لبنان
04 نيسان 2022, 06:30

الرّاعي في وداع المطران بو جوده: فليضمّه الله إلى جوق الرّعاة الصّالحين!

تيلي لوميار/ نورسات
ودّعت الكنيسة المارونيّة وأبرشيّة طرابلس المارونيّة، يوم السّبت، المثلّث الرّحمة المطران بو جوده في صلاة ترأّسها البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي في كنيسة مار مارون- طرابلس، بعد أن نظّمت المطرانيّة عدّة محطّات لاستقبال رئيس أساقفتها السّابق، كان أوّلها، بعد انطلاقه من مركز بحنّس الاستشفائيّ، في رعيّة شكّا، ثمّ في قلّاية الصّليب في المطرانيّة، ليتّجه بعده الموكب نحو كنيسة مار مارون حيث سُجّي الجثمان وتُليت صلاة وضع البخور، لتنطلق بعدها قدّاسات المرافقة على مدار السّاعة.

شارك في رتبة الجنّاز: السّفير البابويّ جوزيف سبيتيري، وراعي الأبرشيّة المطران يوسف سويف، ولفيف من المطارنة الموارنة. كما شارك ممثّل بطريرك الرّوم الملكيّين الكاثوليك المطران إدوار ضاهر، وممثّل بطريرك السّريان الكاثوليك المطران ماتياس شارل مراد. وحضر ممثّل رئيسي الجمهوريّة والحكومة وزير السّياحة وليد نصّار وممثّل رئيس مجلس النّوّاب النّائب علي درويش، إضافة إلى فعاليّات عسكريّة وسياسيّة ودينيّة وشعبيّة.

وللمناسبة، كانت للبطريرك الرّاعي عظة ألقاها تحت عنوان "أعرف خرافي وخرافي تعرفني" ( يو 10: 14)، قال فيها:

"1. المثلّث الرّحمة المطران جورج "عرف خرافه" في أبرشيّة طرابلس العزيزة، الّتي تودّعه اليوم بالأسى الشّديد، وترافقه بصلاة الرّجاء، في عبوره إلى بيت الآب. وفي قلبه كلمة بولس الرّسول لتلميذه تيموتاوس: "لقد جاهدت الجهاد الحسن، وتمّمت سعيي وحفظت إيماني" (2 تيم 4: 7). وهي كلمة استقرأها خلفه سيادة أخينا المطران يوسف سويف، وتوّج بها ورقة نعييه.

2. أجل، جاهد المطران جورج الجهاد الحسن، محافظًا على الإيمان الّذي تربّى عليه في البيت الوالديّ، في جورة البلّوط العزيزة، بيت المرحومين بشارة صوما بو جوده وميلاده طنّوس، إلى جانب شقيقة وثلاثة أشقّاء، سبقه إثنان منهم إلى دار الخلود، هما المرحومان سمير العميد في قوى الأمن الدّاخليّ، وفؤاد الرّئيس لدائرة في وزارة الاتّصالات. فنرجو العمر الطّويل للعزيزة لودي وللعزيز الدّكتور صوما الأستاذ في الجامعة الأميركيّة-بيروت، الّذي حضر من الولايات المتّحدة الأميركيّة حيث كان يحاضر، ليلقي النّظرة الأخيرة على الحبر شقيقه، ويطبع على يده قبلة الوداع. لقد عرفنا شخصيًّا هذه العائلة بكلّ أفرادها، عندما كنت أحيي في الرّعيّة رياضة الصّوم أكثر من مرّة بدعوة من كاهنها المرحوم الخوري فيليب العلم. وكنت دائمًا أدخل بيتهم لإيمانهم ومشاركتهم وحبّهم للكنيسة.

3. وترسّخ الإيمان في الشّابّ جورج، متجذّرًا بروح الصّلاة في مدرسة راهبات المحبّة برمّانا، ما مكّنه من سماع الدّعوة الإلهيّة إلى الحياة المكرّسة في جمعيّة الرّسالة للآباء اللّعازريّين، فلبّاها وهو بعمر اثنتي عشرة سنة. فنما إيمانه بروح الرّسالة والانفتاح على العمل الرّسوليّ الاجتماعيّ في خدمة المحبّة، وأمامه مثاله القدّيس منصور دي بول، أبو الفقراء، في رسالة محبّة المسيح الاجتماعيّة.

فمن بعد أن أنهى دروسه الفلسفيّة واللّاهوتيّة في جامعة القدّيس يوسف، وسنتي الابتداء وإبراز النّذور الرّهبانيّة في داكس بفرنسا، تابع دراسته الجامعيّة في العلوم الاجتماعيّة، فنال شهادة الماستير من الجامعة اللّبنانيّة، والدّراسات المعمّقة من المعهد العالي للعلوم الاجتماعيّة في باريس، وسيم كاهنًا في عيد مار مارون 9 شباط 1968.

4. وإنطلق الأب جورج إلى الرّسالة مزوّدًا بالفضيلة والعلم والرّوح الرّساليّ والغيرة الكهنوتيّة من دون أن يهدأ. ففي جمعيّة الآباء اللّعازريّين، أسندت إليه تباعًا منذ رسامته الكهنوتيّة حتّى انتخابه مطرانًا لأبرشيّة طرابلس العزيزة في أيلول 2005، المهام التّالية: إدارة بيت مار منصور للطّلّاب في الأشرفيّة، وكالة المدرسة الإكليريكيّة في الفنار وتدريس اللّغتين اللّاتينيّة والفرنسيّة فيها، إدارة الابتداء، رئاسة دير مار يوسف- مجدليا لأكثر من حقبة، رئاسة الدّير المركزيّ- الأشرفيّة بيروت، مرشديّة حركة الشّبيبة المريميّة في إقليم الشّرق، ثمّ عُيّن رئيسًا إقليميًّا للآباء اللّعازريّين في الشّرق لستّ سنوات. في كلّ هذه المسؤوليّات كان مجدِّدًا على كلّ صعيد. ومن بين إنجازاته ترميمُ دير مار يوسف- مجدليا، وإعادةُ الحياة إليه بعد أن دمّرته الحرب، وجعلُه مركز إشعاع روحيّ.

5. "أعرف خرافي وخرافي تعرفني" ( يو 10: 14)

لم يفكّر يومًا المثلّث الرّحمة المطران جورج، ولا أحد غيره، إلّا المسيح "راعي الرّعاة العظيم" (1بط5 :4)، في أنّه سيُنتخب مطرانًا لأبرشيّة طرابلس، لأنّه ينتمي إلى جمعيّة لاتينيّة. لكنّ الرّوح القدس كان يهيّئه حتّى يوم انتخابه بصوت آباء السّينودس المقدّس، ومنحه الشّركة الكنسيّة من قداسة البابا السّابق بندكتس السّادس عشر.

كان الرّوح يهيّئه خطوة خطوة إذ كان يلهمه في نشاطاته المتعدّدة والمتنوّعة، وإطلالته المميّزة في رحاب كنيستنا المارونيّة وأبرشيّة طرابلس العزيزة وكنيسة لبنان، فكان يعرف خراف المسيح من مؤمنين ومؤمنات، فتيانًا وشبابًا وكبارًا، وهي تعرفه، قبل أن ينتخب راعيًا لهم في الأبرشيّة. إنّه دخلها من بابها العريض.  

6. في رحاب الكنيسة المارونيّة وكنيسة لبنان، أُسندت إليه مرشديّة لجنة الشّبيبة في المجلس الرّسوليّ العلمانيّ، والعضويّة في ثلاث لجان أسقفيّة "لرسالة العلمانيّين" و"للتّعاون الرّساليّ بين الكنائس" و"لتحضير يوبيل السّنة 2000"، فالمرشديّة العامّة لرابطة الأخويّات في لبنان، والعضويّة في جمعيّة سينودس الأساقفة الخاصّ بلبنان. أسّس مع مجموعة من الأخصّائيّين في العلوم الاجتماعيّة حركة "عدالة ومحبّة" لنشر تعليم الكنيسة الاجتماعيّ، ونقل إلى العربيّة رسالة البابا بيوس الحادي عشر "السّنة الأربعون"، وقدّم لها وشرحها. وكتب العديد من المقالات في مجلّة رابطة الأخويّات، ومجلّة المنارة وسواها، بالإضافة إلى إطلالات في إذاعة صوت المحبّة ومحطّة تيلي لوميار. وقام بأعمال الرّسالة والرّياضات الرّوحيّة للكهنة والرّهبان والرّاهبات والعلمانيّين، ونظّم المخيّمات الرّسوليّة في مختلف الأبرشيّات في لبنان وشمالي سوريا. وفي أبرشيّة أنطلياس، علّم مادّتي تاريخ الكنيسة، وتعليمها الاجتماعيّ، في المركز العالي للثّقافة الدّينيّة، وأسّس مع شبيبة بلدته "جورة البلوط" نادي هنيبعل الاجتماعيّ. وهكذا أصبح معروفًا من مطارنة كنيستنا في مختلف الأبرشيّات.

7. أمّا في أرجاء أبرشيّة طرابلس، فقد حاكها في كلّ مناطقها قبل انتخابه مطرانًا، بدءًا من سنة 1969، عندما أطلق مشروع المخيّمات الرّسوليّة في عكّار مع مجموعة من طلّاب دار المعلّمين في الأشرفيّة. وأسّس سنة 1983 مع مجموعة من الشّبّان والشّابّات من الأبرشيّة حركة المرسلين العلمانيّين فيها، وعلّم في إكليريكيّة كرمسده مادّتي تاريخ الكنيسة والتّعليم الاجتماعيّ. وتكثّفت نشاطاته الرّوحيّة والرّساليّة في مختلف مناطق الأبرشيّة خلال السّنوات السّبع عشرة الّتي كان فيها رئيسًا لدير مار يوسف مجدليا. وهكذا، بات يعرف الأبرشيّة بكهنتها وشعبها وحاجاتها وهمومها، وهم يعرفونه.

8. ولمّا طُرح إسمه مطرانًا لأبرشيّة طرابلس مع إثنين آخرين، خلفًا للمثلّث الرّحمة المطران يوحنّا فؤاد الحاج الطّيّب الأثر والذّكر، تمّ انتخابه، فانطلق بالرّوح الرّساليّ الّذي يميّزه لخدمة أبرشيّة أحبّها وأحبّته "مجاهدًا الجهاد الحسن" (2 تيم 4: 7)، في سبيل تعزيز الحياة الرّوحيّة في الرّعايا والعائلات والمنظّمات الرّسوليّة، والزّيارات الرّاعويّة المكثّفة؛ كان حاضرًا مع شعبه في مختلف الظّروف، حضورًا فاعلًا ومحبًّا. وأنشأ مراكز التّنشئة اللّاهوتيّة للعلمانيّين حيث لم تكن موجودة. ووجّه الرّسائل الرّاعويّة العامّة في كلّ سنة، وفي محطّات السّنة اللّيتورجيّة، وقد أصدرها في كتاب بعنوان "رسائل راعويّة"، صدّرناه ببركة رسوليّة، أرادها من كلّ قلبه، بتاريخ 30 تشرين الثّاني 2021.

وقام بمشاريع الإنماء والتّرميم والبناء، فأكمل بناء المدرستين التّكميليّتين في كلّ من القبّة- بطرابلس، وحلبا بعكّار. ورمّم الميتم المعروف بمؤسّسة مار أنطون الاجتماعيّة في كفرفو وجهّزه، وشرع ببناء بيت الفتاة في هذه المؤسّسة. كما رمّم في مجمّع كرمسده كرسيّ المطرانيّة، ومبنى الإكليريكيّة القديم وخصّصه للعمل الرّسوليّ والنّشاطات الرّاعويّة، وجدّد في إجبع مقرّ المطرانيّة الصّيفيّ، وبنى في مدينة القبيّات بعكّار مركزًا للمطرانيّة على إسم مار منصور، وجعله مقرًّا لنائب أسقفيّ مفوّض، ومكانًا للقاءات الأسقف مع كهنة عكّار وشعبها. وسعى وحقّق مع بلديّة طرابس مشكورة إلى تسمية أربعة شوارع في وسط المدينة بأسماء مطارانة سابقين للأبرشيّة تخليدًا لمآثرهم ولذكراهم وهم المثلّثو الرّحمة: أنطون عبد، أنطون جبير، جبرائيل طوبيا ويوحنّا فؤاد الحاج، وقد شاركنا في حينه بإزاحة السّتائر عن لوحات هذه الشّوارع.    

وفي الشّأن الإداريّ، نظّم إدارة مدارس المطرانيّة الخاصّة والمجّانيّة، ووضع قوانين لها واستحدث مكتب المحفوظات، وأمانة سرّ الأبرشيّة مع تجهيزاتها، وأنشأ صندوق تعاضد الكهنة وتقاعدهم، وأسّس المتحف الأبرشيّ في كرسي مار يعقوب- كرمسده، وأطلق المسيرة التّحضيريّة للمجمع الأبرشيّ.

9. وفوق مسؤوليّاته في الأبرشيّة، انتخبه مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان رئيس اللّجنة الأسقفيّة لرسالة العلمانيّين لمدّة ثماني سنوات، كان خلالها يشارك في أيّام الشّبيبة العالميّة ويعلّم فيها التّعليم المسيحيّ باللّغة الفرنسيّة، ثمّ رئيس اللّجنة الأسقفيّة للتّعاون الرّساليّ بين الكنائس لمدّة أربع سنوات.

10. بعد خمس عشرة سنة من الخدمة الأسقفيّة المتفانية، الّتي لم تعرف الكلل أو الملل، قدّم استقالته في آخر تشرين الأوّل 2020، واتّخذ مقرًّا في كرسيّ كرم سدّه، حيث أحاطه مطران الأبرشيّة خلفه والنّائب العامّ والكهنة بكلّ عناية واحترام. لكنّه أخذ يتراجع صحّيًّا شيئًا فشيئًا، ويتردّد بين المستشفى ومقرّه، حتّى أسلم الرّوح بميتة صالحة مزوّدًا بمسحة المرضى والقربان والغفران الكامل، راجيًا أن يشاهد وجه الله الّذي أظهره للنّاس في حياته وأعماله. فليضمّه الله، بغنى رحمته، إلى جوق الرّعاة الصّالحين، وليعوّض على الكنيسة برعاةٍ قدّيسين.

المسيح قام! آمين."

يُذكر أنّ الوزير نصّار قد قلّد المثلّث الرّحمة وسام الاستحقاق الفضّيّ ذو السّعف بإسم رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون.