لبنان
20 أيلول 2021, 11:10

الرّاعي في قدّاس الشّهداء: لا يمكن أن تستقيم الدّولة اللّبنانيّة مع ممارسات أو مواقف تتنافى وكيانها ومؤسّساتها

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، القدّاس الإلهي في كنيسة سيّدة إيليج سلطانة الشّهداء - ميفوق - القطّارة، بدعوة من رابطة سيّدة إيليج، بعنوان "لا تسكتوا عن نسيان الشّهداء" تكريمًا لشهداء المقاومة اللّبنانيّة، ولمناسبة مرور 25 سنة على تأسيس الرّابطة، عاونه فيه راعيا أبرشيتي جبيل المارونيّة المطران ميشال عون والبترون المطران منير خيرالله ورئيس دير سيّدة ميفوق الأب يوسف متى. وبعد تلاوة الإنجيل المقدّس ألقى الرّاعي عظة بعنوان "هل تستطيعان أن تشربا الكأس التي أشربها أنا؟ وأن تتعمّدا بالمعمودية التي أتعمد بها أنا؟" (مر 10: 38)، جاء فيها:

"الكأس التي شربها يسوع تعني صلبه، وقد سمّاه كأسًا لأنّه شربها بملء إرادته، على ما نقرأ في الرّسالة إلى العبرانيّين (راجع 12/ 2). والمعموديّة التي يتعمّد بها يسوع تعني موته الذي ولجه بكليته وغسل بدمائه خطايا العالم، كما نقرأ في رسالة القدّيس بولس إلى الرّومانيّين: أو ما تعلمون أنّنا نحن الذين اعتمدنا بيسوع المسيح، إنّما بموته اعتمدنا؟ وبعمادنا بموته، دفنا معه؟ (روم 6/ 3-4).
إنّ نبوءة يسوع عن مشاركة يعقوب ويوحنّا في شرب كأسه، والاعتماد بمعموديّته تكشف مصير الاضطهاد والاستشهاد الذي خضعا له بعد العنصرة وحلول الرّوح القدس. فيعقوب مات شهيدًا، ويوحنّا منفيًّا في جزيرة باتموس.
شهداء المقاومة اللّبنانيّة الذين نحيي اليوم ذكراهم السّنويّة الخامسة والعشرين، في هذه اللّيتورجيا الإلهيّة، شربوا كأس الوطن بما تحمّلوا من آلام في أجسادهم ونفوسهم، واعتمدوا بمعموديّة الوطن باستشهادهم من أجل حمايته وبقائه وكرامته وسيادته. نلتمس لهم من الله إكليل المجد في السّماء، ولعائلاتهم العزاء، ولرفاقهم العزم على مواصلة المقاومة اللّبنانيّة الحضاريّة السّلميّة، والصّمود بقوّة الإيمان والرّجاء، على مثال بطاركتنا القدّيسين الذين قادوا هذه المسيرة في إيليج كما في يانوح وهابيل وكفرحي وعمشيت وقنّوبين والدّيمان وبكركي وفي المقار البطريركيّة التي كانوا يلجأون إليها بحسب ظروف العهود، وعروشهم على ظهورهم.
ونودّ أن نوجّه التّحيّة إلى رابطة سيّدة إيليج التي تدعو إلى هذه الذّبيحة الإلهيّة ككلّ سنة، والذّكرى اليوم بلغت يوبيلها الفضّيّ. كما نحيي رئيس دير سيّدة ميفوق وجمهور الآباء، شاكرين تعاونهم مع رابطة سيّدة إيليج لإنشاء غابة شهداء المقاومة اللّبنانيّة، وتسمية سيّدة إيليج سلطانة الشّهداء. ونشكر من خلالهم الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الجليلة التي حافظت عبر القرون على هذا المقرّ البطريركيّ المقدّس، واستقبلت في محيطه أضرحة شهداء المقاومة اللّبنانيّة.
إختارت الرّابطة موضوعًا لهذا العام: خمس وعشرون سنة لم نسكت فيها عن نسيان الشّهداء، ونعم الاختيار. فالذّاكرة التي تعني عدم النّسيان ضروريّة للغاية من أجل جعل إراقة دماء الشّهداء لا مجرّد ذكرى لماض حدث، بل حاضرًا يتفاعل في ضمائرنا جيلًا بعد جيل، ويعطي دماءهم ثمنها الغالي، إذ ماتوا لنحيا وفقا لآمالهم. عندما أسّس ربّنا يسوع المسيح، ليلة آلامه وموته، سرّ القربان بتقدمة ذاته ذبيحة فداء لمغفرة الخطايا، ووليمة روحيّة لحياة العالم، أمر كهنة العهد الجديد قائلًا: "إصنعوا هذا لذكري" (لو 22: 19-20). فكانت الذّكرى في آن تذكارًا لماضٍ، وتحقيقه في الحاضر، واستمراريّته في المستقبل حتّى مجيئه الثّاني بالمجد (راجع 1 كور 11: 26).
إنّ الشّهداء يحيون كلّما تابعنا المسيرة الوطنيّة، من أجل السّيادة والاستقلال وحرّيّة القرار. لا تخافوا ولا تيأسوا، فكلّ ما ترونه اليوم مرحلة صعبة وتمضي، بالصّلاة والصّمود، بحسن الخيار والتّمسك بالثّوابت، بوحدة الصّفّ والعمل الوطنيّ الدّؤوب، بتغيير الواقع بالوسائل الدّيموقراطيّة، برفض الهيمنة. إنّ مسيرة التّغيير التي بدأت مع الانتفاضة الشّعبيّة مستمرّة. منذ اتّفاق الطّائف، في بداية التّسعينات، والدّولة تعد الشّعب بمعالجة الأزمات التي تسبّبت بالصّراع الوطنيّ والحروب، لكنّ الأزمات ازدادت، والصّراع الوطنيّ تعمّق، والولاء للبنان انحرف حتّى دخلنا عتبة الانهيار. لذلك، إنّ مطالبتنا بمعالجة واقع الانهيار يهدف إلى المحافظة على وحدة لبنان وهويّته لأنّ تفاقم الوضع صار يشكّل خطرًا عليهما.
أمام أضرحة شهدائنا، وغابة أرزهم المهيبة والنّاطقة، نتذكّر أنّ ما حقّقه آباؤنا وأجدادنا والجيل المقاوم، كان بعرق الجبين ودم الشّهداء، بالصّمود والمقاومة، بالعلم والإبداع. لم يقاتل أحد عنّا. العمالة ليست من مكوّنات الشّخصيّة التّاريخيّة المسيحية في لبنان. من يقاوم ويستشهد في سبيل قضيّة لا يتقبّل العمالة وتعدّديّة الولاءات. ومن يسترجع التّاريخ، القديم والحديث، يكتشف أنّ المسيحيّين في لبنان، وبخاصّة الموارنة، ما تعرّضوا للحروب والاضطهاد إلّا لأنّهم رفضوا العمالة والخضوع وآثروا الصّداقة والتّحالف على أسس الكرامة الشّخصيّة والسّيادة الوطنيّة. 

لقد شكرنا الله على خروج لبنان من أزمة الحكومة التي استمرّت ثلاثة عشر شهرًا، وعلى تشكيل حكومة جديدة اتّخذت شعار: "معًا للإنقاذ". إنّنا إذ نجدد لها تمنّياتنا بالنّجاح، نأمل أن تعمل كفريق وطنيّ واحد يعكس وحدة الدّولة لوقف التّدهور، والتّصدّي للعمليّات المتواصلة لضرب هيبة الشّرعيّة وكرامة الدّولة ككلّ والمسّ بنظامها الدّيموقراطيّ اللّيبراليّ. فلا يمكن أن تستقيم الدّولة اللّبنانيّة مع ممارسات أو مواقف تتنافى وكيانها ومؤسّساتها، ويسمّونها بكلّ بساطة نقاطًا خلافيّة، وكأنّ حلّها غير ضروريّ، من مثل حياد لبنان وعدم انحيازه، وتصحيح الممارسات المنافية للدّستور واتّفاق الطائف، والطّريقة التي تمّ فيها إدخال صهاريج المحروقات بالأمس القريب، وإعاقة التّحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت والتّشكيك الممنهج بقاضي التّحقيق، كأن المطلوب إيقاف التّحقيق في أكبر جريمة.
ما يعزّز أملنا هو أنّ الظّروف الدّاخليّة والإقليميّة والدّوليّة التي استولدت هذه الحكومة تسمح لها بالقيام بالملح الذي يحتاجه الشّعب منها، وهو على الأخصّ:
1) إجراء الإصلاحات في الهيكليّات والقطاعات، واستنهاض الحركة الماليّة والاقتصاديّة والمصرفيّة.
2) تأمين العام الدّراسيّ، بكلّ ما يلزمه، ودعم المدرسة الخاصّة على غرار الرّسميّة فلا يدفع المواطن ضريبتين.
3) حلّ أزمة المحروقات والكهرباء، وإغلاق معابر التّهريب على الحدود اللّبنانيّة - السّوريّة، ومكافحة الاحتكار والتّلاعب بالأسعار.
4) معالجة قضيّة برّادات التّفاح منعًا من إتلافه.
5) إنتشال لبنان من سياسة المحاور إلى رحاب الحياد في إطار لبنان الواحد، واللّامركزيّة الموسّعة.
6)دعم القضاء اللّبناني لينجز التّحقيق في جريمة تفجير مرفأ بيروت، بحيث يتمّ وفقًا للقوانين ومستلزمات العدالة، ولا أحد أغلى من دماء الشّهداء، ودموع الأهل، وآلام الجرحى والمعوّقين، وعاصمة لبنان بيروت.
7)إنّنا نبتهل إلى الله، بشفاعة سيّدة إيليج وسلطانة الشّهداء، لتتمكّن هذه الحكومة من أن تشقّ طريقها وتعالج القضايا الملحّة، وأن تعيد الحياة إلى علاقات لبنان العربيّة والدّوليّة، وتقدم موحّدة على التّفاوض مع الدّول والمؤسّسات المانحة، إذ يصعب أن يستعيد لبنان دورته الحياتيّة والاقتصاديّة والمصرفيّة، ويخرج الشّعب من الإذلال اليوميّ من دون مساعدات خارجيّة سخيّة. لله المجد والشّكر والتّسبيح، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."