الرّاعي: قفوا أيّها المسؤولون والنّافذون والمعطّلون أمام محكمة الله والضّمير والشّعب والتّاريخ
"1. تدعونا الكنيسة في هذا الأحد وطيلة الأسبوع الطّالع لنتذكّر موتانا وسائر الموتى المؤمنين. نصلّي من أجل راحة نفوسهم في مشاهدة وجه الله، مقدّمين القدّاسات، وأعمال رحمة ومحبّة. ونسأل الله أن يخفّف من آلامهم المطهريّة وينقلهم إلى سعادة السّماء، ونستشفعهم ليضرعوا إلى الله من أجلنا لكي نبلغ إلى ميناء الخلاص في هذه الدّنيا وفي الآخرة.
تتلو الكنيسة في هذه المناسبة إنجيل الغنيّ ولعازر. يعلّمنا الرّبّ يسوع في هذا المثل أنّنا بولادتنا من أمّهاتنا نبدأ وجودنا التّاريخيّ، ومسيرتنا نحو وجودنا الأبديّ. بنوعيّة حياتنا على الأرض، يقرّر كلّ واحد وواحدة منّا نوعيّة وجوده الأبديّ: إمّا خلاصًا أبديًّا، وإمّا هلاكًا. بهذا المعنى قال إبراهيم للغنيّ: "وها لعازر الآن يستريح هنا، وأنت تتعذّب هناك" (لو 12: 25).
2. يسعدنا أن نحتفل بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، ذاكرين فيها موتانا وسائر الموتى المؤمنين. وإذ أرحّب بكم جميعًا أوجّه تحيّة خاصّة لعائلة المرحومة عدلا الشّدراوي أرملة المرحوم الأستاذ لويس أبو شرف، الوزير والنّائب السّابق. وقد ودّعناها منذ عشرة أيّام مع أبنائها وبناتها وعائلاتهم والأنسباء والعديد من اللّبنانيّين والرّسميّين. كما أوجّه تحيّة خاصّة أيضًا إلى عائلة المرحومة حليمة نظير سمعان الياس، أرملة المرحوم أديب كريم الشّرتوني الّتي ودّعناها منذ خمسة أيّام مع ابنيها وابنتها وأشقّائها وشقيقاتها وعائلاتهم والعديد من أهالي بسوس العزيزة وسواها. إنّنا نصلّي لراحة نفسي المرحومتين عدلا وحليمة، ولعزاء أسرتيهما والأصدقاء.
3. وهبنا الله، لكي نحسن نوعيّة وجودنا التّاريخيّ، ثلاث مَلَكات: العقل الّذي يقودنا إلى الحقيقة، والإرادة الّتي بها نحبّ الحقيقة ونفعل الخير، والحرّيّة الّتي بها نتخّذ خياراتنا اليوميّة في إطار الحقيقة والخير. وبما أنّنا سريعو العطب، بسبب جرح الخطيئة الأصليّة ونقصنا كخلائق، ينحرف العقل، مخدوعًا، إلى ظلمة الضّلال والكذب، وتنحرف الإرادة إلى الأنانيّة والشّرّ، وتسكر الحرّيّة من هوى خياراتها المدمّرة. فأعطانا الله كلامه ونعمته، غفرانه وجسده لنشفى ونصحّح وننهض ونتقوّى: "عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا لهم (لو 16: 29).
موسى والأنبياء، هم اليوم الكنيسة الّتي تحمل للعالم كلام الإنجيل ونعمة الأسرار ومحبّة المسيح.
4. مشكلة الغنيّ ليست في ملكيّته، فهي حقٌّ طبيعيّ للإنسان أقرّته الشّرائع الإلهيّة والبشريّة (البابا لاون الثّالث عشر: الشّؤون الحجيثة، 6-7)، بل في عبادة ملكيّته وثروته. فكان الغنى الإله الأكبر عنده، إذ راح يبحث عن سعادته في غناه لا في الله. نقرأ في التّعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة: "المال في يومنا هو الإله الأكبر، ويؤدّي له النّاس إكرامًا عفويًّا. إنهّم يقيسون الكرامة والسّعادة بمقياس الغنى، لاعتقادهم أنّ الإنسان الحاصل على الثّروة يقدر على كلّ شيء. الغنى صنم من أصنام عصرنا (فقرة 1723). الملكيّة الخاصّة ضروريّة للحياة البشريّة، لكنّها تفترض حسن التّصرّف بها، إذ لا يحقّ للإنسان أن يعتبر الأشياء الّتي يملكها خاصّة به وحده، بل ينبغي أن يعتبرها مشتركة، عملًا بوصيّة بولس الرّسول: "أوصٍ أغنياء هذا العالم ألّا يتّكلوا على الغنى الذّي لا اتّكال عليه، بل على الله الحيّ الّذي وهبنا بكثرة كلّ شيء لراحتنا، وأن يصنعوا الخير ويطلبوا الغنى بالأعمال الحسنة، فيعطوا ويشاركوا بسهولة" (1 طيم 6: 17-18).
5. لعازر الفقير لم ينل الخلاص لأنّه فقير؛ فالله كلّي الجودة لا يريدنا فقراء بمعنى العوز والحرمان، بل يريدنا فقراء بالرّوح، غير متعلّقين بأموال هذه الدّنيا حتّى عبادتها، ومتجرّدين. نال لعازر الخلاص لأنّه ارتضى حالة الفقر، وصبر على محنته، وحمل صليبه دونما اعتراض، واتّكل على عناية الله، وعاش في تواضع. نال الخلاص لأنّه لم يشتهِ مال الغنيّ، رافضًا اللّجوء إلى العنف والسّرقة والاحتيال والتّعدّي الظّالم، عملًا بوصايا الله؛ ولأنّه كان حرًّا من "شهوة العين" (1 يو 2: 16) نقيّ القلب وصافي النّيّة.
لعازر الفقير كان طريق ذاك الغنيّ إلى خلاصه الأبديّ، فإهماله للعازر المنطرح أمام باب دارته، مميلًا نظره عن بؤسه، وصامًّا أذنيه عن أنينه، وغرقُه في ملذّاته وأنانيّته، سبّبا له الهلاك الأبديّ.
6. هذا المثل الإنجيليّ ينطبق تمامًا عندنا في لبنان: فالغنيّ متمثّل بالمسؤولين والنّافذين والمعطّلين لانتخاب رئيس للجمهوريّة، وبالتّالي لانتظام الدّولة والمؤسّسات الدّستوريّة. ولعازر الفقير متمثّل بالشّعب اللّبنانيّ العائش في الفقر المدقع والحرمان الشّامل من حقوقه الأساسيّة. فليدرك الأوّلون أنّهم مع الأيّام الّتي تمرّ، والحالة الاقتصاديّة والمعيشيّة سائرة من سيّء إلى أسوأ، إنّما يكدّسون جرائمهم قاتلة هذا الشّعب.
7. قفوا أيّها المسؤولون والنّافذون والمعطّلون أمام محكمة الله والضّمير والشّعب والتّاريخ. وإعلموا أنّ كلّ نداء يأتيكم من المجتمعين العربيّ والدّوليّ ليس مجرّد تمنٍّ، بل هو إدانة لفسادكم وسوء استعمال سلطتكم ونفوذكم. فأين أنتم من مسؤوليّتكم الدّستوريّة الأولى بانتخاب رئيس للجمهوريّة الّذي يشرّع عمل المجلس النّيابيّ والحكومة؟ وأين أنتم من إجراء الإصلاحات المطلوبة دوليًّا؟ وأين أنتم من رفع يدكم عن القضاة والقضاء لكي يتواصل التّحقيق في تفجير مرفأ بيروت من أجل إجلاء الحقيقة وممارسة العدالة؟ أين أنتم من تنفيذ الإجراءات المنتظرة من صندوق النّقد الدّوليّ والأسرة الدّوليّة؟ أين أنتم من تحقيق دولة القانون والخروج من الفلتان وانتشار السّلاح غير الشّرعيّ وشريعة الغاب؟ أين أنتم من توطيد سيادة لبنان على كامل أراضيه وتثبيت استقلاله.
8. يتكلّمون عن الحوار وعن مبادرة ما من البطريركيّة، إنّ الكرسيّ البطريركيّ الّذي ما توانى يومًا عن تحمّل المسؤوليّة يتمنّى على جميع القوى السّياسيّة أن تشاركه المسؤوليّة بصراحة ووضوح ليكون النّجاح حليفنا جميعًا. فإذا كان رئيس الجمهوريّة مارونيًّا فالنّاخبون ليسوا جميعهم موارنة ومسيحيّين. وإذا كان جزء من مسؤوليّة الشّغور الرّئاسيّ يتحمّلها القادة المسيحيّون، فالمسؤوليّة الكبرى تقع على غيرهم. لأنّ المسيحيّين مختلفون على هويّة الرّئيس بينما الآخرون مختلفون على هويّة الجمهوريّة. لذلك نحن حريصون على عدم المسّ بهويّة لا الرّئيس، ولا الجمهوريّة لأنهما ضمانة لوحدة لبنان والكيان في ظلّ المشاريع الدّاخليّة والأجنبيّة الّتي وضعت لبنان على المشرحة دون أيّ اعتبارٍ لتاريخ هذه الأمّة وخصوصيّتها. ولبنان ليس نظامًا ينتقل من فريق إل فريق، إنّما أمّة تنتقل من جيل إلى جيل عبر الآليّة الدّيمقراطيّة دون ما سواها.
9. في كلّ حال يبقى الموضوع الأساس أن يلتئم مجلس النّوّاب وينتخب رئيسًا بموجب المادّة 49 من الدّستور. إنّ عدم التئامه والتّمادي في الشّغور لا يبرّر مخالفة المادّتين 74 و75 منه اللّتين تعلنان "المجلس النّيانيّ هيئة انتخابيّة لا تشريعيّة". إنّ مخالفتهما تنسحب على مخالفة المادّة 57 المختصّة بصلاحيّة رئيس الجمهوريّة، وتقضي على مبدأ فصل السّلطات الّذي تقرّه مقدّمة الدّستور في بنده (هاء).
فمن أجل هذا، يعتصم النّائبان، مشكورين، في المجلس النّيابيّ بصورة متواصلة منذ خمسة وعشرين يومًا، من دون كهرباء ودفء في هذه الأيّام، والبرد قارس، محرومين من التّنقّل والاستجمام والعيش في دفء عائلتيهما. إنّنا نعوّل على حكمة دولة رئيس مجلس النّوّاب للمحافظة على وحدة المجلس.
10. بإنتخاب الرّئيس المناسب والأفضل ينتظم عمل المؤسّسات وتتوقّف المتاجرة بثروات الدّولة على حساب خزينتها والشّعب! فبالنّسبة إلى مرفأ بيروت، لا اتّفاقيّات ثنائيّة مشبوهة دون إعلان دوليّ على المزايدة! وبالنّسبة إلى الموانئ اللّبنانيّة ككلّ، لا مشاريع تمرّ في المجلس النّيابيّ بالمحسوبيّات والمصالح الخاصّة. وبالنّسبة إلى وزارة الزّراعة وضبط توزيع المساعدات على المزارعين يجب إعطاء كلّ مزارع لبنانيّ رقمًا من وزارة الماليّة، ومنه يتمّ بيع المحصول إلى التّجّار، وبعدها تتمّ عمليّة التّصدير. وبالنّسبة إلى ضبط عمليّة تهريب المخدّرات، يجب التّعاون بين مصدّر البضائع ومستوردها وفقًا للأصول.
11. لا يمكن الاستمرار في هدم ما تميّز به لبنان من تقدّم وازدهار في بيئته، على كلٍّ من المستوى العلميّ والثّقافيّ والطّبّيّ والاستشفائيّ والمصرفيّ الرّفيع، والتّنوّع الثّقافيّ والدّينيّ في الوحدة الوطنيّة، والعيش معًا بالتّعاون والاحترام المتبادل والتّكامل في الهويّة الوطنيّة وحضارتها، وحرّيّة المعتقد والتّعبير، والانفتاح على الشّرق والغرب والتّواصل الثّقافيّ والاقتصاديّ معها.
هذه الحالة إذا عادت إلى لبنان تمجّد الله وتسبّحه الآن وإلى الأبد، آمين."