الرّاعي في قدّاس اليوم العالميّ للفقراء: أيّها المعطّلون، لا يحقّ لكم أن تتلاعبوا باستقرار المؤسّسات وعلى رأسها مؤسّسة الجيش... أوقفوا المقامرة بالدّولة!
وبعد قراءة الإنجيل، ألقى البطريرك الرّاعي عظة قال فيها:
"1. تحتفل الكنيسة في هذا الأحد باليوم العالميّ السّابع للفقراء، الّذي أنشأه قداسة البابا فرنسيس، ليكون يوم تضامن وجمع مساعدات للفقراء، عملًا بوصيّة طوبيت لإبنه طوبيا: "تصدّق من مالك. ولا تحوّل وجهك عن فقير"(طوبيا ٤: ٧). وهي الوصيّة الّتي ترقى إلى مئتي سنة قبل المسيح. وقد اختارها البابا فرنسيس موضوعًا للنّداء الّذي وجّهه في هذه المناسبة. إختارها من العهد القديم للدّلالة أنّ المحبّة تجاه الفقراء واجب إنسانيّ ودينيّ شامل.
فيسعدني وصاحب الغبطة مار إغناطيوس يوسف الثّالث يونان، وسيادة المطران إدوار ضاهر ممثّلًا غبطة البطريرك يوسف العبسيّ، وممثّل سيادة السّفير البابويّ، والسّادة المطارنة والرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات، وهذا الجمهور من الإخوة والأخوات، أن أرحّب بكم جميعًا، شاكرًا كلّ الّذين ساهموا في تنظيم هذا الاحتفال بجميع مضامينه، وأخصّ بالشّكر مؤسّسة L’Œuvre d’Orient، وقد حضر خصّيصًا للمناسبة من باريس مديرها العامّ الخورأسقف Pascal Gollnisch، وأحيّي ممثّله الدّائم في لبنان وسوريا والأردنّ عزيزنا السّيّد Vincent Gelot ومعاونيه. ويطيب لي أن أرحّب بالمدارس والمؤسّسات الاجتماعيّة المشاركة في إحياء هذا اليوم المبارك بإداراتها وطلّابها.
2. وتحتفل كنيستنا المارونيّة ليتورجيًّا بأحد البشارة لزكريّا بمولد ابنه يوحنّا الّذي تنتهي معه مرحلة العهد القديم وتبدأ مرحلة مجيء المسيح. فيوحنّا هو آخر نبيّ وأوّل رسول، وهو بالنّسبة لمجيء المسيح الفادي بمثابة الفجر قبل طلوع الشّمس. بالبشارة لزكريّا أُعلنت رحمة الله من خلال اسم يوحنّا المعطى من الملاك، ويعني "الله رحوم"، بالعبريّة "يهو-حنان". إن تجلّيّات رحمة الله تظهر بامتياز في محبّة الفقراء ومساعدتهم. البشارة لزكريّا تعلّمنا أنّ صلاتنا لا بدّ وأن تُستجاب، وأنّ رجاءنا بقوّة الله لا يخيب. وتعلّمنا أيضًا أنّ المسيح كلمة الله شقّ دربه نحونا على الرّغم من شكّ زكريّا الكاهن، وعقم إليصابات، وصعوبات الحياة: السّنّ واليأس وألسنة النّاس.
3. جميع رعايانا تحتفل مع كهنتها ومطارنة الأبرشيّات بهذا اليوم من الصّلاة والتّضامن وجمع المساعدات بمختلف المبادرات لإخوتنا الفقراء الّذين يتزايد عددهم بسبب الأزمات السّياسيّة والاقتصاديّة والأمنيّة، ولاسيّما المتأثّرين من التّوتّرات في جنوب لبنان، ونزوح العديدين من أهالي بلدات المنطقة الحدوديّة إلى بيروت والمتن وكسروان وجبيل.
يكتب قداسة البابا في مستهلّ ندائه: "إنّ نهر الفقر يجتاز مدننا ويكبر أكثر فأكثر حتّى يفيض. ويبدو أنّ هذا النّهر يغمرنا، وصراخ الإخوة والأخوات الّذين يطلبون المساعدة والدّعم والتّضامن يعلو ويزداد" (الفقرة 1).
4. بالأمس جاءنا وفد من بلدات الشّريط الحدوديّ عين إبل، دبل، القوزح، رميش، علما الشّعب، القليعة. وشرحوا لنا معاناتهم: 70% نزحوا إلى بيروت والمتن وكسروان وجبيل، وأُقفلت المدارس والقسط الأوّل لم يؤمّن، واستحقاقات المعلّمين والموظّفين موجبة عدالة وإنسانيّة. جاء الوفد يطلب مساعدات مدرسيّة واستشفائيّة وغذائيّة. وفوق ذلك يطالب بأمن المنطقة وتجنّب التّوتّرات والمناوشات، وتأمين تحرّك السّكّان إلى عملهم. فالأمر يقتضي الكثير من ضبط النّفس والحكمة، وتجنّب الحرب وويلاتها على الجميع.
5. في هذا الجوّ ومن أجل الاحتفال باليوم العالميّ السّابع للفقراء، قرّر مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان (المنعقد ما بين 6 و9 تشرين الثّاني الجاري)، أن تتبرّع البطريركيّات والأبرشيّات والرّهبانيّات، بمبالغ ماليّة، فضلًا عمّا تقدّم عاديًّا من المساعدات الماليّة والمادّيّة؛ وقرّر المجلس أن تخصّص صواني هذا الأحد وتُضمّ حصيلتها إلى المبالغ الـمُقدّمة من البطريركيّات والمطرانيّات والرّهبانيّات لمساعدة أهالي الجنوب المنكوبين ولمساعدة الفقراء.
ومعلوم أنّ جمع الصّواني في الكنائس الرّعائيّة هو من صميم أفعال التّقوى والعبادة لله اّلذي أعطانا كلّ شيء حتّى ذبيحة ذاته لفداء خطايانا وجسده ودمه لبثّ الحياة الإلهيّة في نفوسنا. فقبل أن يوصي طوبيت ابنه "بألّا يحوّل وجهه عن فقير" (طوبيا 4: 7) أوصاه: "أذكر الرّبّ جميع أيّامك. لا ترضى بأن تخطأ وتتعدّى وصاياه. إعمل أعمال الخير جميع أيّام حياتك، ولا تسلك سبل الإثم. فإن عملت بالحقّ، نجحت في أعمالك" (طوبيا 4: 5-6).
6. في عهد ربّنا يسوع كانت العادة أنّ يضع المؤمنون مساعداتهم في صندوق التّبرّعات على مدخل الهيكل عند دخولهم. "فجلس يسوع ذات مرّة تجاه الصّندوق ينظر كيف يلقي الجميع فيه نقودًا من نحاس. فألقى كثير من الأغنياء شيئًا كثيرًا. وجاءت أرملة فقيرة فألقت فلسًا. فقال يسوع لتلاميذه: "هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع، لأنّها ألقت كلّ ما تملك، كلّ رزقها" (مر 12: 41-44).
في عهد الجماعة المسيحيّة الأولى، نجد مشهدًا شبيهًا بما ندعو إليه اليوم، يرويه كتاب أعمال الرّسل: "في تلك الأيّام نزل بعض الأنبياء من أورشليم إلى أنطاكية، حيث دُعي تلاميذ يسوع لأوّل مرّة مسيحيّين. فقام أحدهم واسمه أغاباس، فأخبر بوحي من الرّوح أن ستكون مجاعة شديدة في المعمور كلّه، وهي الّتي حدثت في أيّام كلوديوس. فعزم التّلاميذ أن يُرسلوا ما تيسّر عند كلّ منهم، إسعافًا للإخوة المقيمين في اليهوديّة. وفعلوا ذلك، فأرسلوا معونتهم إلى الشّيوخ بأيدي برنابا وشاول- بولس" (أعمال 11: 29-30).
7. في أيّامنا، تُخصّص بعض صواني الآحاد في الرّعايا لغايات محدّدة في بحر السّنة، وعلى سبيل المثال: "صينيّة فلس مار بطرس" للمساهمة في مبادرات المحبّة الّتي يرسلها قداسة البابا حيث تحدث كوارث طبيعيّة، صينيّة التّعليم المسيحيّ في المدارس الرّسميّة، صينيّة الرّسالات، صينيّة المركز الكاثوليكيّ للإعلام، صينيّة الجمعة العظيمة لمساعدة حراسة الأراضي المقدّسة، وسواها وفقًا لما يطرأ من حاجات.
ومعلوم أنّ ما تملكه الكنيسة أو تكسبه يُدعى وقفًا ذا صفة المؤبّد، ويخصّص ريعه لأربعة أهداف: دور العبادة الإلهيّة، أعمال الرّسالة، أفعال المحبّة تجاه الفقراء، الدّعوات الإكليريكيّة ومعيشة الكهنة (راجع قانون 1007 من مجموعة قوانين الكنائس الشّرقيّة).
8. إنّ "نهر الفقراء الّذي يجتاز مدننا ويكبر أكثر فأكثر حتّى يفيض"، وقد استهلّ به قداسة البابا فرنسيس نداءه لهذا اليوم، إنّما ينطبق على حالة شعبنا في لبنان، بسبب سوء الممارسة السّياسيّة ولاسيّما في المؤسّسات الدّستوريّة وعلى الأخصّ في المجلس النّيابيّ الّذي لا يقوم عمدًا بواجبه الأوّل والأساس وهو انتخاب رئيس للجمهوريّة، ويغيّب السّلطة العليا في البلاد منذ سنة. فيتعثّر هذا المجلس ويفقد مسؤوليّته في التّشريع والمحاسبة والمساءلة. كذلك في حكومة تصريف الأعمال المنقسمة على ذاتها بسبب المقاطعين الدّائمين، وبالتّالي تتعثّر في موضوع صلاحيّاتها. والشّعب يزداد فقرًا بسبب هذه الممارسات. فنقول معكم:
لا يحقّ لكم، أيّها المعطّلون الاستمرار في عدم انتخاب رئيس للجمهوريّة. لا يحقّ لكم أن تخلقوا أزمات وعقدًا جانبيّة بدلًا من المباشرة الفوريّة بانتخاب الرّئيس فتحلّ عقدكم، وتكفّوا، إذا سلمت نواياكم عن سياسة المتاجرة الرّخيصة. لا يحقّ لكم أن تتلاعبوا باستقرار المؤسّسات وعلى رأسها مؤسّسة الجيش، وبروح الكيديّة والحقد والانتقام. إذهبوا إلى المجلس النّيابيّ وانتخبوا رئيسًا للجمهوريّة، وأوقفوا المقامرة بالدّولة واستقرارها وشعبها وكرامته. وهكذا تنحلّ جميع عقدكم المقصودة لغايات رخيصة.
9. إنّنا نؤكّد على نداء مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان: "في هذا الظّرف الأمنيّ الدّقيق، والحرب دائرة على حدودنا الجنوبيّة، من الواجب عدم المسّ بقيادة الجيش العليا حتّى انتخاب رئيس للجمهوريّة. ولا يجوز الاعتداد بما جرى في مؤسّسات أخرى تجّنبًا للفراغ فيها. فالموضوع هنا مرتبط بالحاجة إلى حماية شعبنا، وإلى حفظ الأمن على كامل الأراضي اللّبنانيّة والحدود، ولاسيّما في الجنوب، بموجب قرار مجلس الأمن 1701، فأيّ تغيير على مستوى القيادة العليا في مؤسّسة الجيش يحتاج إلى الحكمة والتّروّي ولا يجب استغلاله لمآرب سياسيّة شخصيّة."
أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء
10. فلنصلِّ إلى الله سيّد التّاريخ كي تتجلّى رحمته، فينعم على الأراضي المقدّسة بالسّلام وإيقاف الحرب، كي تتسّع محبّة القلوب وتنفتح أيادي السّخاء لإخوتنا الفقراء. له المجد والشّكر الآن وإلى الأبد. آمين."
وفي ختام القدّاس كانت لوحات تعبيريّة لعدد من الحركات الرّسوليّة المشاركة وأناشيد وترانيم قدّمتها جوقتان إضافة الى كلمات وشهادات حيّة قدّمها ممثّلو وأعضاء الجمعيّات والمؤسّسات الإنسانيّة شكروا فيها للبطريرك الرّاعي "رعايته لهذا النّهار وفتح أبواب الصّرح البطريركيّ أيّ الكنيسة في هذا اليوم العالميّ أمام كلّ اللبنانيين من دون أيّ استثناء."
كما طالبوا في كلماتهم "الدّولة اللّبنانيّة القيام بواجباتها حيال هذه المؤسّسات والجمعيّات الّتي تعنى بالفقراء والمهمّشين وذوي الاحتياجات الخاصّة والمرضى والمسنّين من خلال مساعدتهم على مواجهة مصاعب الحياة مع الحفاظ على كرامتهم، وكلّ ذلك وفق تعاليم السّيّد المسيح الّذي اوصى بالمحبّة ومساعدة المعوزين على جميع الأصعدة."
وشدّدت الكلمات على أنّ "إقفال عدد من هذه المؤسّسات الإنسانيّة والاجتماعيّة والطّبّيّة سيكون له تداعيات صعبة جدًّا على المستفيدين منها وأهلهم."
وبعدها كانت لقمة محبّة ومشاركة مع الحشود الغفيرة الّتي حضرت وشاركت في القدّاس.