لبنان
10 شباط 2023, 06:00

الرّاعي في عيد مار مارون: العيد يدعونا للرّجوع إلى هويّتنا المارونيّة هويّة انفتاح وحضارة وإيمان

تيلي لوميار/ نورسات
"حبّة الحنطة إذا وقعت في الأرض وماتت تأتي بثمر كثير"، تحت هذا العنوان ألقى البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي عظة قدّاس عيد مار مارون الّذي ترأّسه في كنيسة الصّرح البطريركيّ- بكركي، رفع خلاله الصّلاة من أجل كلّ الضّحايا والجرحى والعائلات المنكوبة في هذا البرد والصّقيع في تركيا وسوريا جرّاء الزلزال، كما دعا الموارنة في هذا العيد إلى الرّجوع إلى هويّتهم المارونيّة: هويّة انفتاح وحضارة وإيمان.

وفي تفاصيل العظة، قال الرّاعي: "يسوع المسيح هو حبّة الحنطة بامتياز الّذي بموته ولدت الكنيسة ويدعونا لأن نكون على مثاله.

لا يمكن أن نُؤتي ثمارًا لا روحيّة ولا كنسيّة ولا مدنيّة ولا وطنيّة ولا سياسيّة ولا اجتماعيّة ما لم يمت كلّ شخص عن ذاته ومصلحته الخاصّة وعن أنانيّته وهذا ما يُعطي الإنسان جمال وجوده.

الآباء والأمّهات يُعطون بسخاء على مثال حبّة الحنطة الّتي تموت لتعطي ثمارًا.

القدّيس مارون أب الكنيسة المارونيّة وشفيعها هو حبّة حنطة بامتياز لأنّه بموته على جبل قوروش، من خلال حياته النّسكيّة، لم يجذب النّاس فقط في حياته ولكن بعد موته ولدت الكنيسة المارونيّة، وهي الكنيسة الوحيدة الّتي تحمل اسم قديس، ما يعني أنّ لنا مسؤوليّة عيش الإسم الّذي نحمله وعلى مثاله وقدوته يجب أن نعيش.

لا يمكنني أن أكون مارونيًّا ولا أعرف من هو مار مارون.  

لا يمكنني أن أكون مارونيًّا ولا أعرف ما هي رسالتي في كنيستي.

لا يمكنني أن أكون مارونيّ الهويّة ولا أملك إيمان مار مارون بالمعلّم الأوحد يسوع المسيح.

عيد مار مارون اليوم يدعونا للرّجوع إلى هويّتنا المارونيّة الّتي ترفض التّقوقع والمصالح الضّيّقة، هويّتنا المارونيّة، هوية انفتاح وحضارة وإيمان.

نحتفل بالعيد، وهو علامة فرح، ولكن لا يمكننا أن نتجاهل دموعنا والحزن العميق في قلوبنا ليس فقط على حالتنا المارونيّة الّتي نحن فيها، ولكن أيضًا على الكوارث والزّلازل والهزّات الّتي أوقعت الرّعب في وطننا والويلات بخسارة الآلاف في تركيا وسوريا.

نذكر اليوم بقدّاسنا كلّ الضّحايا والجرحى والعائلات المنكوبة في هذا البرد والصّقيع، نلتفت نحو أبينا السّماويّ ونقول :

"أبانا الّذي في السّماوات، أب الجميع، أرسل قوّتك لشعوبنا المنكوبة ورحمتك للقلوب المتألّمة".

نعم أحبّائي، إنّ الله يخاطبنا بكلّ الطّرق وفي كلّ الظّروف، خاطبنا بتجسّده، بإنجيله، بكنيسته من خلال تعاليمها، وهو يخاطب اليوم ضميرنا، ضمير كلّ إنسان في أعماقه، ويدعونا إلى الخير ورفض كلّ أنواع الشّرّ.

بصوت الضّمير الحيّ، نُخاطب أبناءنا الموارنة في كلّ أصقاع المعمورة ونتوجّه إليهم بالمعايدة القلبيّة والرّوحيّة، مؤمنين ومؤمنات، متمنّين للجميع عيدًا مباركًا غنيًّا بمواهب الرّوح القدس والفضائل والقيم المارونيّة العريقة والمقدّسة.

معكم نتوقّف على هويّة مار مارون الّتي يجب أن نعيشها، وهو مثالنا لأنّه رجل صلاة، رجل تضحية، فجعله الله للجميع علامة السّماء للأرض .

من هذا المنطلق أستذكر معكم اليوم أبعاد كنيستنا المارونيّة الخمس الّتي يذكّرنا بها المجمع البطريركيّ المارونيّ.

البعد الأوّل، هي كنيسة بطريركيّة إنطاكيّة، لأنّ أنطاكية هي مدرسة الانفتاح وهي أمّ الكنائس ومار مارون خرّيج روحانيّة هذه المدرسة.  

البعد الثّاني، هي كنيسة سريانيّة تحمل تراث مار أفرام السّريانيّ ومار يعقوب وسواهم، تراث الرّوحانيّة النّسكيّة العميقة، روحانيّة سرّ المسيح والرّوحانيّة المريميّة.  

البعد الثّالث، الهويّة الخلقيدونيّة نسبة لمجمع خلقيدونيا الّذي أعلن أنّ المسيح إنسان بكامل الطّبيعة الإنسانيّة وإله بكامل الطّبيعة الإلهيّة وبدون ذوبان.  

هكذا كنيسة مار مارون وتلاميذه بالبعد الزّهديّ والنّسكيّ الخلقيدونيّ المؤمنة بالمسيح الكامل بإنسانيّته وألوهيّته.  

البعد الرّابع، كنيسة بطريركيّة، مع البطريرك الأوّل يوحنّا مارون، حفاظًا على كاثوليكوثيّتها واتّحادها مع روما بعد الانشقاقات الكبرى. وبهذا أصبح البطريرك هو الرّأس والأب لكنيسته وفي شركة تامّة مع كرسيّ بطرس في روما.  

البعد الخامس كنيسة رهبانيّة بامتياز ذات طابع نسكيّ على مثال مارون أبيها متجسّدة في أرض لبنان حيث كُتب تاريخنا وبطريركيّتنا وتراثنا .

كلّ هذه السّنوات كنيستنا بشراكة تامّة مع كنيسة روما الأمّ، متجذّرين في هويّتنا وأرضنا ومنتشرين في كلّ الدّنيا على مثال أرزة لبنان الطّيّبة الشّذا، شلوشها في أرضها ثابتة، وأغصانها ممتدّة في كلّ المعمورة.

هذا هو أساس ثقافتنا وحضارتنا وهذا أساس كلّ عمل يجب أن نقوم به، ضمانة للإنسان والإنسانيّة وكرامة الشّخص البشريّ، كنسيًّا، اجتماعيًّا، وطنيًّا وسياسيًّا.

الّذي يجهل جذوره يعيش بالفوضى والفساد.

ومن يجهل ماضيه، يجهل واقعه ومستقبله.

وما عيد مار مارون اليوم سوى تذكير لهويّتنا ودعوة لضمائرنا للعودة إلى جذورنا.

نلتمس من أبينا مارون أن يجعلنا نُدرك روحانيّته كي نعيش على مثاله ونحن نحمل بمسؤوليّة، اسمه ونمط عيشه. وبه ومعه نمجّد الثّالوث القدّوس الآب والإبن والرّوح القدس الآن وإلى الأبد. آمين.

كلّ عيد وأنتم بألف خير".