الراعي : لا يمكن أن تقوم علاقة سليمة بين الناس من دون محبة، لا في العائلة ولا في الكنيسة؛ لا في المجتمع ولا في الدولة
1. تذكر الكنيسة في هذا الأحد "الأبرار والصدّيقين". وهم الذين عاشوا إيمانهم المسيحي، وجسّدوه في خدمة المحبّة الاجتماعيّة لمَن كان يعاني الجوع أو العطش أو الغربة أو العري أو المرض أو الأسر. هؤلاء يتماهى معهم الربّ يسوع ويسمّيهم "إخوته الصغار"، ويقول: "كلّ ما عملتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي عملتموه" ( متى 25: 40). فيكون أنّ الطريق إلى الخلاص يمرّ في خدمة هؤلاء الأخوة في حالاتهم السّتّ المذكورة. فالحاجة تولّد الأخوّة، وتشكّل الأساس لوجود السلطة في الكنيسة والمجتمع والدولة، ولوجود الهيكليّات الكنسيّة والمدنيّة.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيّا الإلهيّة، في تذكار الأبرار والصدّيقين الذين مع الملائكة والقدّيسين يشكّلون، حول العرش الإلهي، كنيسة المسيح الممجَّدة. ونلتمس شفاعتهم من أجلنا نحن الذين، في كنيسة المسيح المجاهدة على الأرض، نسعى إلى بناء ملكوت الله، ملكوت القداسة والأخوّة، ملكوت الحقيقة والعدالة والسلام وحرّية أبناء الله.
3. وفيما أرحّب بكم جميعًا، يطيب لي أن أحيّي الجماعة الرهبانيّة المارونيّة "رسالة حياة"، التي تقيم معنا قداس الشكر لله، لمناسبة تثبيت قوانينها الجديدة ومسيرة 25 سنة على بدايتها. نحيّي رئيسها العام والمؤسّس، الأب وسام معلوف، وأشكره على كلمته اللّطيفة في بداية القداس. ونحيّي معه الأب إيلي رياشي، وكلّ الإخوة والأخوات أعضاء "رسالة حياة"، والمتطوّعين على تنوّع فئاتهم.
هذه الجماعة الرهبانية الجديدة تضمّ كهنة ورهبانًا وراهبات يسعون إلى عيش كلمة الله ضمن حياة أخويّة متجذّرة في الإنجيل وشخص المسيح. ومنها ينطلقون إلى الخدمة والرسالة، بإعلان الكلمة، والتشبّه بالمسيح في القول والعمل وهداية الخطأة والاهتمام بالمتوجّعين والمتألّمين والأفقر بين الفقراء.
نحن نصلّي من أجل هذه الجماعة الرهبانيّة الجديدة في كنيستنا المارونيّة، سائلين الله أن يباركها وينعم عليها بنعمة الثبات في مقاصدها وخدمتها ورسالتها، ويكلّل أعمالها بالنجاح، ومساعيها بالنمو والازدهار.
4. وأحيّي بيننا عائلة المرحومة نجيبه وليم الخازن، من سلالة مشايخ آل الخازن من كفرذبيان العزيزة التي ودّعناها معهم في آخر شهر ايلول الماضي ونصلّي لراحة نفسها ونجدّد التعازي لأرملة شقيقها، ولأولاد المرحومة شقيقتها وسائر أنسبائهم. ونحيّي أيضًا أبناء وابنة المرحوم أسد نجيب كرم وأنسباءهم، من الغابات العزيزة. وقد ودّعناه معهم بالأسى منذ أسبوع. نصلّي لراحة نفسه، ونجدّد التعازي لأولاده وعائلاتهم ولجميع أنسبائهم.
5. "كلّ ما عملتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي عملتموه" ( متى 25: 40).
سمّى الربُّ يسوع "إخوته الصغار" كلّ الذين يعانون من الجوع أو العطش أو الغربة أو العري أو المرض أو الأسر، بالمفهوم الجسدي والمادّي والرّوحي والأخلاقي، دونما تمييز في الدِّين والعرق والمذهب واللّون.
فالجوع جوع إلى الخبز والطعام المادّي، وجوع إلى كلام الله الذي يغذّي العقول بالحقيقة، وإلى جسد الربّ ودمه معطي الحياة الجديدة.والعطش عطش إلى الماء، وعطش إلى حبّ وعاطفة إنسانيّة ومشاعر مودّة. والغربة غربة عن العائلة والوطن، وغربة عن الذات بضياعها، وغربة عن أهل البيت الذين لا يتفهّمون الآخر في أفكاره ومشاعره وتطلّعاته وطموحاته، فينطوي على ذاته ويعيش في عالمه الخاصّ. والعري عري من ثياب لسدّ الحاجة، وتعرٍّ من الكرامة والصيت الحسن، من جرّاء النميمة والأكاذيب والإشاعات. والمرض جسدي وعصبي وعقلي، وهو أيضًا مرض روحي بسبب حالة الخطيئة، ومرض أخلاقي بفقدان القيم. والأسر هو في السجن وراء قضبان الحديد، وهو أيضًا أسر الذات لأنانيّتها وانحرافاتها ومصالحها الرخيصة، وأسر لإيديولوجيّات ولأشخاص من نوع الاستعباد، وأسر تحت طغيان الظلم والاستبداد والاستكبار.
6. هذه الحاجات على تنوّعها نمرّ فيها كلّنا. وبالتالي نحتاج إلى محبّة بعضنا البعض. في حالة الحاجة نتماهى مع المسيح القائل: "كنتُ جائعًا، عطشانًا، غريبًا، عريانًا، مريضًا، سجينًا. ما يقتضي منّا أن نضمّ ألمنا إلى آلامه، ونجعلها أداة تقديس للذات. وفي حالة المساعدة لأيّ محتاج، إنّما نفعل ذلك للمسيح نفسه، على ما قال: "كلّ ما فعلتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي فعلتموه" (متى 25: 40).
7. "في مساء الحياة سنُدان على المحبة" (القديس يوحنا الصليبي). لا يمكن أن تقوم علاقة سليمة بين الناس من دون محبة، لا في العائلة ولا في الكنيسة؛ لا في المجتمع ولا في الدولة.
فعندما أسّس الله العائلة، جعلها "جماعة حياة وحبّ" (الكنيسة في عالم اليوم، 48)، لكي ينعم الزوجان والأولاد بسعادة العيش. وعندما أسّس المسيح كنيسته جعل إيمان بطرس أساسها (متى16: 18)، ومحبته شرطًا لرعايتها (يو21: 15-17)، والسلطة فيها خدمة وبذل ذات (مر10: 42-45). ولما وضع الله نظامًا طبيعيًّا، فلكي يعيش الناس والشعوب في سلام، ويتفاهموا ويرعوا شؤون مدينة الأرض، فينعم الشعب بالخير والعدل. فكانت السلطة السياسيّة من أجل استلهام مشيئة الله وتصميمه الخلاصي، لكي تقضي بالبرّ للشعب، وبالإنصاف للضعفاء" (مز72: 2). وأنذر الله أصحاب السلطة عند تقصيرهم وظلمهم للشعب وسلبهم حقوقه (راجع أشعيا10: 1-2) (شرعة العمل السياسي، ص5).
8. شعوب منطقتنا المشرقيّة يعانون من كلّ أنواع الوجع والألم والفقر والعوز، من جرّاء الحروب الدائرة التي هدّمت وقتلت وهجّرت الملايين. وهم يستصرخون ضمائر حكّام هذه الأرض والأسرة الدوليّة، لإنهاء الحروب والنزاعات وإحلال السلام وعودة اللاجئين والنازحين إلى أراضيهم وأوطانهم. ويطالبون بحقّهم في المساعدات الغذائيّة والصحّية والسكنيّة والتعليميّة.
وشعبنا في لبنان، بمختلف فئاته، يعاني اقتصاديًّا ومعيشيًّا وبيئيًّا وأمنيًّا، فضلًا عن العوز والبطالة، وعن حرمانه من أبسط حقوقه الأساسيّة. نحيّي كل الجهود الّتي يبذلها المسؤولون لمعالجة هذه المعانات.
ولكن لا يحقّ للمسؤولين السياسيِّين عندنا أن يستمرّوا في حالة اللّاثقة والخوف من الآخر، والخلافات الحادّة على أبسط الأمور والتناحر والاتّهامات المتبادلة والسّجالات المحتدمة. وكلّها تعرقل العمل المنتج في مجلس النوّاب ولجانه والحكومة والإدارات. ولا يحقّ لأحد التفرّد في القرار الوطني وفرضه على الجميع، ولا التطاول على القانون، ولا تعطيل الأحكام القضائيّة وقرارات مجلس شورى الدولة، وقطع الطرقات وهيمنة النافذين والمسلَّحين.
ليس هذا وجه لبنان الديموقراطي المميَّز بالتعدّدية في الوحدة، وبنشر حقوق الإنسان، ومواكبة الحضارة الحديثة؛ لبنان التفاعل المسيحي-الإسلامي الذي يكوّن منه هوّيته المميّزة. فلبنان لا يتكوّن من خطَّين متقابلين لا يلتقيان، بل من خطَّين متنوّعَين يلتقيان في وحدة وطنية محكَمة. هذه هي العناصر الاساسيّة لتكوين دولة مدنية في لبنان تنبع سلطاتها من الشعب، لا من الدين. دولة قائمة على حقوق الإنسان بغضّ النظر عن دينه أو عرقه أو مستواه الاجتماعي. دولة لا تتعارض مع الدين وشريعة الله، بل تستلهم منهما المبادئ الإنسانيّة والأخلاقيّة والاجتماعيّة. دولة يكوّن ميثاقها الوطني روح الدستور.
9. أيّها الإخوة والأخوات الأحباء، تختصر الكتب المقدّسة وصايا الله ورسومه وشرائعه بوصيّة واحدة هي الشريعة الأكبر: "أن تحبّ الربّ إلهك بكلّ قلبك، وبكلّ نفسك، وبكلّ عقلك. والوصيّة الثانية مثلُها: "أن تحبّ قريبك مثلما تحبّ نفسك" (متى 22: 36-40؛ تثنية 6: 5؛ أحبار 19: 18). والربّ يسوع اختصر كلّ تعليمه بوصية واحدة سمّاها جديدة: "أحبّوا بعضكم بعضًا، كما أنا أحببتكم! ما من حبّ أعظم من هذا: أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل أحبائه" (يو15: 12-13).
نسأل الله أن يفيض هذه المحبة في قلوبنا وقلوب جميع الناس، لكي نخدم الضّعفاء ونعيش كلّنا في السّعادة، ونستحقّ أن نرفع من قلوب مُحبّة المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.