الرّاعي في عيد مار مارون: الحياد مطروح لإنقاذ وحدة لبنان أكثر ممّا لإنقاذ لبنان بحدّ ذاته
بعد الإنجيل المقدّس، ألقى البطريرك الرّاعي عظة بعنوان "حبّة الحنطة إذا وقعت في الأرض وماتت، أتت بثمرٍ كثير" (يو 12: 24)، قال فيها: "1. فخامة الرّئيس، أعدتم لعيد أبينا القدّيس مارون، وهو عيد وطنيّ، رونقه بانتخابكم على رأس الدّولة اللّبنانيّة، بعد فراغٍ دام أكثر من سنتين في سدّة الرّئاسة. فبانتخابكم عادت الثّقة بشخصكم إلى قلوب اللّبنانيّين، وإلى أسرة الدّول العربيّة والغربيّة وهي ثقة لطالما انتظروها، فأتت بعد طول انتظار. وازدادت بالأمس بتأليف الحكومة اللّبنانيّة الجديدة الموصوفة "بالإصلاح والإنقاذ". فنهنّئكم، صاحب الفخامة، ونهنّئ دولة رئيسها القاضي نوّاف سلام، ونهنّئ الوزراء الجدد وجميعهم واعدون، متمنّين لها ولهم النّجاح في المهام الكبيرة الّتي تنتظرهم، وقد جئتم على ذكرها في خطاب القسم. ولكون الحكومة من بركات مار مارون في عيده، نصلّي إليه كي يشفع بها لدى الله فتتمكّن من تنفيذ كلّ "إصّلاح وإنقاذ". إنّنا نشكر الله، عزّ وجلّ، على أنّه حمى لبنان ويحميه بفضل صلوات شعبه وأنين الفقراء والمحرومين، ودم الشّهداء الّذي روى أرضه، والّذي "يصرخ من الأرض إلى الله" (تك 3: 10).
فأحيّيكم، فخامة الرّئيس، باسم سيادة راعي الأبرشيّة أخينا المطران بولس عبد السّاتر وكهنة الأبرشيّة ورهبانها وراهباتها ومؤمنيها. ونحيّي اللّبنانيّة الأولى ودولة رئيس مجلس النّوّاب، ودولة رئيس الحكومة الجديدة، وأصحاب الغبطة والسّيادة والفخامة والدّولة والمعالي والسّعادة وسائر الشّخصيّات المحيطة بكم للصّلاة في عيد أبينا القدّيس مارون، والتّأمّل في فضائله، وما يقوله لنا في الظّرف الحاضر.
2. "حبّة الحنطة الّتي تقع في الأرض وتموت" هي ربّنا يسوع المسيح بامتياز. فهو كحبّة حنطة مات على جبل الجلجلة وقام، فأعطى ثمرة الكنيسة بعنصريها الإلهيّ والإنسانيّ، وتبقى للأبد. وهي في العالم سرّ خلاص لكلّ إنسان. وهي أمّ ومعلّمة لجميع شعوب الأرض. تعلّم الحقيقة بحنان الأمّ وحزم المعلّمة.
والقدّيس مارون هو بمثابة حبّة حنطة ماتت سنة 410 على جبل قورش، بين أنطاكية وحلب، فوُلدت منه الكنيسة المارونيّة السّريانيّة الإنطاكيّة، وتنظّمت في دير القدّيس مارون على العاصي في منطقة أفاميا، قلعة المضيق اليوم.
من هذا الدّير انتشرت الكنيسة المارونيّة في جبل لبنان في القرن السّادس. وفي نهايات القرن السّابع نشأت بطريركيّة أنطاكية مستقلّة، تكوّنت هوّيتها ورسالتها بأنّها خلقيدونيّة، ذات طابع رهبانيّ، في شركة تامّة مع الكرسيّ الرّسوليّ الرّومانيّ، ومتجسّدة في بيئتها اللّبنانيّة والمشرقيّة وفي بلدان الانتشار (راجع المجمع البطريركيّ: هويّة الكنيسة المارونيّة ودعوتها ورسالتها).
3. تميّز القدّيس مارون بفضائل الحياة النّسكيّة في العراء، في خيمة أقامها على أنقاض هيكلٍ وثنيّ، كان يلجأ إليها نادرًا، في منطقة جبل سمعان، في قلعة كالوتا في أبرشيّة قورش على مسافة 30 كلم من مدينة حلب. قضى حياته بالنّسك والصّلاة والتّأمّل في كلام الله. وخصّه الله بنعمة الشّفاء، فكانت الجماهير تأتيه من كلّ صوب وكان يشفيهم جسدًا ونفسًا وروحًا بدواء واحد هو الصّلاة.
وتفجّرت منه كمن ينبوع روحانيّة إنجيليّة عميقة الجذور، وإيمان راسخ رسوخ الجبال، وشهادة مسيحيّة صافية كالنّور، جعلت من الشّعب المارونيّ المتواضع والمضطهد آيةً في الثّبات على الإيمان المسيحيّ، والانفتاح الحضاريّ، والوفاء الإنسانيّ والوطنيّ.
وراحت حياة شعب مارون تصارع في الجهاد والصّمود والقداسة، في لبنان الوعر المسالك والضّيّق الرّقعة، فإذا بتاريخ هذا الشّعب يرتبط ارتباطًا عميقًا بتاريخ الأرض اللّبنانيّة الجديدة الّتي تكوّن فيها قادمًا من سهول سوريا الخصبة، في أوائل القرن السّادس. وليس لأحد أن يفهم روحانيّة الموارنة ومواقفهم التّاريخيّة إلّا من خلال علاقتهم الوثيقة بالأرض اللّبنانيّة الّتي سقاها الآباء والأجداد بعرقهم ودمهم وصلاتهم (راجع كتاب الصلاة: مار مارون، الصّادر عن الكسليك 2010، ص 9-10).
٤.ماذا يقول لنا اليوم القدّيس مارون في عيده الوطنيّ؟ بعد خبرة خمسين سنة من الحرب، وتقهقر اقتصاديّ وماليّ واجتماعيّ وثقافيّ وأخلاقيّ. يقول لنا:
وطني وطن القداسة، لا وطن الحديد والنّار! وطني وطن المحبّة، لا وطن الأحقاد! وطني وطن السّلام، لا وطن الحروب، وطني وطن الحضارة، لا وطن الانحطاط! وطني وطن الانفتاح، لا وطن الانعزال!
أوقفوا التّمادي في المماطلة! أوقفوا إسقاط السّلطة القضائيّة! أوقفوا فقدان السّيادة والكرامة! أوقفوا الاعتداء على الدّستور والأزمة السّياسيّة! لقد اختنق الشّعب من الجمود، فقدّموا له حلًّا من حلول، وتسوية من تسويات، وحقيقة من حقائق.
إنّ الخطر الحقيقيّ الّذي يواجه لبنان هو الانزلاق في محور الانحطاط. فبقدر ما يجب أن نبقى على الحياد الإيجابيّ تجاه المحاور الإقليميّة، يجب أن ننحاز إلى محور الحضارة والنّهضة والرّقيّ . الحياد مطروح لإنقاذ وحدة لبنان أكثر ممّا لإنقاذ لبنان بحدّ ذاته. فلبنان باقٍ في جميع الأحوال، لكنّنا نريد أن يبقى لبناننا جميعًا، نحن المؤمنين به واحة سلام، وكيان لقاء، وقوّة دفع للإخوّة بين ضفّتي المتوسّط، وملتقىً تتجسّد فيه قيمُ الأديان. ليس الحياد مشروعًا مناقضًا للخصوصيّات والقناعات الذّاتيّة المختلفة. فالحياد هو نظام وجود يحمي التّعدّديّة بكلّ أبعادها ويعطيها حقّ ممارسة اختلافها بحضارة وسلام. الحياد هو أمن داخليّ، ودفاع خارجيّ. هكذا يعزّز الحياد الثّقة بين مختلف المكوّنات اللّبنانيّة، لأنّه يوحّد ولاءها الوطنيّ والسّياسيّ للبنان.
٥. نصلّي إلى الله، بشفاعة القدّيس مارون، كي يمنحنا نعمة السّير على خطاه في الزّهد والصّلاة، لمجده تعالى، آمين."
وفي مستهلّ القدّاس، وبعد أن أضاء كلّ من الرّئيس جوزيف عون والبطريرك الرّاعي شمعة أمام ذخائر مار مارون، كانت كلمة للمطران عبد السّاتر قال فيها:
"صوتًا صارخًا كنتم يا صاحب الغبطة، وعلى مدى أشهر عديدة، تدعون إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة لتتحققَ الشّراكةُ الحقيقيّةُ في حكم وبناء لبنان لأنّه لا يجب أن يشعر أيّ مكوِّن بأنَّه مهمّش أو مقصي. فجميع اللّبنانيّين قدّموا الشّهداء من بين خيرة أولادهم. وجميع اللّبنانيّين نزحوا عن قراهم ودمّرت بيوتهم ولم يتردّدوا في العودة إليها عند أوّل فرصة. وجميع اللّبنانيّين قاوموا الاحتلال حفاظًا على هويّتهم وحماية لحرّيّتهم ودفاعًا عن كيانهم. وجميع اللّبنانيّين يستحقّون رئيسًا قادرًا ومستقيمًا، خرّيج مؤسّسة وطنيَّة عريقة، يدرك قيمة الإنسان والأرض ويسعى إلى تأمين حياة كريمة وآمنة لكلِّ مواطن ومواطنة كان من كان ومن أيّ منطقة أتى وإلى أيّ دين أو حزب انتمى. فالشّكر للرّبّ الّذي استجاب لصلاتكم وصلاة جميع اللّبنانيّين بانتخاب فخامة الرّئيس العماد جوزاف عون رئيسًا للبلاد وفقه الله في مهمّته وله كلَّ محبتنا وصلاتنا.
وإنّه من دواعي سروري أن يكون دولة الرّئيس نوّاف سلام قد تمكّن من تأليف حكومة العهد الأولى وأن تكون إطلالتها الرّسميّة الأولى بيننا في عيد مار مارون. وأرجو أن توفّق في تحقيق ما يلزم من أجل حياة كريمة وآمنة ومزدهرة لكلّ اللّبنانيّين.
واسمحوا لي يا صاحب الغبطة أن أكرِّر أمامكم وبسرعة بعض ما يطالب به اللّبنانيّون أمامي وفي محادثاتهم الخاصّة:
يريد اللّبنانيّون ميثاقيّة حقيقيّة فلا حجب لأحد في الأمن والسّياسة والاقتصاد والوظائف العامّة.
يريدون محاربة جدّيَّة للفساد في مرافق الدّولة وخارجها وذهنيَّة جديدة في العمل السّياسيّ والخدمة العامّة إذ يسعى كلُّ مسؤول إلى تحقيق الاستقرارِ السّياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ وليس إلى تحقيق المكاسب له ولجماعته.
يريدون الكهرباء والماء والاستشفاء والعلم.
يريد اللّبنانيّون قضاءً نزيهًا وحرًّا وجريئًا يحمي الحقوق ويدافع عن المظلوم ويؤمّن الأرضيّة لازدهار تجاريّ وصناعيّ ولتشجيع الاستثمارات.
يريدون السّيادة والاستقلال لهم ولغيرهم من الشّعوب والأفراد من دون أن يتحوَّل بلدهم إلى حلبة صراعات المحاور.
شكرًا لكم يا صاحب الغبطة تلبيتكم الدّعوة للاحتفال بالقدّاس الإلهيّ لمناسبة عيد القدّيس مارون. وأهلًا وسهلًا بكم في أبرشيّة بيروت، وفي العاصمة الّتي لا تزال تنتظر من القضاء الحرّ أن يُنهي تحقيقاته ويلفظ حكمه في انفجار ٤ آب ٢٠٢٠ المجزرة من أجل الحقّ واعتبارًا لدماء الضّحايا وتعزية لأهاليهم وآلاف الجرحى والمتضرّرين. أهلًا وسهلًا بكم يا صاحب الغبطة بين أبنائكم وبناتكم".
وبعد القدّاس الإلهيّ الّذي خدمته جوقة بيت العناية الإلهيّة، تقبّل الرّئيس واللّبنانيّة الأولى والبطريرك الرّاعي والمطارنة التّهاني بالعيد في صالون الكاتدرائيّة.