لبنان
21 آب 2023, 05:00

الرّاعي: لا يستطيع أحد، وبخاصّة إذا كان في موقع المسؤوليّة، أن يجهل كلام الله، أو أن يهمله، أو أن يستغني عنه، أو أن يعطّله

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في الأحد الثّالث عشر من زمن العنصرة، والقدّاس السّنويّ لكاريتاس إقليم الجبّة بشرّي، من المقرّ البطريركيّ الصّيفيّ في الدّيمان. وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس، ألقى عظة بعنوان " الحبّ الذي وقع في أرض جيّدة هم الذين يقبلون كلمة الله بقلب صالح فيثمرون" (لو 8: 15)، قال فيها:

"" 1. شبّه الرّبّ يسوع كلمة الله بحبّات القمح التي إذا وقعت على جانب الطّريق داستها الأرجل وأكلتها الطّيور، وإذا وقعت على الحجارة يبست لقلّة الرّطوبة، وإذا وقعت بين الشّوك نبت معها وخنقها، أمّا إذا وقعت في أرض طيّبة، أعطت ثمرًا الواحدة مئة (لو 8: 5-8).

ثمّ فسّر يسوع للتّلاميذ كلّ معاني هذا المثل، وخلاصتُه أنّ كلمة الله حاملةُ الحياة بحدّ ذاتها، مثل حبّة القمح، لكنّها تحتاج إلى قلوب نقيّة تتقبّلها، لكي تعطي ثمارها.

2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة. وإذ أحيّيكم جميعًا أوجّه تحيّة خاصّة إلى رابطة كاريتاس لبنان-إقليم الجبّة: إلى مرشد الإقليم الخوري خليل عرب، ورئيس الإقليم الدّكتور إيليا إيليا والعمدة وكلّ العاملين في المراكز، وشبيبة كاريتاس. كما إنّي أحيّي الأقاليم الحاضرة معنا مثل إقليم زغرتا والزّاوية والبترون والكورة. إنّنا نذكركم جميعًا في هذه الذّبيحة الإلهيّة، سائلين الله أن يفيض الخير في أيديكم وأيدي المحسنين لكي تظلّ كاريتاس شاهدة لمحبّة الله تجاه الإخوة والأخوات في حاجاتهم. إنّ المحبّة التي تزرعونها في القلوب من خلال خدمتكم هي إيّاها محبّة الله التي تثمر في قلوبهم، وتبني حضارة المحبّة.

3. يشبّه الرّبّ يسوع كلمة الله، في الكتب المقدّسة، بحبّة القمح. فكما الحبّة تحمل في جوهرها طاقةً للحياة ولإعطاء الثّمار إذا وقعت في الأرض الطّيّبة، ذات الماويّة، كذلك كلمة الله حيّة بحدّ ذاتها، وذات خصوبة روحيّة وأخلاقيّة وثقافيّة، لكنّها تحتاج إلى قبولها في عقول توّاقة إلى المعرفة والإيمان، وفي قلوب نقيّة منفتحة على المحبّة والعطاء.

الكلمة الإلهيّة الموحاة هي قاعدة الإيمان والحياة، التي تولّد في المؤمنين حرارة روحيّة، وحبًّا لله وللمسيح فادي الإنسان ومخلّص العالم (راجع الدّستور العقائديّ في الكنيسة، 15). يعلّم آباء المجمع المسكونيّ الفاتيكانيّ الثّاني أنّ "كلمة الله تمتلك في ذاتها فاعليّة قادرة، فتعضد الكنيسة وتقوّيها، وتشدّد أبناء الكنيسة وبناتها في الإيمان، وتشكّل شرابًا للنّفس، وينبوعًا صافيًا لا ينضب للحياة الرّوحيّة" (الدّستور العقائديّ في الوحيّ الإلهيّ، 21).

وتؤكّد الرّسالة إلى العبرانيّين أنّ "كلمة الله حيّة وفاعلة" (عب 4: 12).

4. لا يمكن قبول كلمة الله سوى بالعقل والقلب، كأرض طيّبة، لكي تثمر في المؤمنين حياة روحيّة وأخلاقيّة حارّة وفاعلة، وفي الجماعة ثقافةً وحضارة تطبع بمضمونها الحياة العائليّة والاجتماعيّة، وثقافة الشّعوب.

نفهم من هذا التّعليم أنّ كلمة الله نور وحياة: هي نور، كما نصلّي في المزمور 119 "كلامك مصباح لخطاي ونور لسبيلي". وهي حياة، كما قال بطرس ليسوع: "إلى من نذهب وكلام الحياة الأبديّة عندك!" (يو 6: 68).

يحذّرنا المسيح الرّبّ من ثلاثة مواقف تعطيليّة لكلام الله.

الأوّل، حالة اللّامبالاة، المتمثّلة بالحبّ الذي يقع على جانب الطّريق. هذه علامة الإهمال وعدم الإكتراث لله ولكلامه، وللكنيسة وتعليمها. وهذا دليل على عدم الاحترام لله وللمسيح وللكنيسة، وعلى تعطيل لكلام الحياة، وبقاء في حالة الانحراف.

الثّاني، حالة السّطحيّة، المتمثّلة بالحَبّ الذي يقع على الصّخرة. هذه حالة العقول والقلوب المتحجّرة، التي لا تختزن أيّ عمق على مستوى التّفكير، أو أيّ استعداد للتّعمّق في سرّ الله وسرّ الحياة ومعنى الوجود، وللتّساؤل حول مسألة الخير والشّرّ، ومصير الإنسان الأبديّ ودعوته ورسالته في حياته التّاريخيّة. هؤلاء سطحيّون ولا يوجد عندهم أيّ عمق أو ثقافة روحيّة وأخلاقيّة. فتيبس عندهم كلمة الحياة حالًا بعد سماعها، إذ لا شيء عندهم يُنعشها.

الثّالث، حالة المنهمكين في شؤون الأرض، وكأنّها الغاية الوحيدة والهدف من الوجود. تتمثّل هذه الحالة بالحَبّ الذي يقع بين الأشواك. هي حالة الذين لا يهمّهم من الوجود سوى الأكل والشّرب واللّباس وتأمين المال وجمعه. هؤلاء يعيشون من الأرض وللأرض وجوههم إلى تحت علمًا أن الله خلقنا على قدمين لكي تبقى عيوننا إلى فوق. هؤلاء لا يعنيهم أي شيء آخر في كلّ ما يختصّ بالله والكنيسة والمجتمع. يعيشون لنفوسهم، ومصالحهم ومشاريعهم، غير معنيّين بحاجات النّاس، وبالواجب تجاه الله والمجتمع. وبخاصّة تجاه الأخوة والأخوات الذين هم في حاجة. وأنتم في كاريتاس اختبرتم الكثير من مثل هؤلاء الذين لا يروا الفقراء والمحرومين والجائعين لأنّهم يأكلون ويشربون مفن لا يختبر الجوع لا يعرف قيمته.

5. لا يستطيع أحدٌ، وبخاصّة إذا كان في موقع المسؤوليّة، أن يجهل كلام الله، أو أن يهمله، أو أن يستغني عنه، أو أن يعطّله فتأتي أعماله وأقواله خارجة عن القاعدة الأخلاقيّة التي تميّز بين الخير والشّرّ، وبين الحقّ والباطل.

من يعطّل مفعول كلام الله إنّما يعطّل حتمًا كلّ ما هو حقّ وعدل وسلام واستقرار. بل يعطّل صوت الضّمير الذي هو صوت الله في داخل الإنسان، يدعوه لفعل الخير وتجنّب الشرّ. هذه هي مشكلة الممارسة السّياسيّة عندنا في لبنان التي أوصلته إلى تفكك مؤسّساته الدّستوريّة وتعطيلها وإلى الانهيار الاقتصاديّ والمالي. ونتساءل:

ماذا يبغي أسياد تعطيل إنتخاب رئيس للجمهوريّة وفقًا للدّستور منذ أحد عشر شهرًا؟ وهم يدركون أنّهم بذلك يحوّلون المجلس النّيابيّ من هيئة تشريعيّة إلى هيئة انتخابيّة فقط، ويتّهمون المقاطعين بأنّهم لا يريدون انتخاب رئيس، ويعادون الطّائف! وهم يدركون أيضًا أنّ حكومة تصريف الأعمال لا تستطيع إجراء تعيينات وإتخاذ قرارات إجرائيّة تستدعي مشاركة رئيس الجمهوريّة وتوقيعه، وينتقدون مقاطعي الجلسات حفاظًا على الدّستور ويبتكرون "الضّرورة" للتّشريع والتّعيين والإجراء! فيما "الضّرورة" واحدة وأساسيّة وهي انتخاب رئيس للجمهوريّة. وهي المدخل إلى التّشريع والتّعيين والإجراء، لأنّ بوجود الرّئيس يستعيد المجلس النّيابيّ طبيعته كهيئة تشريع ومحاسبة ومساءلة، وتستعيد الحكومة كامل صلاحيّاتها الإجرائيّة. ويسلم الدّستور؟ 

فإلى متى، يا معطّلي انتخاب رئيس للجمهورية، تخالفون الدّستور، وتهدمون الجمهوريّة، وتعطّلون الحياة الاقتصاديّة والماليّة، وتبعثرون السّلطة، وتفقّرون الشّعب وتهجّرونه إلى أوطان غريبة؟ خافوا الله ولعنة التّاريخ! لقد شكرنا الله على عودة الممارسة الدّيموقراطية في اختيار الرّئيس انتخابًا بين متنافسين ظهورًا جليًّا في جلسة 14 حزيران الماضي الانتخابيّة. لكن لم نفهم لماذا بُترت الجلسة بعد دورتها الأولى الأساسيّة، بمخالفة واضحة للمادة 49 من الدّستور وفي هذه الأيّام تسمعونهم يتكلّمون عن سؤال وجواب ولقاء وحوار. فالحوار الحقيقيّ والفاعل هو التّصويت في جلسة انتخابيّة دستوريّة ديموقراطيّة. والمرشّحون موجودون ومعروفون.

6. ونحن، أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، فلنتمسّك برجائنا بالله، فهو نصير شعبه وله المجد والشّكر إلى الأبد، آمين."