الرّاعي في عيد مار يوسف: وحده الحبّ العفيف هو الحبّ الحقيقيّ
"1. أطاع يوسف صوت الملاك في الحلم، ففهم دوره في تدبير سرّ الخلاص، وانجلى له سرُّ حبل مريم، وسرُّ الطّفل الإلهيّ الّذي في حشاها. "فلمّا قام من النّوم، صنع كما أمره ملاك الرّبّ، فأخذ مريم امرأته" (متّى 1: 24)، متعهّدًا حراسة أثمن كنوز الله الآب أيّ: الكلمة المتجسّد وأمّه الفائقة القداسة. أخذها مع سرّ أمومتها كلّه، أخذها مع الابن الموشك أن يأتي إلى العالم بفعل الرّوح القدس.
2. يسعدني أن أحافظ على تقليد البطاركة الموارنة بمشاركة الآباء اللّعازريّين الأحبّاء في إحياء عيد القدّيس يوسف شفيع هذا الصّرح التّربويّ الزّاهر في بلدة عينطورا. فأقدّم التّهاني لحضرة الأب رمزي جريج الرّئيس الإقليميّ ولحضرة الأب عبده عيد رئيس المعهد وجمهور الآباء، والهيئة التّعليميّة والأسرة التّربويّة المؤلّفة من الإدارة والأهل والمعلّمين والطّلّاب. ونصلّي معًا، إلى القدّيس يوسف، ملتمسين منه، بحقّ رباط المحبّة الّذي وحّد بينه وبين العذراء مريم، وبحقّ الحبّ الأبويّ الّذي احتضن به الطّفل يسوع، أن ينظر إلينا ويحمينا ويحمي هذا الصّرح التّربويّ والقيّمين عليه، والعاملين فيه، والأجيال الّتي تستقي منه العلم والتّربية والثّقافة بشكل مميّز.
ويسعدني أن أشارك آباء جمعيّة الرّسالة في الاحتفال بمرور أربعماية سنة على تأسيسها (1625 – 2025) على يد القدّيس منصور دي بول، الّذي أرادها لخدمة الفقراء. وتأتي نعمة هذا اليوبيل متزامنة مع نعمة اليوبيل الكبير والسّنة المقدّسة 2025، فأتمنّى وأصلّي، بشفاعة القدّيس مار منصور دي بول، من أجل تقديس أبناء الجمعيّة، وازدهارها ونموّها، لمجد الله وخير الكنيسة ونجاح رسالة المحبّة بحسب روح المؤسّس.
3. إنّ الآباء لا يولدون آباء، بل يصبحون آباء. ولا يصبح المرء أبًا لمجرّد أنّه وُلد له إبن، بل لأنّه يعتني به بمسؤوليّة. وكلّ مرّة يتحمّل شخصٌ ما مسؤوليّة حياة شخص آخر، فإنّه بطريقة ما يمارس الأبوّة تجاهه.
هذا شأن كلّ من يتولّى إدارة أو تعليمًا أو أيّة مسؤوليّة في هذا الصّرح التّربويّ، فينطبق عليه سرُّ الأبوّة هذا. "أبوّتكم" لطلّابكم لا تعني امتلاكهم، بل جعلهم قادرين على الاختيار والحرّيّة والانطلاق. يضيف التّقليد إلى يوسف صفة "العفيف". هذا ليس مجرّد مؤشّر عاطفيّ، إنّما ملخّصُ تصرّف يعبّر عن عدم الامتلاك. العفّة هي التّحرّر من التّملّك في جميع مجالات الحياة. وحده الحبّ العفيف هو الحبّ الحقيقيّ. لأنّ الحبّ الّذي يريد امتلاك الآخر يصبح دومًا خطرًا في النّهاية، ويسجن الآخر، ويخنقه، ويجعله غير سعيد. إنّ الله أحبّ الإنسان حبًّا عفيفًا، وتركه حتّى في ارتكاب الأخطاء. إنّ منطق الحبّ هو دائمًا منطق حرّيّة، وقد عرف يوسف كيف يحبّ بطريقة حرّة تفوق المألوف. لم يضع أبدًا ذاته محورًا، بل وضع يسوع ومريم محور حياته (راجع البابا فرنسيس: رسالته بقلب أبويّPater Cordes).
4. في ترائي الملاك ليوسف في النّوم، انجلى دوره في سرّ التّدبير الإلهيّ، وهو اشتراكه في سرِّ التّجسّد أكثر من أيّ إنسان آخر، باستثناء مريم، أمّ الكلمة المتجسّد. لقد اشترك وإيّاها مندفعًا في واقع ذات الحدث الخلاصيّ، واؤتمن على ذات الحبّ الّذي بدافعه سبق الآب الأزليّ فقّدر لنا أن يتبنّانا بيسوع المسيح (أفسس 1: 5). زواج مريم هو المرتكز القانونيّ لأبوّة يوسف. فالله إنّما اصطفاه زوجًا لمريم ليضمن ليسوع حضورًا أبويًّا. وينجم عن ذلك أنّ أبوّة يوسف تمرّ عبر زواجه من مريم، أيّ عبر الأسرة. في زواج يوسف ومريم، تحقّقت جميع خيور الزّواج: الولد والأمانة والسّرّ. أمّا الولد فهو الرّبّ يسوع نفسه، وأمّا الأمانة فهي الوحدة الزّوجيّة النّقيّة بين يوسف البتول ومريم العذراء، وأمّا السّرّ فلأنّ بينهما رباط لم ينفصم. ألا حافظ الأزواج على هذه الخيور الثّلاثة الّتي تقدّسهم في حياتهم الزّوجيّة مع حلوها ومرّها.
منذ القرون الأولى، بيّن آباء الكنيسة بوضوح أنّ القدّيس يوسف، كما تعهّد مريم بعناية ودودة، وانقطع بفرح لتربية يسوع المسيح، كذلك هو أيضًا حارس وحامي جسده السّرّيّ أيّ الكنيسة، الّتي العذراء صورتها ومثالها. وقد أعلنه الطّوباويّ بيّوس التّاسع "شفيعًا للكنيسة الكاثوليكيّة" في 8 كانون الأوّل 1870.
5. في حمايته يضع جميع المراتب أنفسهم. ففيه يجد أربابُ العائلاتِ مثالًا رفيعًا لبُعدِ النّظر والاهتمامِ الأبويّ. وفيه يجدُ الأزواج صورةً كاملةً للحبِّ والوفاء الزّوجيّ. والّذين نذروا البتوليّة يستطيعون أن يعتبروهُ، في الوقت نفسه، مِثالهم وحارسَ بتوليّتهم. وإذا تأمّل عظماءُ هذه الدّنيا في القدّيس يوسفَ استطاعوا أن يتعلّموا كيف يحافظون على مقامهِم في أصعبِ الظّروف. ويفهم الأغنياءُ ما هي الكنوزُ الّتي يجبُ عليهم قبلَ كلِّ شيءٍ أن يبحثوا عنها ويجمعوها بحرارةٍ، في حين يجبُ على الفقراءِ والعمّال والمحرومينَ أن يذهبوا إليه بحقًّ، ويتعلّموا الاقتداءَ به. كان يوسف زوجَ أعظمِ النِّساءِ وأقدسَهنَّ، وكان "أبًا" لابن اللهِ، ومع ذلك، أمضى حياتَهُ في العمل، وبفضلِ يديهِ ومهارتِه، أنتجَ ما كان ضروريًّا لأعضاءِ العائلةِ.
6. جاء الرّبّ يسوع يحمل إلى العالم الخلاص الشّامل الّذي يطال الإنسان وجميع الشّعوب في واقع الاقتصاد والعمل، وفي التّقنيّات والاتّصالات، وفي المجتمع والسّياسة، وفي العائلات بين الثّقافات والشّعوب.
والكنيسة تقدّم مساهمة أساسيّة لا بديل عنها، من أجل تقديس العمل، وأنسنة عائلة الشّعوب والتّاريخ، واكتشاف الإنسان دعوته الشّاملة والنّهائيّة، وإعطاء العمل البشريّ مفهومه الأعمق.
إنّ المجتمع، مع كلّ ما ينتج في داخله، يعني الإنسان. وهو مجتمع البشر الّذين هم الطّريق الأوّل والأساسيّ للكنيسة. وعليه إنّ المجتمع، والسّياسة، والاقتصاد، والعمل، والحقوق، والثّقافة، لا يشكّلون محيطًا مجرّد مدنيّ ودنيويّ، وبالتّالي هامشيّ وغريب عن نداء الإنجيل وتدبير الخلاص.
تشكّل عقيدة الكنيسة الاجتماعيّة قيمة أداة لإعلان الإنجيل. ويتّسع هذا التّعليم في اللّقاء المتجدّد بين رسالة الإنجيل والتّاريخ البشريّ. ويشكّل طريقًا لممارسة خدمة الكلمة ووظيفة الكنيسة النّبويّة. فتعليم العقيدة الاجتماعيّة ونشرها إنّما يختصّ بالرّسالة الإنجيليّة، ويشكّل جزءًا أساسيًّا في الرّسالة المسيحيّة، وفي نضالها من أجل العدالة في شهادتها للمسيح المخلّص.
7. لنصّلِ، أيّها الإخوة والأخوات: أيّها القدّيس المجيد البارّ والمتواضع، مار يوسف، أيّها العامل في النّاصرة، ساعدنا في أشغالنا اليوميّة على أنواعها، ولاسيّما في عملنا التّربويّ والإداريّ والوظيفيّ. ساعدنا أن نجد في عملنا السّبل الفعّالة إلى تمجيد ربّنا يسوع المسيح، وأن نُفيد مجتمعنا الّذي نعيش فيه. إلتمس لنا من الله تواضع القلب والبساطة وحبّ العمل، وإتمام مشيئة الله في حياتنا اليوميّة بحلوها ومرّها، ونرفع نشيد المجد والشّكران للثّالوث القدّوس الآب والابن والرّوح القدس الآن وإلى الأبد، آمين."