ على مؤسّساتها الدّستوريّة بإجراء الانتخابات النّيابيّة والرّئاسيّة في مواعيدها."

وفي تفاصيل العظة قال الرّاعي:  

"1. هذه الشّهادة عن ربّنا يسوع المسيح أنّه "حمل الله الّذي يرفع خطيئة العالم"( يو 1: 22)، قالها يوحنّا المعمدان غداة معموديّة يسوع على يده. ففيما عيد الغطاس يعني أساسًا نزول يسوع في مياه الأردنّ، مع جمهور التّائبين وكأنّه خاطئ مثلهم، فقد اتّخذ إسمًا آخر هو "عيد الدّنح" الّذي يعني بحسب اللّفظة الآراميّة-السّريانيّة "الظّهور". إنّه ظهور مثلّث: ظهور الله الواحد والثّالوث: الآب بالصّوت، والإبن بشخص يسوع، والرّوح القدس بالطّير على شكل الحمام، و"ظهور" ألوهيّة يسوع وبرارته وبراءته من كلّ خطيئة. و"ظهور" حمل الفصح الجديد الّذي يقدّم ذاته ذبيحة فداء عن خطايا البشريّة جمعاء. إيّاه نعبد في كلّ حين إلهًا وفاديًا.  

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، في هذا الأحد الأوّل من زمن الغطاس أو الدّنح. إنّ معموديّة يسوع تذكّرنا بمعموديّتنا الّتي أشركتنا في موت المسيح وقيامته، وجعلتنا خليقة جديدة. نلتمس اليوم نعمة المحافظة على هويّتنا وكينونتنا على شبه المسيح. فالمعموديّة تسمح للمسيح بأن يحيا فينا وتسمح لنا بأن نحيا مُتّحدين به لكي نتعاون في الكنيسة في تحويل العالم كلٌّ بحسب حالته. وإذ نناله مرّة واحدة، ينير غسل المعموديّة حياتنا بأسرها ويقود خطواتنا وصولًا إلى أورشليم السّماء.

وإذ يطيب لي أن أرحّب بكم جميعًا، أوجّه تحيّةً خاصّة إلى عائلة المرحوم جوزف ملحم شلالا من ضبيّة العزيزة. لقد ودّعناه عشيّة عيد الميلاد مع زوجته السّيّدة فاديا أسد الطّبيب وابنه وابنته وشقيقه عزيزنا الأستاذ رفيق المستشار الرّئاسيّ ومدير الإعلام في رئاسة الجمهوريّة، ومع أحفاده. نصلّي في هذه الذّبيحة المقدّسة لراحة نفسه ولعزاء أسرته ومحبّيه.

3. إنّ يوحنّا المعمدان، الممتلئ من الرّوح القدس وهو في بطن أمّه (لو 1: 15)، أدّى شهادته النّبويّة الّتي تشكّل الأساس لإيماننا المسيحيّ، وهي أنّ يسوع هو إبن الله وفادي الإنسان، بكونه الحمل الّذي يرفع خطايا البشريّة ويحملها ويفتديها. اعتبر القدّيس نعمة الله الحرديني أنّ شهادة يوحنّا تحتوي أبعاد الميلاد. فالمولود الإلهيّ هو لنا لنستقبله نورًا هاديًا إلى المسيح، وفينا لنتقدّس بنعمة خلاصه والفداء، ومعنا لنتقوّى ونشهد لحقيقته ومحبّته، ونبني شركة الاتّحاد بالله والوحدة بين جميع النّاس.

4. العالم بحاجة إلى شهادة يوحنّا الّتي أصبحت شهادتنا المسيحيّة. فالمسيح وحده سيّد التّاريخ، وما من سلطان على الأرض يفوقه، بل على العكس يستمدّ منه معنى وجوده وأسلوب ممارسته بتواضع الخادم. وقد سمّاه المسيح الرّبّ "خدمة وبذل ذات فدى عن الجماعة" (مرقس 10: 45). وأطلق على نفسه اسم الخادم (لو 22: 27).

ليس صاحب السّلطة أعلى من الدّولة ومؤسّساتها والمواطنين حتّى يعبث بها وبهم، كما يفعل النّافذون عندنا سواء بسلاحهم أم بسلطتهم أم بموقعهم السّياسيّ أم بعدد مؤيّديهم. إنّ لهم في شخص يوحنّا المعمدان خير مثال ومثل. فهو إذ كان يعتبره الشّعب بمثابة نبيّ، وهيرودس الملك يهابه لشخصيّته، عندما سألوه: إذا كان هو المسيح المنتظر، نفى وأجاب بتواضع وتجرّد: "ها هو آتٍ بعدي من هو أقوى منّي، ذاك الّذي لا أستحقّ أن أنحني لأحلّ سير حذائه. أنا أعمّدكم بالماء، أمّا هو فيعمّدكم بالرّوح القدس" (مرقس 1: 7-8).  

5. نريد أن يكون موقف كلّ متعاطٍ الشّأن السّياسيّ عندنا تجاه لبنان مثل موقف يوحنّا تجاه المسيح الرّبّ. فلا بدّ من التّذكير والتّأكيد أنّ كيان لبنان مع مصيره التّاريخيّ والجغرافيَّ تَقرّرَ سنةَ 1920. هذا الكيانُ ليس مُصطَنعًا لكي نَعبَثَ فيه كلَّ مدّةٍ على هوى هذا أو ذاك، ونُعيدَ تركيبَه حَسْبَ موازينِ القِوى الآنيّةِ السّياسيّةِ والعسكريّة. إذا شاءت المكوّناتُ اللّبنانيّةُ تطويرَ النّظامِ، وهي على حقٍّ، من مركزيّةٍ حصريّةٍ إلى لامركزيّةٍ موسّعةٍ لتعزّزَ خصوصيّاتِها وأمنَها وإنماءَها، وتُزيلَ نقاطَ النّزاعاتِ المتكرِّرَة، وتُعالجَ نتوءاتِ التّعدّديّة، فلا يجوزُ لأيِّ تطوّرٍ أن يكوَن على حسابِ هُويّةِ لبنان وحضارتِه ورقيِّهِ ودورِه وحيادِه السّياديّ وجوهرِ وجوده. إنَّ في طبيعةِ لبنان قوّةً تاريخيّةً تَهزِمُ جميعَ الّذين حاولوا، ماضيًا وحاضِرًا، اسْتئصالَ جذورِ لبنان ووضعَ اليدِ عليه، وادّعوا حقًّا لا يَملِكون في أرضِه وسيطرةً لا يَقوُون بها على شعبِه.

6. بما أنّ انتماء لبنان العربيّ هو للانسجام مع محيطِه الطّبيعيِّ وتفاعلِ الحضارتين اللّبنانيّةِ والعربيّةِ عبر التّاريخ، تبقى حضارته الضّاربةَ في العصورِ هي الّتي تُحدِّد وجودَه وليست صراعاتُ الـمِنطقةِ، ولا أيُّ مشروعٍ مذهبيٍّ، ومُخطَّطٍ اثنيٍّ يرتكز على قاعدة الأكثريّات والأقليّات. ليس العدد شيمة الإنسان ولا معيار تكوين دولة لبنان. نحن بشرٌ، نحن أبناء الله.

لبنان موجود هنا بخصوصيّته الوطنيّة التّاريخيّة ليشهد للحضارة والتّعايش والكرامة والحرّيّة ولعَلاقاتِه العربيّةِ والعالميّة. وإذا كانت قوى لبنانيّة معيّنة تُزمع أن تربط ماهيّة وجود لبنان بالصّراعات الإقليميّة وولاءاتها الخارجيّة، فإنّها تخرج عن الإجماع وتُصيب وحدة لبنان في الصّميم. جريمةٌ هي أن نقضي عليه ونشوّهه في هويته.

7. من هذا المنطلق ندعو إلى أن تسترجع الشّرعيّةُ اللّبنانيّةُ قرارَها الحرَّ الواضحَ والقويم، ووِحدةَ سلطتِها العسكريّة، وأن تنسحب من لعبة المحاور المدمّرة، وتحافظ على مؤسّساتها الدّستوريّة بإجراء الانتخابات النّيابيّة والرّئاسيّة في مواعيدها. ليس من المقبول إطلاقًا أن يواصل عدد من القوى السّياسيّة خلق أجواء تشنّج وتحدّ وخصام واستعداء واستقواء تثير الشّكوك حيال الاستحقاقين. ومن غير المقبول بقاء مجلس الوزراء في حالة وقف التّنفيذ، خصوصًا أنَّ أيَّ اتّفاق مع صندوق النّقد الدّوليّ يستلزم موافقة مجلس الوزراء مجتمعًا. إنّها جريمة أن يستمر تجميد الحكومة لأسباب باتت واضحة.

8. ومن ناحيةٍ أخرى، فيما تغيب مؤسّسات الدّولة، يشهَد عدد من المناطق اللّبنانيّة عمليّاتِ تعدٍّ على أملاك الغير عنوةً ومن دون أيّ رادع رسميّ وقضائيّ، وعمليّات مشبوهة لبيع وشراء عقارات، تقوم بها مجموعة سماسرة وشركات مشكوك في أهدافها لمصلحة أطراف لبنانيّين وغرباء يَسعون إلى تغييرِ خصوصيّةِ تلك المناطق وطابَعِها لأهدافٍ سياسيّةٍ وديمغرافيّة ودينيّة. وتستغل هذه الشّركات فقر النّاس وعوزهم إلى المال لتضع يدها على أراضيهم بأبخس الأسعار. إنّنا ندعو السّلطاتِ المحلّيّة من مجالس بلديّة واختياريّة إلى التّشدّد في منح الأذونات والرّخص، وإلى إبلاغ الدّوائر الرّسميّة بذلك. كما نهيب بالسّلطات اللّبنانيّة الوزاريّة والقضائيّة المختصّة أن تحقّق في وضعِ هذه الشّركات وتراقب عمليّات البيع والشّراء، وتمنع ما هو مشبوه منها ومخالف للقوانين. إنَّ هُويّة المواطن والوطن تَبدأ بهُويّة الأرض. أيّها اللّبنانيّون، فلنُحافظ على أرضنا لئلّا يُصيبنا ما أصاب غيرنا.

9. أعطنا أيّها المسيح الإله، فادي الإنسان، أن نفتح قلوبنا لنعمتك، كي تجدّد الخليقة الجديدة الّتي صوّرتها فينا على مثالك، يوم وُلدنا ثانية من الماء والرّوح. لك المجد والتّسبيح ولأبيك المبارك وروحك الحيّ القدّوس، الآن وإلى الأبد، آمين."