الرّاعي في عظة الفصح: من حقّ اللّبنانيّين أن ينتقلوا إلى عهد القيامة، وقد طالت جلجلتهم القسريّة
"فخامة الرّئيس،
1. إنّه لمن دواعي السّرور أنّكم، جريًا على العادة، تحتفلون معنا في هذا الكرسيّ البطريركيّ بعيد فصح الرّبّ الذي هو فصحنا، فالمسيح الإله مات ليفتدي خطايا كلّ إنسان يولد لامرأة، وقام ليبثّ الحياة الجديدة في كلّ مؤمن ومؤمنة. هذا العبور الفصحيّ بالموت والقيامة، أصبح فصحنا، بحيث أنّنا نموت عن الخطيئة وروح الشّرّ، ونقوم إلى حالة النّعمة؛ نموت عن حالة الأنانيّة، ونقوم إلى حال العطاء؛ نموت عن السّعي إلى المصلحة الذّاتيّة، ونقوم للإلتزام بالصّالح العام.
نرفع معكم ومع كلّ هذه الجماعة المصلّية هذه اللّيتورجيا الإلهيّة ذبيحة شكر لله على السّت سنوات التي تختتمون بها عهدكم على رأس الجمهوريّة اللّبنانيّة. وقد اختبرتم أنّ يد الله الخفيّة تقود سفينة الوطن، ولاسيّما عندما كانت تعصف رياح شديدة وأمواج عاتية، وتهدّدها بالغرق. فكانت النّعمةُ من علُ تعضد ثباتكم وصمودكم.
2. إن تساؤل النّسوة: "من تراه يدحرج لنا الحجر عن باب القبر؟" ( مر 16: 3)، "وكان الحجر كبيرًا" (متى 26: 60)، هو سؤال يطرحه شعبنا للخروج من الأزمة التي يعيشها، وهي خانقة على المستوى الاقتصاديّ والماليّ والمعيشيّ.
من حقّ اللّبنانيّين أن يَنتقلوا إلى عهدِ القيامة، وقد طالت جُلجُلتُهم القسريّة، وطالت الهيمنةُ على واقعِهم ومصيرِهم، وتمادت عمليّةُ تشويه صورةِ لبنان البهيّة. إنَّ المؤمنين بلبنان يعيشون روحيًّا قيامةَ المسيح، لكنّهم لا يَشعُرون بقيامتِهم الوطنيّة وباستعادةِ العافيةِ والزمن الجميل.
إنّ عيونهم شاخصةٌ إلى المسيح القائم من القبر، ولكنّ قلوبَهم تَعتصر حزنًا إذ يَلمُسون عجزَ السّلطةِ عن معالجةِ أوجاعِهم وجروحاتِهم ومآسيهم. فاللّبنانيّون بأكثريّتهم يَرزحون تحت عبء الفَقرِ والعوزِ وفِقدانِ الطّبابةِ والدّواءِ والضّماناتِ الاجتماعيّةِ وفُرصِ العمل وتَرنُّحِ الدّولةِ وتعثّرِ الوِحدة وتفاقم الانهيار.
في زمنِ الإنتقال من الجلجلةِ إلى زمنِ دحرجةِ الحجَر، نرى بكلّ أسف غالِبيّةَ العاملين في الحقل السّياسيّ والمسؤولين عن الوطنِ والشّعبِ يتصرّفون لا لإزاحةِ الحجرِ عن صدرِ اللّبنانيّين بل لتَثبيته.
3. فكما المسيح، وهو الرّبُّ إلهُنا، افتدى بالصّلبِ البشريّةَ من الخطيئةِ ووضَعها على الطّريقِ السّليم، هكذا يَتطلّعُ شعبُ لبنان المصلوبُ إلى الدّولةِ لكي تَفتديَه بالحوكمةِ الرّشيدةِ وحسنِ الأداءِ وصِحّةِ الخِياراتِ الوطنيّةِ والإصلاحاتِ المنتجة. ينتظر اللّبنانيّون قيامتَهم من الدولةِ وفي الدّولةِ، ويَتوقّعُون من المسؤولين والمتعاطين في الشّأن السّياسيّ أن يَضعوا وطنهم على سِكّةِ الخلاص بعد هذه العذابات التي لم يَشهدْوا مثلها من قبل، حتّى في زمنِ الحروبِ والقصف والدّمار. لا يريدُ اللّبنانيون الحقيقيّون عن الدّولةِ بديلًا، ولا يريدون لها شريكًا. إنّهم يَتوقون إلى اللّحظةِ التي تُرفع الأيادي عن لبنان وتَنحسِرُ الهيمنةُ، ويسقطُ التّسلّطُ، ويتوقّف تسييسُ القضاء والإدارة وتعطيلهما من النّافذين، وتَنتهي الازدواجيّةُ، وتُعلو المصلحةُ الوطنيّةُ على كلِّ المصالحِ الخاصّةِ والانتخابيّة... فلا يبقى سوى جمهوريّةٍ واحدةٍ وشرعيّةٍ واحدة وسلاحٍ واحدٍ وقرارٍ واحدٍ وهُويّةٍ لبنانيّةٍ جامعة.
فخامة الرّئيس،
4. إنّنا نسرّ معكم ببروز تباشير توحي بقرب دحرجة الحجر عن الوطن والشّعب: فواعدة زيارة قداسة البابا فرنسيس للبنان في حزيران المقبل، وهي بمثابة جسر بين عهدكم وعهد من سيكون خلفكم. وسررنا بزيارتكم لحاضرة الفاتيكان في آذار الماضي ولما تبادلتم مع قداسته ومعاونيه من هموم وتطلّعات بشأن لبنان وشعبه.
والارتياح يعمّ جميع اللّبنانيّين لتأكيد حصول الإنتخابات النّيابيّة في موعدها المقرّر، وكان تصميمكم بشأنها ثابتًا على الرّغم من محاولات الإطاحة بها من هنا وهناك. وهذا التّصميم إيّاه تعملون به من أجل تأمين انتخاب خلفكم على رأس الجمهوريّة في موعده الدّستوريّ.
الكلّ يقدّر مساعيكم الهادفةَ إلى إقرارِ الموازنةِ العامّة والاتّفاقِ على خُطّةِ التّعافي، وإلى إقرار الإصلاحاتِ كممر ضروريّ للنّهوض بالبلاد، وإلى صوغِ العقدِ مع صندوقِ النّقدِ الدَّوليّ بعد إجراء التّعديلات الضّروريّةِ عليه ليتوافقَ مع الواقعِ اللّبنانيّ، بحيث تأخذ توصياته في الاعتبارِ حقَّ المودعين بأموالِـهم، وحماية السّريّة المصرفيّة، وخصوصيّةَ المجتمعِ اللّبنانيِّ ونظامِ إقتصاده اللّيبراليّ، الذي شكلّ سرَّ نموِّ لبنان وازدهارِه؛ كما تأخذ في الإعتبار حماية حرّيّةِ اللّبنانيّين، وتجنّب التّأثيرِ على الاستثماراتِ وتمويلِ التّصديرِ والاستيرادِ وتبادلِ التّحويلات بين لبنان المقيم ولبنان المنتشر. فلا يجوز، تحت عنوان إنقاذِ لبنان، أن يَتمَّ تغييرُ هُويّة نظامِه الوطنيّ الاقتصاديّ التي لا تخضعُ لأيّ تسويةٍ دستوريّةٍ أو مساومة سياسيّة. إنّنا على ثقةٍ بأنّكم، من موقِعكم كرئيسٍ للجُمهوريّة وحامي الدّستور، ورمزِ البلاد، ستسهرون على كلّ ذلك بالتّعاون مع الحكومة والمجلس النّيابيّ.
في كلّ حال، لكي تأخذَ الإصلاحاتُ كاملَ مداها إنّما تحتاجُ إلى أن يرافقَها بسطُ سلطةِ الدّولةِ على كامل أراضيها، وتوحيدُ السّلاحِ والقرار، عملًا بقرارات مجلس الأمن، واعتمادُ الخياراتِ الاستراتيجيّة التي تُعزّزُ علاقاتِ لبنان مع محيطه العربيّ والعالم الدّيمقراطي. وفيما تعودُ الدّول الخليجيّة تدريجًا إلى لبنان لتساهمَ في حركة استنهاضِه، من الواجب احترام سيادة الدّول وحسن العلاقات معها، وتوقّف الحملات على هذه الدول الشّقيقة، خاصّةً وأنّها حملات لا علاقة لها بمصلحة لبنان، بل بمصالح دول أجنبية.
فخامة الرّئيس،
5. يسعدني باسم إخواني السّادة المطارنة والأسرة البطريركيّة وسيادة السفير البابويّ وهذا الجمهور من وزراء ونوّاب ومسؤولين ومؤمنين، أن أقّدم لكم أطيب التّهاني بالعيد مع التمنيات القلبيّة بأن يفيض الله عليكم نعمه وبركاته، لكي تصلوا بالبلاد إلى شاطئ الأمان، بنعمة المسيح القائم من الموت.
المسيح قام! حقًّا قام!"