لبنان
26 آب 2021, 05:00

الرّاعي في وداع المطران الجميّل: لقد طبعت تاريخك بعلامات فارقة... أرقد بسلام!

تيلي لوميار/ نورسات
ودّعت الكنيسة المارونيّة بالأمس رئيس أساقفة أبرشيّة قبرص المارونيّة سابقًا المطران بطرس الجميّل، فترأّس الصّلاة لراحة نفسه البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، بمشاركة السّفير البابويّ في لبنان المونسنيور جوزيف سبيتري، ومطران أبرشيّة قبرص المارونيّة سليم صفير، ومطران أبرشيّة أنطلياس المارونيّة أنطوان بو نجم، والمطارنة أعضاء السّينودس، والرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات للرّهبانيّات ولفيف من الكهنة والرّهبان والرّاهبات، وعائلة المثلّث الرّحمة، وفعاليّات سياسيّة وبلديّة واختياريّة وشعبيّة.

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظة تحت عنوان "أنا أعرف أبي، وأبذل نفسي عن الخراف" (يو 10: 15)، قال فيها:

"1. إنّ أخانا المثلّث الرّحمة المطران بطرس الجميّل، الّذي نودّعه بالأسى والصّلاة، غادرنا مفاجئًا الجميع صباح السّبت الماضي إلى بيت الآب في السّماء. وفاته فاجأتنا، ولكنّها لم تفاجئه هو، إذ كان مستعدًّا لها في كلّ لحظة. وبلغ الاستعداد ذروته، إذ قبل دخوله المستشفى منذ أسبوع إلى الآن، وأثناء زيارة سيادة المطران سليم صفير راعي أبرشيّة قبرص الجديد لوداعه قبل السّفر إلى أبرشيّته، طلب إليه المطران بطرس سماع اعترافه الكامل. يا لها من نعمة فائقة، وميتة صالحة!

بعد رحلة على وجه الأرض دامت تسعة وثمانين سنة، شاءه الله أن يستريح من عمله في الكيان الإلهيّ صباح اليوم السّابع. وها نحن نرافقه بهذه الصّلاة في عبوره من كنيسة الأرض المجاهدة الّتي أحبّها وتفانى في سبيلها، إلى كنيسة السّماء الممجّدة الّتي طالما تأمّل فيها وتاق إليها. فكانت صلاته في أعماق قلبه: "في ليتورجيا الأرض، تشوّقت إليك إلهي في ليتورجيا السّماء" (راجع دستور المجمع الفاتيكانيّ الثّاني: في اللّيتورجيا).

فمذ كان طالبًا في اللّاهوت وفي قلبه عشق للّيتورجيا لأنّه كان يرى فيها بعين الإيمان تجلّيات سرّ الله، وكان يعشق إتقانها لأنّها برموزيّتها تعكس احتفال السّماء بليتورجيا الحمل الإلهيّ. وهكذا كان يتذوّق مسبقًا طعم ليتورجيا السّماء (النصّ الثّاني عشر من المجمع البطريركيّ: اللّيتورجيا المارونيّة، 19). عبر الدّراسات اللّاهوتيّة واللّيتورجيّة ولج في عمق محبّة الآب، فرأى في كهنوته وأسقفيّته خدمة محبّة الآب بالتّفاني وبذل الذّات، على ما صلّى الرّبّ يسوع: "أنا أعرف أبي، وأبذل نفسي عن الخراف" (يو 10: 15). ما يعني أنّ بذل الذّات في سبيل النّفوس إنّما ينبع من معرفتنا لمحبّة الآب. إنّه ينبوع المحبّة في الكنيسة والمسيحيّة.

2. لقد تربّى أساسًا على محبّة الكنيسة واللّيتورجيا منذ صغره بفضل شقيق جدّه الخوري بطرس الجميّل الّذي خدم رعيّة السّيّدة في عين الخرّوبة هذه بكلّ ورعٍ وتقوى. فمشى إدمون (المطران بطرس فيما بعد) على خطاه في درب الكهنوت، وتدرّب على ليتورجيا القدّاس والأسرار والرّتب والزّياحات. وكنّا نقرأ على وجهه ملامح وجه كاهن المسيح. في البيت الوالديّ، بيت المرحومين برجيس وماتيلدا الجميّل كان مشعًّا أمام أشقّائه السّتّة والشّقيقتين بمثله وكان رباط وحدتهم. وآلمته وفاة شقيقيه فخر ورشيد، وشقيقته أوليفيا، فكان إلى جانب عائلاتهم خير معزٍّ، وهم رأوا فيه عمادهم.

3. حالاً بعد رسامته الكهنوتيّة في 29 حزيران 1959، أرسله راعي الأبرشيّة آنذاك، المثلّث الرّحمة المطران الياس فرح، إلى روميه للتّخصّص في العلوم اللّيتورجيّة. فعاد إلى لبنان سنة 1963 حاملاً شهادة دكتوراه في اللّيتورجيا، وراح يمارسها في خدمته الرّوحيّة والرّاعويّة، في حقول التّعليم والتّأليف والكتابة وإلقاء المحاضرات. من دون توقّف، حتّى أصبح رائد مسيرة الإصلاح في حياتنا اللّيتورجيّا وكتبنا الطّقسيّة وقائدها، بعد أن عيّنه سلفنا المثلّث الرّحمة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير رئيس اللّجنة البطريركيّة المارونيّة للشّؤون الطّقسيّة. ولقد بات نتاجه اللّيتورجيّ واللّاهوتيّ والفكريّ يشكّل إرثًا كبيرًا لمكتباتنا المسيحيّة باللّغة العربيّة، ويتألّف من إحدى وثمانين وحدة. هذا يعني أنّ المثّلث الرّحمة المطران بطرس شغل كلّ ساعات نهاره وليله بالإضافة إلى واجباته الرّوحيّة والكنسيّة والرّاعويّة. على كلّ حال، كان جدّيًّا في كلّ شيء.

4. دامت خدمته الكهنوتيّة تسعة وعشرين سنة، والأسقفيّة ثلاثة وثلاثين قضى منها عشرين سنة في رعاية أبرشيّة قبرص. وقد تخلّلها احتفاله بيوبيله الكهنوتيّ الذّهبيّ منذ اثنتي عشرة سنة. وسرّ بالرّسالة البركة الّتي وجّهها إليه بخطّ يده قداسة البابا بندكتس السّادس عشر، وبالرّسالة المماثلة من المثلّث الرّحمة البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس. وتمّ الاحتفال في قبرص ليكون وداعًا لراعيها بعد استقالته بموجب القوانين الكنسيّة.

ترانا أمام واجب الإقرار بصعوبة تعداد مآثره في هاتين الحقبتين، ونختصرهما بأهمّها:

في الفترة الكهنوتيّة، خدم رعيّة مار ضومط برج حمّود مدّة ستّ سنوات، فعزّز الدّعوات الكهنوتيّة، وبنى مجمّعًا رعويًّا. ودعاه المثلّث الرّحمة البطريرك الكاردينال مار بولس بطرس المعوشي ليكون حافظَ المكتبة البطريركيّة، وفي الوقت عينه كان يعمل في إطار اللّجنة البطريركيّة للشّؤون الطّقسيّة كأمينٍ سرّ فمقرّر. وعُيّن مستشارًا للقضايا الطّقسيّة في مجمع الكنائس الشّرقيّة. وعلّم في كلّ من جامعة القدّيس يوسف، وجامعة الرّوح القدس- الكسليك، والجامعة اللّبنانيّة بكليّة الإعلام. وعُيّن زائرًا عامًّا على أبرشيّة قبرص، ثمّ نائبًا عامًّا لمدّة عشر سنوات في شطريها القبرصيّ واللّبنانيّ.

5. أمّا في فترة رعاية أبرشيّة قبرص، فانطلق في عمليّة إعمار كيانها بكلّ مكوّناته وعناصره، بعد انفصالها عن قطاعها اللّبنانيّ الّذي أصبح أبرشيّة أنطلياس. فعزّز كرسيّها في نيقوسيا العاصمة، وثبّت الرّعايا، ونظّم جسمها الكهنوتيّ، وأنشأ مشغل الأيقونات المارونيّة والمتحف بالتّعاون مع الرّاهبات الأنطونيّات المحترمات، وعزّز حضور موارنة قبرص وعلاقاتهم بموارنة لبنان وبقراهم الأصليّة، وأنشأ البيت المارونيّ القبرصيّ في قرنة شهوان المعروف بمركز مار بطرس، ومتّن العلاقة مع السّلطات القبرصيّة اليونانيّة، ومع رئيس أساقفة قبرص والكنيسة الرّوم أرثوذكسيّة. فلقي كلّ احترام، وأعلى شأن كنيستنا المارونيّة، واعتنى عنايةً خاصّة بالموارنة الّذين تهجّروا من قراهم إثر الاحتلال التّركيّ، ورفع قضيّتهم إلى البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، وأمين عامّ منظّمة الأمم المتّحدة، وقابلهما أكثر من مرّة بهذا الشّأن.

6. وبوصفه رئيس اللّجنة البطريركيّة للشّؤون الطّقسيّة، انكبّ بكلّ قواه على تحقيق مشروع الإصلاح. فكان يحضر تباعًا من قبرص إلى لبنان ليتابع أعمال اللّجنة ويوجّهها. فأصدر طيلة فترة رئاسته ثمانية من الكتب الطّقسيّة، وتُرجمت إلى اللّغات الأجنبيّة حيث ينتشر الموارنة. فمتّنت روابط وحدتهم، وحملوها إرثًا إلى حيث حلّوا، وغرفوا منها تراثهم وثقافتهم. أجل، في عهد رئاسته كانت القفزة الإصلاحيّة النّوعيّة في طقوس كنيستنا السّريانيّة الأنطاكيّة المارونيّة. وسجّلت مرحلة مفصليّة بين ما قبل وما بعد، حتّى إنّها دخلت حيّز التّطبيق بسرعة ملفتة في لبنان والنّطاق البطريركيّ وأبرشيّات الانتشار.

7. وسرّ المثلّث الرّحمة بتسليم أبرشيّة قبرص إلى خلفه، سيادة أخينا المطران يوسف سويف، نائبه في رئاسة اللّجنة البطريركيّة للشّؤون الطّقسيّة، في صيف 2008. كما سُرّ في هذه الأيّام الأخيرة بأسقفها الجديد سيادة أخينا المطران سليم صفير.  

8. إرقد بسلام يا أخانا المثلّث الرّحمة المطران بطرس في ظلّ حماية أمّنا السّماويّة مريم سيّدة المعونات، وكنيستها الجديدة الّتي اعتنيت عنايةً خاصّة بتشييدها مع أبناء رعيّتها وسائر المحسنين وعين الخرّوبة العزيزة. لقد طبعت تاريخك بعلامات فارقة في سجلّك الكهنوتيّ والأسقفيّ.

نسأل الله أن يعوّض على كنيستنا بكهنةٍ وأساقفةٍ قدّيسين معطائين، وأن يعزّي قلوبنا وقلوب أشقّائه وشقيقتيه وعائلاتهم، ويضمّه إلى الرّعاة الصّالحين في سعادة المجد السّماويّ، حيث يرفع معهم وبينهم نشيد المجد والتّسبيح للآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد. آمين."