الرّاعي: لا من سبيل إلى الخروج من هذه الحالة إلّا بالعودة إلى نظام الحياد النّاشط
"الوحدة الدّاخليَّة هي الأساس في حياة العائلة والمجتمع والدّولة، بل وفي كلِّ جماعةٍ منظَّمة. عندما شفى الرَّبُّ يسوع ذاك "الأعمى الأخرس"، إعتبَرَ الفرِّيسيُّون أنَّه طردَ منه الشَّياطين لأنَّه "رئيس الشَّياطين". لكنَّ هذا مخالفٌ للمنطق البديهيّ. فهل يُعقَل أن يَطرُدَ شيطانٌ شيطانًا؟ فكانت كلمةُ الرَّبِّ التَّعليميَّة: "كلُّ مملكةٍ تنقسم على نفسها تخرب، وكلُّ مدينةٍ أو بيتٍ ينقسم على نفسه، لا يثبُت" (متّى 25:12).
هذه الحقيقة يعرفها الجميع، واختبرها كثيرون سواء في الحياة الزّوجيَّة والعائليَّة، أم في الحياة الاجتماعيَّة، أم في الدّولة. نحن في لبنان، بسبب الولاءات للخارج والاستتباعات والخلافات على الحصص، والخروج روحًا ونصًّا عن الدّستور والميثاق ووثيقة الوفاق الوطنيّ الّتي أُقرَّت في مؤتمر الطَّائف، أصبحنا مشرذمين مفكَّكين وفاقدي الثّقة بعضِنا ببعضٍ حتَّى وبالدّولة والمسؤولين السِّياسيِّين، كما يُعرِب شبَّان وشابَّات "الثّورة". فلا يمكن الاستمرار في هذه الحالة الّتي شلَّت عملَ المؤسَّسَات، وأمعنَتْ في الانقسام السِّياسيّ، وأهلَكَتِ الحياة الاقتصاديَّة، وأفرغَت الخزينة، ورمَت الشَّعب في حالة الفقر والبطالة والحرمان. فلا من سبيل إلى الخروج من هذه الحالة إلّا بالعودة إلى نظام الحياد النّاشط المثلَّث الأبعاد كما سنرى.
إنَّ سرَّ الإفخارستيَّا الّذي نحتفل به، والّذي هو حضور الرَّبِّ يسوع الفادي والمخلِّص تحت أشكال الخبز والخمر، حضورًا حقيقيًّا، واقعيًا سرِّيًّا لا دمويًّا، هو رباط المحبَّة. إنَّ اشتراكنا فيه دعوةٌ إلى شدِّ أواصر الوحدة في العائلة والمجتمع والدّولة. فالخبز في الأساس مؤلَّفٌ من حبَّات قمحٍ كانت منتثرة في السُّهُول، وقد جُمعَت وطُحنَت وخُبزَت، ليُصبِح الخبزُ جسدَ الرَّبِّ الواحد. وكذلك الخمرة كانت حبَّات من عناقيد العنب، جُمعَت وعُصرَت وطُبِخَت لتُصبِح دمَ المسيح الواحد. هكذا نحن مدعوُّون على كثرتنا لنؤلِّف جماعةً واحدة موحَّدة.
يُسعِدُنا أن نحتفل معكم بهذه اللِّيتورجيَّا الإلهيَّة، أنتم أيُّها الحاضرون معنا في كاتدرائيَّة الكرسيّ البطريركيّ في الدّيمان، وأنتم الّذين تشاركوننا روحيًّا عبر محطَّة تيلي لوميار– نورسات، والفيسبوك وسواهما. فأُرحِّبُ بكم جميعًا مع تحيَّةٍ خاصَّة إلى أساتذة الجامعة اللُّبنانيَّة الحاضرين معنا، الحريصين على أن تظلَّ "جامعة وطنيَّة" تجمَعُ في كلِّيَّاتها وفروعها أساتذةً وطلاَّبًا من مختلف المناطق والانتماءات والطَّوائف، وترسم صورةً حقيقيَّةً وواقعيَّةً عن ميزة العيش المشترك في لبنان. هذا ما عبَّرَت عنه كنيستُنا المارونيَّة في مجمعها البطريركيّ المنعقد من سنة 2003 إلى 2006، في نصِّه السَّابع عشر: "الكنيسة المارونيَّة والتَّعليم العاليّ". فأنشأنا لجنةً للتَّنسيق والتَّعاون مع رئاسة الجامعة.
لكنَّ الأمور خرجَت عن إطار هذا التَّعاون مع الرِّئاسة الحاليَّة. فثمَّة حاجةٌ إلى إصلاح بعض الخلل فيها من مثل: غياب سلطة القانون وخضوعها للاستنسابيَّة؛ تغييب دور مجلس الجامعة الّذي هو الشَّريك الأساسيّ والأهمّ في إدارتها منعًا لسيطرة فريقٍ على الآخرين، ولتجيير القرارات لمصلحته الشَّخصيَّة أو لمصلحة طائفته أو حزبه؛ تعيين عمداء بالتَّكليف بدل التَّعيين بالأصالة وعلى قاعدة اختيار الأصلح والأكثر نزاهةً وحيادًا وكفاءة؛ إعتماد تأجيل البتّ بقضايا أساسيَّة، وهذا يُنذِر بالانفجار.
أمام هذا الواقع، بات مُلحًّا أن تنظر الحكومة والمجلس النّيابيّ بروح المسؤوليَّة في أمور هذه الجامعة الرّسميَّة الوحيدة، لترسم لها رؤيةً جديدةً في دورها ووظائفها وحضانتها للمبدعين من مختلف المكوّنات الاجتماعيَّة. فتختار لها أفضل قيادة، رئاسةً ومجلسًا. هذه الجامعة الّتي تضمُّ تسعةً وسبعين ألف طالب، وسبعة آلاف أستاذ، ونحو أربعة آلاف موظَّف، وستَّ عشرة كليَّةً، وخمسين فرعًا جامعيًّا، وثلاثة معاهد عليا للدّكتوراخ، إنَّما تحتاج حقًّا اهتمامًا كبيرًا من الدّولة اللُّبنانيَّة وحمايةً وتعزيزًا.
إحتفل الجيش اللُّبنانيّ أمس بيوبيله الماسيّ وقد مرَّت خمسٌة وسبعون سنة على تأسيسه. فيَطيبُ لنا أن نقدِّم معكم أخلص التَّهاني لقائده العماد جوزف عون، وسائر القادة والضُّبَّاط والأفراد، راجين لهذه المؤسَّسة الوطنيَّة دوام التّقدُّم والازدهار من أجل حماية لبنان وشعبه. وإذ ندعو اللُّبنانيِّين إلى الالتفاف حوله، والشَّباب إلى الانخراط في صفوفه، فإنَّا نفاخر بكفاءته وقوَّته وشجاعته الّتي تؤهِّله ليكون حامي الوطن إلى جانب المؤسَّسات الأمنيَّة الأخرى. ونهيب بالدّولة أن تمحضه ثقتها، وتؤمِّن له كلَّ حاجاته وبسخاء.
ويحتفل الإخوة المسلمون بعيد الأضحى المبارك. فإنَّا نهنِّئهم بالعيد، سائلين الله عزَّ وجلّ أن يفيض عليهم بركاته خيرًا وسلامًا وحياةً كريمة.
يَظهر في إنجيل اليوم أن النَّاس فئتان: فئة الودعاء المتجرِّدين المنفتحين على علامات حضور الله ومواهبه وهباته في الأشخاص. هؤلاء، لمَّا شاهدوا بانذهالٍ شفاءَ الأخرس الأعمى، رأوا علامةَ المسيح الآتي وقالوا: "أليس هذا ابنَ داود؟" (متّى 23:12). أمَّا الفئة الثّانية، فهي فئة الممتلئين من ذواتهم، المتكبِّرين، المنغلقين على قراءة علامات حضور الله، والرّافضين لهباته ومواهبه في الآخرين حقدًا وبغضًا. هذه فئة الفرِّيسيِّين الّذين لمَّا رأوا آية الشِّفاء قالوا فيما بينهم: "هذا لا يطرد الشَّياطين إلاَّ ببعل زبوب، رئيس الشَّياطين" (متّى 24:12). فلنصلِّ لكي نكون نحن من الفئة الأولى المنفتحة على قراءة حضور الله.
لكنَّ الرَّبَّ يسوع، بأسلوبه التَّربويّ، دخلَ في حوارٍ مُحبٍّ معهم. فبيَّنَ لهم أنَّه مِن غير الممكن أن يطرد رئيسُ الشَّياطين شيطانًا آخر، وإلاَّ انقسمَ على نفسه، فتخرب مملكته (الآية 26). وكشفَ لهم أنَّه بقوَّة الرّوح الإلهيِّ يطرد الشَّياطين ويشفي المرضى (الآية 28). ودعاهم بالتّالي ليدركوا أنَّ ملكوت الله أتى، وأنَّ الله حاضرٌ بشخص المسيح في تاريخ البشر، ودعاهم ليسيروا على خطاه في الجمع بين النّاس، لا في إذكاء الانقسامات، مستمدِّين قوَّتهم من الرّوح القدس الّذي يحيي ويوحِّد (راجع الآيات 30-32).
من أجل بناء وحدتنا الدّاخليَّة، وحماية كياننا اللُّبنانيّ، والاستقرار، دعوتُ للعودة إلى نهج الحياد النّاشط الّذي تأسَّست عليه سياسة لبنان الخارجيَّة منذ الاستقلال النّاجز سنة 1943. لهذا الحياد ثلاثة أبعاد متكاملة ومترابطة وغير قابلة للتّجزئة:
الأوَّل، هو عدم دخول لبنان قطعًا في أحلاف ومحاور وصراعات سياسيَّة، وحروب إقليميَّة ودوليَّة. وامتناع أيّ دولةٍ عن التّدخُّل في شؤونه أو اجتياحه أو احتلاله أو استخدام أراضيه لأغراض عسكريَّة.
الثّاني، هو تعاطف لبنان مع قضايا حقوق الإنسان وحرّيَّة الشُّعوب ولاسيَّما القضايا العربيَّة الّتي تُجمِع عليها دولها والأمم المتَّحدة. لبنان المحايد يستطيع القيام بدوره في محيطه العربيّ، وهو درو مميّز وخاصّ وتحقيق رسالته كأرض التَّلاقي والحوار بين الدّيانات والثّقافات والحضارات.
الثّالث، هو تعزيز الدّولة اللُّبنانيَّة لتكون دولةً قويَّةً عسكريًّا بجيشها، تدافع عن نفسها بوجه أيِّ اعتداءٍ، أكان من إسرائيل أو من أيِّ دولةٍ سواها؛ ولتكون دولةً قويَّةً بمؤسَّسَاتها وقانونها وعدالتها ووحدتها الدّاخليَّة، فتوفِّر الخير العامّ وتعالِج شؤونها الدّاخليَّة والحدوديَّة بذاتها.
لستُ أدري إذا كان أحدٌ يعنيه حقًّا خيرُ لبنان وشعبه، وضمانةُ وحدته، وعودتُه إلى سابق عهده المزدهر، يرفض هذا "الحياد النّاشط" أو يُشكِّك فيه أو يدَّعي أنَّه لا يلقى إجماعًا أو يَعتبِر أنَّ تحقيقه صعب. وفي كلِّ حال، إنَّ مَن يَسعى يَصِل دومًا بالاتِّكال على الله، له المجد والتّسبيح الآن وإلى الأبد، آمين."