الرّاعي في ليلة عيد التّجلّي للّبنانيّين: لننتزع من قلوبنا كلّ يأس وحزن
وللمناسبة، ألقى الرّاعي عظة على ضوء الآية الإنجيليّة "وتجلّى يسوع جبل عال" (مر 9/ 2)، تحدّث فيها عن المعاني الرّوحيّة لهذا العيد، فقال: "يُسعدني أن نحافظ على هذا التّقليد الّذي سلكه أسلافي البطاركة باحتفالهم بعيد الرّبّ في جبل الأرز المقدّس، أرز الرّبّ، في كنيسة التّجلّي. فالعيد هو عيد التّجلّي في جبل أرز الرّبّ، لذا يسعدني أن أقدّم لكم التّهاني في العيد مع كلّ معانيه ورموزه، وأتشارك التّهنئة مع أخي النّائب البطريركيّ في المنطقة وإخوتي الكهنة الّذين يخدمون المنطقة، وأحيّي الأب شربل وأشكره على كلمته اللّطيفة في بداية القدّاس.
أمام الحدث التّاريخيّ الكبير وهو حدث التّجلّي، أريد أن أتوقّف معكم أمام معانيه الرّوحيّة الكبيرة والّتي هي في عمق حياتنا اليوميّة، ومع أنّ الحدث عمره ألفي سنة إلّا أنّ معانيه تتجلّى اليوم وكلّ يوم. تجلّى الرّبّ على الجبل كي يرى بشكل أفضل، فأصبح الجبل رمز الصّعود إلى الأعلى، ونقولها في القدّاس "لتكن أفكارنا وعقولنا وقلوبنا مرتفعة إلى العلى"، هي دعوة لنا ولكلّ جيل كي نخرج من مستنقعات الحياة، فعالم اليوم منغمس بمستنقع المصالح الشّخصيّة والفرديّة، وفي الأنانيّات، ونحن في لبنان نعاني من هذه المستنقعات، ونريد اليوم أن نصلّي من أجل المسؤولين السّياسيّين كي يخرجوا من مستنقعات أنانيّاتهم ومصالحهم وأن يعلوا بالرّوح والقلب والفكر، كي يروا الواقع اللّبنانيّ، كما تراه الدّول من بعيد والدّليل الأكبر هو المؤتمر الّذي عُقد يوم أمس في باريس، ولكن دعوتي اليوم هي أيضًا لكلّ واحد منّا كي يرتفع إلى الأعلى، وكي ننظر بطريقة أفضل إلى الأمور حتّى في حياتنا اليوميّة والكنسيّة والزّوجيّة والاجتماعيّة، نحن بحاجة أن نرتفع إلى الأعلى كي نرى بشكل أفضل، ولهذا تجلّى يسوع على جبل عالٍ وثيابه بيضاء كالثّلج، فما معنى هذا الحدث؟
في التّجلّي أعطى يسوع طبيعته البشريّة بهاءها الإلهيّ، فالإنسان مخلوق على صورة الله، ويسوع الإله المتجسّد أظهر كلّ جمال الإنسان والإنسانيّة، لذلك تجلّى بجمال بشريّته ولكن بالنّور الإلهيّ الموجود فيه، وهذه دعوة لنا كي نحافظ على بهاء صورة الله فينا الّتي هي بهاء وشرف لكلّ إنسان مهما كان عرقه ودينه وانتماؤه، فالإنسانيّة هي ما تجلّى يسوع فيها ومن أجلها، واللّون الأبيض الّذي تجلّى يسوع فيه يرمز إلى النّعمة الإلهيّة الّتي أعطانا إيّاها يسوع ثمرة موته وقيامته، نحن لا نراها ولكنّها تعمل داخل الإنسان.
فلنفكّر سويًّا بالقدّيس شربل، هو إنسان عاديّ من النّاحية الخارجيّة، ولكن النّعمة كانت تعمل فيه من الدّاخل وبعد موته تجلّى جماله على كلّ الأرض، وهذا دور النّعمة الإلهيّة الّتي تشعّ من داخل الإنسان، من خصاله وطريقة تفكيره، فهذا الثّوب الأبيض هو رمز كلام يسوع المسيح، النّور، كلمتك مصباح لخطايا، فيسوع قال للعالم كلّ الحقيقة، خاصّة حقيقة الإنسان ومعنى التّاريخ والوجود للسّلام والبنيان والتّلاقي وكشف حقيقة الله، فأصبحنا نعرف من هو الله وحقيقة الله الّتي هي المرآة الّتي من خلالها ننظر، وهذا رمز الثّوب الأبيض الّذي كان يرتديه يسوع في التّجلّي.
يسوع الّذي تجلّى على الجبل هو نفسه المتجلّي في قربانة بيضاء على المذبح، ونحن بفعل عبادة وبفعل تأمّل ننظر من خلال القربانة البيضاء إلى كلّ سرّ المسيح المتجلّي، فالتّجلّي هو منطلق لفعل إيمان وعبادة في حياتنا اليوميّة، ففي حدث التّجلّي رافق يسوع، بطرس ويوحنّا ويعقوب، وهم نفسهم رافقوه في بستان الزّيتون، فهذا المتجلّي على الجبل بكلّ بهائه هو نفسه المتجلّي في جبل الزّيتون، وقد هيّأهم كي ينتزع الحزن من قلبهم، فالتّجلّي هو استباق للقيامة ودلالة على المجد الآتي من خلال موته على الصّليب، وهكذا كشف مصير آلام كلّ إنسان، الّتي هي باب للقيامة.
هنا أتوجّه لكلّ فرد منّا وللشّعب اللّبنانيّ المتألّم من كلّ شيء، ولا داعي لأن أذكر أسباب تألّمه، ولكن أقول لهم من جديد أنّ هذه طريقنا للقيامة، فمصيرنا هو مصير يسوع المسيح، أيّ القيامة، ونحن مدعوّون إلى فعل الإيمان الكبير هذا، فيسوع الّذي عُلّق على صليب العار هو نفسه القائم من بين الأموات بالمجد في اليوم الثّالث، لذا يجب أن ننتزع من قلوبنا كلّ يأس وحزن، فالإيمان المسيحيّ مبنيّ على صخرة لا تتزعزع، فحضور إيليّا وموسى على الجبل يوم التّجلّي له معانيه، أيّ أنّ يسوع هو اكتمال كلّ العهد القديم، فموسى يمثّل الشّريعة وكلّ الوصايا الّتي أعطاه إيّاها الله منقوشة على حجر، ويسوع هو الشّريعة الّتي تحمل اسم المحبّة. فالوصايا العشرة الّتي أعطاها الله لموسى جميعها قائمة على المحبّة، واكتمال الشّريعة كان بالمسيح الّذي هو الشّريعة. أمّا إيليّا فهو يشكّل الإعلان والدّفاع عن الإله الواحد الحقّ، وبيسوع انكشف هذا الإله الواحد المتجسّد، أيّ آب وابن، وروح قدس. التّلاميذ في حدث التّجلّي ناموا ليس لأنّهم متعبين بل لأنّ لا أحد يستطيع أن ينظر إلى الشّمس، أيّ أنّنا لا نستطيع أن نقارن ونقارب ونفهم سرّ الله ونحن شاردون، فالإنسان يغمض عينيه عندما يريد التّفكير، وفعل العبادة هو فعل تأمّل عميق.
أحبّ الرّبّ يسوع في هذا الحدث أن يكشف لنا كلّ المعاني الّتي يحملها، وسمعنا في النّهاية أنّ ثيابه أصبحت بيضاء كالثّلج وهو ما يعني أنّ المسيح وحده هو فادي الإنسان ومخلّص العالم، وعمله مستمرّ في التّاريخ عبر الرّوح القدس.
نصلّي اليوم معكم كي يعطينا الله نعمة عيد التّجلّي، وكي نعود إلى بيوتنا حاملين الفرح، فرح عيد التّجلّي، وأن نتأمّل دائمًا في هذه الصّفحة الإنجيليّة لأنّ أفكار يسوع المسيح لا تنحصر في عدد معيّن من الكلمات والمعاني.
أحيّي بيننا كما كل سنة الجمعيّة الفرنسيّة: "مساعدة، رسالة، صداقة" الّتي تقوم بالنّشاط الثّقافيّ مع 300 طفل في منطقة بشرّي. أشكرهم على وجودهم وعلى كلّ ما يقومون به. فليحميكم الله وليبارككم بنعمه.
يا ربّ نحن على جبل الأرز الّذي يعلّمنا كما ذكّرنا قداسة البابا فرنسيس في تمّوز من العام الماضي عندما قال: "يا شعب لبنان لا تخافوا، رمزكم الأرز لأنّكم شعب متجذّر" فالأرز لم يستطع الشّموخ والارتفاع إلّا لأنّه متجذّر في الأرض، ونحن شعب متجذّر في الأرض، ويجب أن نحافظ على جذورنا في هذه الأرض، فليحميكم الله وليكن معكم بنعمة الثّالوث الأقدس الآب والإبن والرّوح القدس، إله واحد آمين".