لبنان
14 حزيران 2021, 05:00

الرّاعي في عظة الأحد: هذا بلد لا يسلّم مقاليده لأحد ولا يستسلم أمام أحد

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاس الأحد الرّابع من زمن العنصرة في بكركي، وتناول في عظته أهمّيّة الصّلاة على ضوء الآية الإنجيليّة "إبتهج يسوع بالرّوح القدس وصلّى" (لو 10: 21)، مشدّدًا على ضرورة "أن يصلّي كلّ مسؤول من أجل خلاصه الشّخصيّ ومن أجل أن يحكم بالعدل والتّفاني بغية تأمين الخير العامّ الّذي منه خير كلّ مواطن وكلّ المواطنين"، فقال:

"1.عندما يفتح الإنسان قلبه للرّوح القدس، يبتهج ويصلّي، فالرّوح القدس هو معلّم الصّلاة وينبوعها في كلّ ظرف من ظروف حياتنا الحلوة والمرّة. ذلك أنّه، على ما يقول بولس الرّسول، "يأتي لنجدة ضعفنا، لأنّنا لا نحسن الصّلاة كما يجب، لكنّ الرّوح يشفع لنا بأنّات لا توصف" (روم 8: 26). وفيما يعلّمنا الصّلاة يعزّي قلوبنا في الحزن، ويهديها في الضّياع، ويفتحها في سعادتها على الفقير والمحتاج والمظلوم.

فلّما عاد تلاميذ يسوع فرحين بنجاح رسالتهم، "إبتهج يسوع بالرّوح القدس وصلّى شاكرًا ومُمجّدًا: أعترف لك يا أبتِ، يا ربّ السّماء والأرض" (لو 10: 21).

2. فيما نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، نلتمس من الله عطيّة الرّوح القدس لكي يعلّمنا الصّلاة، ويعلّمنا على الأخصّ كيف نعود إلى الله لكي نحسن قراءة علامات الأزمنة في حياتنا، وفي الأحداث الّتي تختصّ بنا شخصيًّا. فلا تكون مجرّد أحداث حلوة أو مرّة، بل مناسبات لسماع ما يمليه الله علينا بإلهامات الرّوح القدس. "فكلّ شيء يؤول إلى خير الّذين يتّقون الله"، على ما يقول بولس الرّسول (روم 8: 28).

3. تشارك معنا في الذّبيحة المقدّسة عائلة المرحوم الشّابّ ريان لوك وهبه، الّذي ودّعناه معها بكثيرٍ من الأسى وبالصّلاة منذ ثلاثة أسابيع. فنعزّي من صميم القلب والديه وشقيقيه وجدّته وعمّيه وعمّتيه وعائلاتهم. ونلتمس له الرّاحة الأبديّة في السّماء، ولهم الصّبر والعزاء الإلهيّ.

4. وإنّي أوجّه تحيّة خاصّة لممثّلي الجامعة الباسيليّة الّتي مضى على تأسيسها خمس وسبعون سنة. أحيّي عمدتها المركزيّة: عميدها والأعضاء. وأثني على أهدافها الّتي هي التّعاون بين أبناء العائلة والعائلات المتفرّعة منها وعلى تضامنهم، والاهتمام بأبنائها في ما يؤول إلى خيرهم المادّيّ والمعنويّ. وقد اتّخذت شفيعًا لها القدّيس باسيليوس، وتقيم قدّاسًا سنويًّا في ذكرى تأسيسها في شهر حزيران، بالإضافة إلى رياضة روحيّة في عيد الميلاد أو الفصح، ولها كاهن مرشد من أبناء العائلة. بارك الله أعمالها وأعضاءها وعائلاتهم.

5. بالعودة إلى موضوع الصّلاة في إنجيل اليوم، نتعلّم أنّ الصّلاة استذكار الله: نتذكّر أنّه أعطانا الوجود. نتذكّر أعماله وعنايته بنا وتصميمه الخلاصيّ الّذي يشملنا جميعًا. لذلك نصلّي صباحًا وظهرًا ومساءً. نصلّي قبل الطّعام وبعده. نصلّي عند ساعة النّوم وفي الاستيقاظ. أمّا ذروة الصّلاة فيوم الأحد الّذي هو اللّقاء الأسراريّ المحيي مع محبّة الآب الّتي تظلّلنا، ونعمة الإبن الّتي تخلّصنا، وحلول الرّوح القدس الّذي يقدّسنا بثمار الفداء.

كلّ صلاة، أكانت لفظيّة أم تأمّليّة، تقتضي منّا الخشوع واستحضار الله.

6. نستمدّ الصّلاة من ينابيعها: من كلمة الله الّتي بسماعها نتعلّم الصّلاة كجواب من الله الّذي كلّمنا؛ من الإيمان الّذي يحملنا على البحث عن الله بالصّلاة؛ من الرّجاء الّذي يجعل من صلاتنا انتظارًا لتجلّيات الله؛ من المحبّة الّتي تحملنا على المثابرة فيها حبًّا لله.

7. الله يستجيب صلاتنا كيفما عبّرنا عنها. فقد تقبّل صلاة تواضع القلب من ذاك العشّار في الهيكل، وصلاة الإيمان من الأبرص والكنعانيّة ويائيروس، والصّلاة الصّامتة من الرّجال الأربعة الّذين حملوا إليه مخلّع كفرناحوم، ومن المرأة النّازفة، وصلاة الأعمى الملحّة: "يا ابن داوود ارحمني".

8. كم هو ضروريّ أن يصلّي كلّ مسؤول من أجل خلاصه الشّخصيّ ومن أجل أن يحكم بالعدل والتّفاني بغية تأمين الخير العامّ الّذي منه خير كلّ مواطن وكلّ المواطنين. المسؤول الّذي يصلّي يخاف دينونة الله، أمّا الّذي لا يؤمن ولا يصلّي فليَخف دينونة الشّعب. نقول للمسؤولين الّذين يعطّلون تأليف الحكومة ونهوض الدّولة: لقد عرفنا سياسة الأرض المحروقة، لكنّنا نرى في هذه الأيّام سياسة الشّعب المحروق. العالم كلّه ينتظرنا لكي يتمكّن من مدّ يد المساعدة من أجل إنهاض الدّولة. أمّا أنتم فغارقون في لعبةٍ جهنميّة، في الأنانيّات والأخطاء، في سوءِ التّقدير وسوءِ الحوكمة، في المحاصصةِ والمكاسب، وفي السّيرِ عكسَ أماني شعبِنا...

لا يكفي أن تعترفوا بعجزكم وضعفِ صلاحيّاتكم لتبرّروا المراوحة، وتتركوا الأزماتِ تتفاقم والمآسي تتعمّق والانهيارَ يتسارع. هذه البلاد ليست ملكيّةً خاصّةً لكي تسمحوا لأنفسِكم بتفلسيها وتدميرِها. هذه الدّولة هي ملكُ شعبِها وتاريخِها وأجيالِها الطّالعة. أمام عدم معالجة الأمور العامّة الحياتيّة، نتساءل إذا ما كنتم مكلّفين بتدميرِ بلادنا، وإلّا لِمَ هذا الجمود فيما فُرصُ المعالجةِ متوفّرة، ونحن في زمنٍ فيه حلولٌ لكلِّ شيءٍ؟

9. إنّنا ندعو الدّولة إلى التّحرّك نحو الدّول الشّقيقةِ والصّديقة وتتفاوض معها لمساعدةِ لبنان اليومَ قبل الغد. فالشّعبُ لا يحتمل مزيدًا من القهر والإذلال. الدّولُ مستعدّةٌ لتلبيةِ النّداء، لكنّها تفترض أن تكون الدّولةُ دولةَ لبنان ودولةَ شعبِ لبنان، وشرعيّتُها تَمتلِك قرارَها الحرَّ والمستقلّ. لقد حان الوقت لخروج الدّولةِ من لعبةِ المحاورِ الإقليميّة، وتعيدَ النّظرَ بخِياراتها الّتي أثبتَت التّطوّراتُ أنّها لا تَصبُّ في مصلحةِ البلادِ والاستقلالِ والاستقرارِ والوِحدةِ والازدهار، وأنّها قَضَت على عَلاقاتِ لبنانَ العربيّةِ والدّوليّة. لقد ضَربت هذه الجماعةُ السّياسيّةُ سُمعةَ لبنان الدّوليّة، فيما كان اسمُ لبنانَ رمزَ الإبداعِ والنّهضةِ والازدهارِ في بلاد العربِ والعالم.

وندعو حكومة تصريف الأعمال لتقوم بواجباتها بحكم الدّستور والقانونِ والضّميرِ، فتبادرَ إلى توفيرِ الغذاءِ والدّواءِ والمحروقات وحليب للأطفال. أليس من أبسطِ واجباتها دهمُ مستودعاتِ وخزّاناتِ الاحتكار، وتوقيفُ شبكات التّهريب المنظَّمةَ والمحتضَنةَ، وإقفال المعابرِ غيرِ الشّرعيّة وضبطُ المعابر الشّرعيّة، وإقفال المتاجرَ ومنع غلاء الأسعار والتّزوير؟

10. رغم فداحةِ الأزمة، الحلولُ موجودةٌ وسبلُ الإنقاذِ متوفِّرة، لكن هناكَ من يَمنعون تنفيذَ الحلولِ كما يمنعون تأليفَ الحكومة. هناك من يريدُ أن يُقفلَ البلاد ويَتسلَّمَ مفاتيحَه. هذه رهاناتٌ خاطئة. هذا بلدٌ لا يُسلِّم مقاليدَه لأحدٍ ولا يَستسلمَ أمامَ أحد. جذوةُ النّضالِ في القلوب حيّة. بلادنا تمتلِكُ، رغم الانهيار، جميعَ طاقاتِ الإنقاذِ، لكنّها تحتاج إلى قيادةٍ حكيمةٍ وشجاعةٍ ووطنيّة تُحبُّ شعبَها. وإذا لم تتوفّر هذه القيادة، فمسؤوليّةُ الشّعبِ أن يَنتظمَ في حركةٍ اعتراضيّةٍ سلميّةٍ لإحداثِ التّغييرِ المطلوب، ولاستعادةِ هويّةِ لبنان وحياده النّاشط ومكانه في منظومةِ الأمم، وصداقاته، والدّورةِ الاقتصاديّةِ والحضاريّةِ العالمية، ودوره في الإبداع والسّلام.

11. فلنصلّ من أجل خلاص لبنان وشعبه. فالصّلاة بالإيمان والرّجاء من القلب لا تُردّ. ولنرفع في كلّ حال آيات الشّكر والتّسبيح للثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس الآن وإلى الأبد، آمين."