الرّاعي في عيد تيلي لوميار: المشاهدون رأوا فيها واحة سلام وصفاء ذهنيّ فيما تخنقهم الأزمات
بعد الإنجيل المقدّس، ألقى البطريرك الرّاعي عظة تحت عنوان "أسأل الآب فيعطيكم برقليطًا آخر مؤيّدًا" (يو 14: 16)، فقال:
"1. في اليوم الخمسين بعد قيامته، أنجز الرّبّ يسوع وعده فوهب تلاميذه المجتمعين مع مريم أمّه، الرّوح القدس الّذي سمّاه "برقليطًا آخر مؤيِّدًا يكون معهم إلى الأبد، روح الحقّ" (يو 14: 16). وإشترط لقبوله أن يحفظوا وصاياه كعلامة لحبّهم له (راجع يو 14: 15). نصلّي اليوم كي يحيي الله في قلوبنا محبّته، فنحفظ وصاياه ونستحقّ هبة الرّوح القدس الّذي يدخلنا في عمق العلاقة الاتّحاديّة مع الآب والإبن.
2. يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة وبعيد العنصرة، عيد حلول الرّوح القدس على الكنيسة النّاشئة، وعلى الكنيسة الّتي تسير في هذا العالم على هديٍ من الرّوح القدس، وتؤدّي رسالتها الّتي تسلّمتها من المسيح الرّبّ قبيل صعوده إلى السّماء. فإنّنا نقيم أثناء هذا القدّاس الإلهيّ السّجود للثالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، إقرارًا بمحبّة الآب، ونعمة الإبن، وشركة الرّوح القدس، وانطلاقًا في متابعة رسالة الكنيسة. إنّ زمن العنصرة الذي يمتدّ حتّى ارتفاع عيد الصّليب المقدّس (14 أيلول) هو زمن الكنيسة بقيادة الرّوح القدس، وهي "نسير بين اضطهادات العالم وتعزيات الله"، على ما يقول القدّيس أغسطينوس.
3. ويسعدنا أيضًا أن نحيي عيد تيلي لوميار وفضائيّتها نورسات. فنقدّم هذه الذّبيحة المقدّسة على نيّة هاتين المحطّتين، والعاملين فيهما وداعميهما بالصّلاة والمال.
نشكر الله على الارتفاع الملحوظ لنسبة مشاهدي تيلي لوميار ومختلف فضائيّاتها: نورسات، ونور القدّاس، ونور الشّرق، ونور الشّباب، ونور مريم، وبخاصّةً في بلدانٍ غير مسيحيّة من مثل تركيا، والجزائر، واليمن، وليبيا والمغرب. ذلك أنّ المشاهدين رأوا في تيلي لوميار واحة سلامٍ وصفاءٍ ذهنيّ لتأمين الطّمأنينة لهم ولعائلاتهم، فيما تخنقهم الأزمات السّياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة في المنطقة.
بقيت تيلي لوميار وفيّةً لرسالتها ومعتمدة على فلس الأرملة في الصّمود على الرّغم من الخسارة الّتي تكبّدتها نتيجة انفجار مرفأ بيروت الّذي قضى على كامل استوديوهاتها العشرة في سفليّ كنيسة مار مخايل– النّهر إذ قُدّرت الخسائر بنحو 1,800,000 دولارًا أميركيًّا.
وبما أنّ الإيمان من دون أعمال ميّت، فإنّ تيلي لوميار تجسّد بشارتها بتفعيل دور الجمعيّات الإنسانيّة لأنّها تؤمن بأنّ الطّريق إلى الله هو عبر خدمة الإنسان. فأمّنت حصصًا غذائيّة لموظّفيها، ومساعدات لمحتاجين، وآلات طّبّيّة لضيق التّنفس لبعض مرضى كورونا في بيوتهم. وعملت على تأمين حليب للأطفال، واتّفقت مع بعض الأفران لتأمين كميّة من الخبز يوميًّا لإيصالها إلى من هم أكثر حاجة.
ومن فيض نعم الله، أطلقت تيلي لوميار هذه السّنة فضائيّة جديدة هي نورسات English الّتي لاقت استحسانًا كبيرًا لدى الانتشار اللّبنانيّ وغير اللّبنانيّ، وبخاصّة لدى الأجيال الجديدة الّتي فقدت لغتها الأمّ.
نشكر الله على كلّ ذلك وعلى عنايته.
نرحّب فيما بيننا بوفدٍ من جمعيّة فينيسيا للقدّيس شربل البولونيّة الّتي تقوم مشكورةً بمادرات إنسانيّة تعاضديّة مع الشعب اللّبنانيّ.
4. يواصل الربّ يسوع هبة الرّوح القدس للكنيسة ولكلّ مؤمن ومؤمنة يحبّه ويلتزم بحفظ وصاياه. فالرّوح القدس هو امتداد لعمل المسيح المعزّي والمؤيّد ومعلّم الحقيقة، عندما كان عائشًا على أرضنا. ولذلك سمّاه برقليطًا آخر يقيم مع الكنيسة وفيها وفي العالم إلى الأبد، ليحقّق ثمار الفداء النّابعة من موت يسوع وقيامته.
هذا الرّوح المعزّي يشجّع في الضّعف، ويهدي في الضّياع، ويعزّي في الألم والحزن، ويعلّم الحقيقة كلّها، ويوجّه إليها، ويحرّر من الضّلال والانشقاق.
5. الرّوح القدس يعمل في داخل الإنسان من خلال مواهبه السّبع. بعضها يُنير عقلنا والإيمان، وهي الحكمة والمعرفة والفهم، وبعضها يشدّد الإرادة والرّجاء وهما المشورة والقوّة، وبعضها يملأ القلب ويذكي المحبّة وهما التّقوى ومخافة الله.
6. بحسب رواية كتاب أعمال الرّسل (الفصل 2)، عندما حلّ الرّوح القدس على الرّسل ومريم أمّ يسوع وآخرين من الكنيسة النّاشئة، رافقت الحدث عناصر هي رموز تدلّ على عمل الرّوح القدس في داخل كلّ مؤمن ومؤمنة. هذه العناصر أربعة:
الرّيح العاصف يدلّ على ريح الرّوح القدس الدّاخليّ الّذي يهزّ كيان الإنسان ويجتذبه إلى الله.
الألسنة من نار تعني كلام الله. الرّوح القدس يكلّمنا بكلام الله، ويعلّمنا الحقيقة ويحرق فينا كلّ كذب وضلال ونفاق.
اللّغات المتعدّدة ترمز إلى لغة الرّوح القدس الواحدة الّتي يفهمها الجميع، وهي لغة المحبّة. هذا ما جعل جميع الشّعوب الحاضرين يفهمون كلام الرّسل كلًّا بلغته.
الجماهير الّتي تجمّعت هي رمز للكنيسة الجامعة الّتي تخاطب جميع الشّعوب بثقافة الإنجيل .
7. على المستوى الوطنيّ، لم نكن لنتوقّع خلاف ما تقرّر من موقف في جلسة مجلس النّوّاب بالأمس بشأن مناقشة رسالة فخامة رئيس الجمهوريّة، وهو الحثّ على تشكيل حكومة بأسرع ما يمكن، لأنّ وضع لبنان واللّبنانيّين على خطورته الشّديدة لا يتحمّل أيّ تأخير، ويقتضي تجنّب أيّ كلام يزعزع الثّقة ويعرقل المسيرة ويضرّ بالمصلحة الوطنيّة.
ولذلك، لم تَعُد الأعذارُ تُقنِعُ احدًا ولا الذّرائعُ تبرِّرُ استمرارَ تعطيلِ تأليفِ الحكومة وكأنَّ التّشكيلَ في إجازةٍ مديدة. هذا جمودٌ قاتلٌ للدّولةِ والمواطن ويجبُ أن يَتوقّف. لقد استَنزف المسؤولون الدّستورَ حتّى جعلوا نصَّه ضِدَّ روحِه، وروحَه ضِدَّ نصِّه، والاثنين ضِدَّ الميثاق. أيُّ دستورٍ يُجيزُ هذا التّمادي في عدمِ تأليفِ حكومة؟ وأيُّ صلاحيّاتٍ تَسمحُ بتعليقِ مؤسّساتِ الوطن؟ وأيُّ مرجعٍ قانونيّ أو دستوريّ يُبيحُ التّنافسَ على التّعطيل؟
إنّنا ندعو مباشرةً دولة الرّئيسَ المكلَّف إلى المبادرةِ، نعم إلى المبادرة، وتقديمِ تشكيلةٍ محدَّثةٍ إلى فخامة رئيسِ الجمهوريّةٍ في أسرعِ وقتٍ ممكِن، والاتّفاقِ معه على الهيكليّةِ والحقائب والأسماء على أساس من معاييرِ حكومةٍ من اختصاصيّين غير حزبيّين لا يُهيمن أيُّ فريقٍ عليها. وإذا لم يَتّفِقا في ما بينهما، فليستَخْلِصا العِبرَ ويتّخذا الموقفَ الشّجاعَ الّذي يُتيحُ عمليّةَ تأليفٍ جديدة.
8. لقد أسفنا للاشتباك الّذي حصل على أتوستراد نهر الكلب بين بعضٍ من اللّبنانيّين والنّازحين السّوريّين المتوجّهين إلى صناديق الاقتراع الرّئاسيّ. وسببه الاستفزاز لمشاعر اللّبنانيّين في منطقة تعجّ بشهداء سقطوا في المعارك مع الجيش السّوريّ، وفيما لا يزال ملفّ المعتقلين في السّجون السّوريّة مجهولًا.
معروفٌ أنّ لبنان قام بأكثر من واجباتِه حيالَ النّازحين السوريّين وهم شعبٌ شقيق. وتَقاسَمَ اللّبنانيّون وإيّاهُم المسكَنَ والمأكلَ والمشْربَ والمدرسةَ والجامعةَ والعمل. ليس مقبولًا أن يبقى النّازحون السّوريّون هنا بانتظارِ الحلِّ السّياسيِّ النّاجزِ للأزمةِ السّوريّة. فكما رَفضْنا ربطَ أمنِ لبنان بحربِ سوريا، نرفضُ اليومَ ربطَ مصيرِ لبنان بالحلّ السّياسيّ فيها. لسنا بلدَ انتظارِ نهايةِ صراعاتِ المنطقة. فلا المنطقُ ولا تركيبةُ لبنان التّعدّديّةُ يسمحان بذلك.
بقدْرِ ما كان واجبُ لبنان احتضانَ النّازحين السّوريّين أثناء الحرب، بات واجبُ النّازحين اليومَ أن يعودوا إلى بلادهم، وقد انْحسَرت الحربُ وتوسَّعت المناطقُ الآمنة وصاروا مواطنين سوريّين عاديّين لا نازحين. هذا واجبُهم لا تجاهَ لبنان فقط، بل تجاه وطنهم سوريا أساسًا الّتي تحتاج إلى أبنائها ليُعيدوا بناءَها وليُحافظوا على هُوِّيّتِها الوطنيّةِ والعربيّة.
9. إنّ دعوتنا هذه لا تنمُّ عن أيِّ روحٍ عَدائيّة، بل عن شعورٍ بالمسؤوليّةِ تجاه وطنِنا لبنان. لم يَعد هناك مُبرِّرٌ لبقاءِ نحوَ مليونِ ونصفِ مليونِ نازحٍ، ومنافستِهم اللّبنانيّين في كلِّ المناطق على لُقمةِ العيشِ والعملِ والتَّسبُّبِ بجزءٍ من فَلتانِ الأمن والجريمة. وفي هذا الإطارِ نطالبُ الدّولةَ السّوريّة أن تتفهّمَ الوضعَ اللّبنانيَّ وتَفتحَ جدّيًّا بابَ العودةِ الآمنةِ والكريمة لمواطنيها. ونُطالبُ الدّولةَ اللّبنانيّةَ، بأن تتَّخذَ الإجراءات العمليّةَ لتحقيقِ هذه العودةِ الآمنةِ سريعًا، فلا يكفي التّصريحُ بذلك من دونِ تنفيذِ خُطّةٍ لإعادةِ النّازحين. ونطالب منظّمة الأمم المتّحدة العمل على إدارة وجودهم في لبنان وإدارة إعادتهم إلى وطنهم سوريا.
إنّنا نرغب حقًّا بعيش الأخوّة الإنسانيّة على أساس من العدالة والحقيقة والاحترام المتبادل والسّلام في كلّ أبعاده.
10. في يوم حلول الرّوح القدس نصلّي هاتفين: أرسل روحك، أيّها المسيح، فيتجّدد وحهُ الأرض. آمين."