الرّاعي في عيد مار شربل: ليرفع الله السّياسة من مستنقع الحسابات الصّغيرة إلى سموّها كفنّ شريف لخدمة الخير العامّ
"الإنسان المخلوق على صورة الله هو زرعٌ جيّد في حقل هذا العالم، ومدعوٌّ ليحمي طبيعته هذه من زؤان الخطيئة والشّرّ الّذي يزرعه الشّيطان والأشرار بالغدر والكذب والعتمة.
القدّيس شربل، الّذي نحتفل بعيده اليوم، هو زرعٌ جيّد زرعه الله في حقل بلدته بقاعكفرا العزيزة، وفي حقل الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الجليلة، وفي حقل كنيستنا المارونيّة.
نصلّي اليوم ملتمسين من الله، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيّدة قنّوبين، ومار شربل، أن يمنح كلّ إنسان نعمة المحافظة على هويّته كزرع جيّد حيثما هو، في عائلته ومجتمعه وكنيسته ودينه ووطنه. فالزّرع الجيّد يثمر حبّات قمح جيّدة روحيّة وثقافيّة وأخلاقيّة وقيمًا وطنيّة.
يُسعِدُنا أن نحتفِلَ بهذه اللِّيتورجيَّا الإلهيَّة معكم، أيّها الحاضرون في كاتدرائيّة الدّيمان، والمشاركون معنا روحيًّا عبر محطّة تيلي لوميار– نورسات وسواها من المحطّات والفيسبوك وسائر وسائل الاتّصال. ومعًا نحيي عيد مار شربل قدّيس لبنان والعالم. نصلّي كي يشفي الله برحمته المصابين بوباء الكورونا، ويبيد هذا الفيروس، ويحرّر الكرة الأرضيّة من شللها، ويعيد إلى العالم والشّعوب حياتهم الطّبيعيّة، المدنيّة والكنسيّة، الاجتماعيّة والرّاعويّة.
زرَعَ الله القدّيس شربل في تربة بقاعكفرا العزيزة، حيث وُلد في 8 أيّار 1828، في عائلة مسيحيّة مارونيّة أصيلة تعلَّمَ فيها الصّلاة، وتربَّى على الإيمان والممارسة. فكان معروفًا بحياته المثاليّة حتّى لُقّب "بالقدّيس". وزرعَهُ الله في حقل الرّهبانيّة اللّبنانيّة المارونيّة الجليلة الّتي دخلها فجرًا من دون أن يدري به أحد بعمر ثلاثة وعشرين سنة، وقراره أن يتكرّس بكلّيّته لله، منقطعًا عن العالم كلّه، حتّى عن رؤية وجه أمه. هو الّذي كان يتيم الأب باكرًا. فلمّا أتت تبحث عنه في دير مار مارون عنّايا، خاطبها من وراء الباب المغلق. وإذ قالت له: "أرني على الأقلّ وجهك"، أجاب: "سنلتقي في السّماء". عندئذٍ أردفت: "إمّا أن تكون راهبًا صالحًا، إمّا إرجعْ معي إلى البيت". أمّا هو فاتّخذ قراره الكبير بأن يكون راهبًا صالحًا. بل عاش ببطولة حياته ونذوره الرّهبانيّة، دارسًا الفلسفة واللّاهوت في دير مار قبريانوس ويوستينا في كفيفان، على يد معلّم صار بدوره قدّيسًا هو الأب نعمة الله الحردينيّ؛ ثمّ راهبًا في دير مار مارون عنّايا بعد رسامته الكهنوتيّة في بكركي سنة 1859، لمدّة خمس عشرة سنة، وأخيرًا حبيسًا يصلّي ويتقشّف ويسمو حبًّا لله وللكنيسة لمدّة ثلاثة وعشرين سنة، في محبسة مار بطرس وبولس على جبل عنّايا.
لقد عاش متماهيًا مع المسيح الكاهن الذّبيح لفداء العالم، ببطولة فضائله الرّوحيّة والتزاماته الرّهبانيّة، ونذوره الكاملة، فشاء الله أن يعطي العلامتين النّاطقتين عن هذا التماهي: ففيما كان يحتفل بقدّاسه الأخير، ورفع بين يديه جسد الرّبّ وكأس دمه، وصلّى: "يا أبا الحقّ، هوذا ابنك ذبيحة ترضيك"، سقط أرضًا بفالج صاعق في اليوم الأوّل من تساعيّة الميلاد. والعلامة الثّانية إنّ روحه طارت إلى السّماء ليلة الميلاد من سنة 1898، للدّلالة أنّ ذكرى ميلاد ربّنا يسوع على أرضنا هي ميلاد شربل في السّماء، وتلا هذا الحدث نورٌ سطع ليلاً من قبره على مدى أسبوع، بمرأى من أهل المحلّة.
وها هو اليوم وإلى الأبد "يتلألأ كالشّمس بين الأبرار في ملكوت الآب" (متّى 43:13)، قدّيس من لبنان وللعالم كلّه، لجميع اللّبنانيّين ولكلّ إنسان من أيّ دين أو عرق أو وطن أو لغة يلتجئ إليه.
أيّها الإخوة وألأخوات، أيّها المواطنون اللّبنانيّون، يدعونا الله اليوم، بمثل القدّيس شربل وشفاعته، لنحافظ على طبيعتنا وهويّتنا ورسالتنا. نحن كلّنا زرع جيّد من أبناء الملكوت، وقد زرَعَنا الله واحدًا واحدًا وواحدةً واحدة في أرض وطننا، لكي نكون حقلاً واحدًا، مثقلاً بسنابل العطاء السّخيّ لحياة الوطن وكلّ المواطنين.
عندما أُعلن لبنان الكبير دولة في حقل العالم العربيّ والإسلاميّ في الأوّل من أيلول 1920، حمل طبيعة حبّة القمح بنظامه الدّيمقراطيّ وحرّيّاته العامّة وتعدّديّته الدّينيّة والثّقافيّة؛ وحمل رسالة العيش معًا مسيحيّين ومسلمين بدستور خاصّ مميَّز عن جميع دساتير محيطه العربيّ، فاصلاً بين الدّين والدّولة، ومحترمًا جميع الأديان بمعتقداتها وتعاليمها وتقاليدها. فكان بمثابة فسيفساء غنيّة بمكوّناتها المتنوّعة، وبوحدتها المحكَمة والمتكاملة.
ولمّا أُعلنت سيادة لبنان باستقلاله النّاجز سنة 1943، ثبّتت الدّولة دورها المستقلّ في منظومة الأمم، وأقامت ميثاقها الوطنيّ بتأكيد العيش المشترك المتوازن والمتساوي في الحقوق والواجبات بين مكوّنات الوطن كلّها. وبهذا الميثاق أعلَنت حيادها بالمفهوم القانويّ والدّوليّ بمقولة "لا شرق ولا غرب" أيّ التزام لبنان "الحياد بين الشّرق والغرب"، بحيث يلتزم بقضايا العدالة والسّلام والاستقرار والمحافظة على حقوق الإنسان والشّعوب، والانفتاح على جميع الدّول ما عدا إسرائيل بسبب حالة العداوة والاحتلال. كما يلتزم بتعزيز حوار الأديان والثّقافات والحضارات، والدّفاع عن القضايا العربيّة المشتركة والقضيّة الفلسطينيّة، من دون الدّخول في أحلاف سياسيّة أو عقائديّة أو عسكريّة إقليميّة ودوليّة.
بقوّة الدّستور والميثاق ووحدة اللّبنانيّين استطاع لبنان أن يتجاوز محنة 1958 الرّامية إلى ضمّ لبنان إلى الوحدة المصريّة– السّوريّة العابرة، وخطر التّقسيم أثناء الحرب اللّبنانيّة المشؤومة ما بين 1975 و1990.
وجاءت وثيقة اتّفاق الطّائف لتجدّد الدّستور الأوّل "كعقد لوجود" لبنان والميثاق الوطنيّ "كعقد لسيادته". مع ما يلزم من تعديل وتوضيح. فلا بدّ من استكمالهما "بنظام الحياد النّاشط والفاعل" وهو "كعقد للوحدة الدّاخليّة والاستقرار". إنّ نظام الحياد يقتضي وجود دولة قويّة بجيشها ومؤسّساتها وقانونها وعدالتها، وقادرة على الدّفاع عن نفسها وشدّ أواصر وحدة شعبها، وخلق الاستقرار السّياسيّ والنّموّ الاقتصاديّ. عندئذٍ تستطيع أن تحقّق "اكاديميّة الإنسان لحوار الثّقافات والأديان والحضارات" الّتي أقرّتها منظّمة الأمم المتّحدة في دورة 2018 بطلب من فخامة رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون.
ليس "نظام الحياد" طرحًا طائفيًّا أو فئويًّا أو مستوردًا. بل هو استرجاع لهويّتنا وطبيعتنا الأساسيّة، وباب خلاص لجميع اللّبنانيّين دونما استثناء. رجائي أن يصار إلى فهم حقيقيّ مجرَّد لمفهوم "نظام الحياد النّاشط والفاعل" عبر حوارات فكريّة علميّة، تكشف معناه القانونيّ والوطنيّ والسّياسيّ، وأهمّيّته للاستقرار والازدهار.
إنّنا نعيش متضامنين مع مآسي اللّبنانيّين الفقراء والمحرومين المتزايد عددهم بسبب عدم تمكّن الحكومة من إجراء أيّ إصلاح في الهيكليّات والقطاعات المعنيّة، وبسبب عزلة لبنان من الأسرتين العربيّة والدّوليّة، ومع مأساة الثّماني مئة وخمسين موظّفًا صرفوا من مستشفى الجامعة الأميركيّة. نناشد الحكومة مدَّ يد المساعدة والتّدخّل لتفادي هذه المأساة الجديدة الّتي تُضاف إلى تلك المماثلة في المدارس والجامعات الخاصّة، كما وفي المؤسّسات السّياحيّة والصّناعيّة والمتاجر وسواها.
وفي هذا السّياق، وحفاظًا على المستوى العلميّ الرّفيع في لبنان، يقلقنا منح التّراخيص العشوائيّة لمؤسّسات تربويّة وفروع جامعيّة تجاريّة تؤدّي إلى تدنّي المستوى الأكاديميّ. الأمر الّذي يضرب الجامعات الّتي لا تبغي الرّبح، وينذر بخطّة ممنهجة لتغيير وجه لبنان الثّقافيّ والحضاريّ، من أجل فرض سياسات معيّنة عليه.
نصلّي الى الله لكي، باستحقاق القدّيس شربل ابن لبنان والنّاشر اسمه النّاصع في العالم كلّه، أن يرفع السّياسة من مستنقع الحسابات الصّغيرة الشّخصيّة أو الفئويّة إلى سموّها كفنّ شريف لخدمة الخير العامّ، الّذي منه خير كلّ إنسان، وخير الجميع، لمجد الثّالوث القدّوس: الآب والإبن والرُّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."