لبنان
24 كانون الأول 2020, 08:55

الرّاعي في رسالة الميلاد: نحن مصمّمون على إنقاذ لبنان

تيلي لوميار/ نورسات
وجّه البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي رسالة الميلاد إلى المطارنة والرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات والرّهبان والرّاهبات والموارنة في لبنان والانتشار، تحت عنوان "الشّعب السّالك في الظّلمة أبصر نورًا عظيمًا"، وقال فيها:

"يسعدني أن أحيّيكم جميعًا، وأعرب لكم عن تهانيّ القلبيّة وأخلص التّمنيّات بعيد الميلاد المجيد والسّنة الجديدة 2021 وأوجّه تحيّة حارّة لقدس الرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات، والإقليميّين والإقليميّات شاكرًا لكم محافظتكم على هذا التّقليد السّنويّ، على الرّغم من جائحة كورونا، وهو الصّلاة معًا وتبادل التّهاني بالعيد. وأشكركم على الكلمة اللّطيفة الّتي عبّر بها بإسمكم قدس الأباتي نعمة الله الهاشم.

نسأل الله أن يبارك رهبانيّاتكم وجمعيّاتكم ويقدّس أعضاءها، وأن يرحمنا فيشفي المصابين بوباء كورونا ويبيد بقدرته الإلهيّة هذا الوباء، ويعيد إلى الكرة الأرضيّة حياتها الطّبيعيّة.

1. الكلمة الإلهيّ الأكثر إشعاعًا من الشّمس، تجسّد في قلب اللّيل من العذراء بقوّة الرّوح القدس طفلًا إبن إنسان، هو يسوع نور العالم. وكان أشعيا النّبيّ قد تنبّأ عنه قبل سبعماية سنة قائلاً "الشّعب السّالك في الظّلمة أبصر نورًا عظيمًا" (أش9: 1). ما يعني أنّ نور المسيح أقوى من جميع الظّلمات، كما استهلّ يوحنّا الرّسول إنجيله: "النّور يسطع في الظّلمة، والظّلمة لا تغشاه" (يو1: 5).

2. ما أكثر الظّلمات الّتي تكتنفنا وتقبض على القلوب البشريّة، لكنّ نور المسيح أقوى! ما أكثر الظّلمات في العلاقات الشّخصيّة والعائليّة والاجتماعيّة، لكنّ نور المسيح أقوى! ما أكثر النّزاعات السّياسيّة والاقتصاديّة والجيوسياسيّة والبيئيّة، لكنّ نور المسيح أقوى! ما أكثر الظّلمات الماليّة والمعيشيّة والفقر والعوز، لكنّ نور المسيح وشهود محبّته أقوى! ما أكثر ظلمات اليأس والقنوط عند شبابنا وقوانا الحيّة، لكنّ نور الصّمود بالمسيح أقوى!

3. في رسالته العامّة "كلّنا أخوة" الّتي أصدرها قداسة البابا فرنسيس ووقّعها في 3 تشرين الأوّل 2020 على ضريح القدّيس فرنسيس الأسيزي، في ليلة عيده، استعرض في فصلها الأوّل الظّلمات الّتي تكتنف عالم اليوم تحت عنوان : "ظلال عالم مغلق" وعدّدها في إحدى عشرة نقطة، على سبيل المثال لا الحصر. نذكر منها:  

-  الأحلام المحطّمة أمام قوى المصالح الخاصّة السّياسيّة والاقتصاديّة، ما يثبت أنّ التّاريخ يتراجع.

- فقدان الحسّ التّاريخيّ، الّذي يحتقر الماضي، تحت وطأة إيديولوجيّات متعدّدة الألوان، تجتذب نحو مستقبل آخر، وتتلاعب بتعابير كبيرة وتشوّه معناها كالحرّيّة والدّيمقراطيّة والعدالة والوحدة. وهذه أنواع جديدة من الاستعمار الثّقافيّ.

- السّياسة تفقد مبرّر وجودها عندما تُستخدم للسّيطرة وزرع اليأس وإثارة الغضب واللّا ثقة، وتفقد دورها كمناقشة سليمة حول مشاريع طويلة المدى تهدف إلى تنمية الخير العامّ. ممّا يؤدّي إلى صراع المصالح الّذي يضع الجميع ضدّ الجميع.

- التّهميش العالميّ لأجزاء من البشريّة، وكأنّ التّضحية بها متاحة، لصالح فئات بشريّة تريد رفاهيّة العيش من دون حدود. من بين هؤلاء، الأجزاء: الفقراء، والمعوّقون، والأجنّة، والأطفال الّذين لم يولدوا، والمسنّون. وبهذا تُنتهك شرعة حقوق الإنسان.

- صراعات ومخاوف وحروب ونزاعات تقوّض أسس الأخوّة الإنسانيّة المكتوبة في دعوة العائلة البشريّة. وقد بلغت ذروتها في ثقافة بناء الجدران على الأرض وفي القلوب.

- التّقدّم التّكنولوجيّ المتنوّع والتّراجع في الأخلاق الضّابطة للتّصرّفات الدّوليّة، وفي القيم الرّوحيّة والشّعور بالمسؤوليّة، وابتعاد الحلم ببناء العدالة والسّلام.

- جائحة كورونا وضربات التّاريخ الّتي تبقى مجرّد أحداث خارجيّة، بينما ينبغي أن تعلّمنا أنّنا جميعًا في زورق واحد، إذا أصاب ضررٌ فردًا واحدًا يُصاب الجميع. ما من أحدٍ يخلص لوحده، ولا يمكننا أن نخلص إلّا مجتمعين. يجب أن يسقط قناع "الأنا" الخائف لصالح الانتماء كإخوة، وأن يسقط الادّعاء بأنّنا أسياد مطلقون، وأن نستخلص درسًا يقودنا إلى "النّحن".

- سقوط الكرامة الإنسانيّة عند حدود الدّول. فالمهاجرون الّذين يغادرون أوطانهم قسرًا غالبًا ما يتعرّضون للعنف والإتجار بالبشر والاعتداء النّفسيّ والجسديّ، وللمعاناة الّتي لا توصف، وللطُّرُق في التّعامل الّتي تُشعرهم بأنّهم أقلَّ قيمة وإنسانيّة.

- التّناقض بين وسائل التّواصل وجعل الحياة الخاصّة تحت مراقبة مستمرّة. يُستباح عرض كلّ شيء من خلال التّواصل الرّقميّ، حتّى أصبح كلّ شخص هدفًا لنظرات فضوليّة تكشف خصوصيّاته. وهكذا يتلاشى احترام الآخر وتُعرّى حياته إلى أقصى الحدود.

- عدوان بلا حياء. تظهر في عالمنا أشكال غير اعتياديّة من العدوانيّة الاجتماعيّة الّتي تجد في الأجهزة المحمولة وأجهزة الكمبيوتر مجالاً، لا مثيل له، للانتشار.

إنّ نور المسيح أقوى من كلّ هذه الظّلمات! ويوقد فينا شعلة الرّجاء!

4. هذا أوّلُ عيدِ ميلادٍ يَمُرُّ على أهالي ضحايا تفجيرِ مرفأ بيروت والمنكوبين، وأهالي أعزّاء لهم اغتيلو بالسّلاح المتفلّت، وقلوبُهم جميعًا مغارةُ أحزانٍ ودموع ليولد فيها يسوع. إنّنا نشاركهم آلامهم الحسّيّة والنّفسيّة في عيدِ الفرحِ والبهجةِ والمحبّةِ ونصلّي من أجلهم. وما يؤلمهم يؤلمنا بالأكثر أنَّ التّحقيقَ العدليّ يدور حولَ نفسِه وحولَ الاجتهاداتِ والصّلاحيّات. لكنّ الكارثة أكبر من الجميع وتفوقُ حصانةَ الجميع. الشّعبُ يريد الحقيقةَ مهما كانت مرجِعيّةُ التّحقيق، ويريد أن يذهبَ التّحقيقُ إلى أساسِ الكارثةِ لا إلى ضفافِها. ماذا نقول اليومَ لأهالي أكثرَ من 200 ضحيّةٍ ولأكثرَ من 6500 جريحٍ وجريحةٍ ولأكثرَ من 300 ألفِ مشرّدٍ، بالإضافة إلى نِصفِ الشّعب اللّبنانيّ الّذي صار فقيرًا؟ كيف نعوِّضُ على بلدٍ فُجِّرَ مرفأُه؟ كيف نَنظُر إلى عاصمةٍ نصفُها مدمّرٌ، وأجملُ أحيائِها وبيوتِها التّراثيّة ومكتباتِها وبناياتِها وجامعاتِها ومدارِسها وكنائسِها ومعابدها وجوامعها ومؤسّساتِها السّياحيّة مهدّم؟ من أين نأتي بـ15 مليارَ دولار لإعادة التّرميم والبناء والتّعويض؟ وكيف ننهض بالاقتصاد والتّجارة المنهارين؟ مع كلّ ذلك ليس عندنا حكومة من دون أيّ مبرّر سوى النّيّات الخبيثة الّتي تتسلّل وتهدم، مثلما فعلت تلك الحيّة القديمة (راجع تكوين 3: 1-7).

5. قلّما مرّت على أمّةٍ أزمةٌ بهذه الخطورةِ، وتوانى قادتُها عن إنقاذِها مثل عندنا. وفي الأصل، ما كانت هذه الأزمةُ الوجوديّةُ لتَقعَ لولا سوء أداء هذه الجماعةِ السّياسيّةِ منذ سنواتٍ وصولًا إلى اليوم. فهي لم تفهم السّياسةِ فنًّا لإدارةِ شؤونِ البلاد والشّعب، بل جعلته فنًّا لمصالحها ولتعطيلِ الحياةِ العامّةِ، والاستحقاقات الدّستوريّة وإذلال الشّعبِ، وإفسادِ المؤسّساتِ، وإعاقةِ القضاء، وضربِ الاقتصادِ والنّقد. أمام هذا الواقع لا يسعنا القول سوى أنّ هذه الجماعة السّياسيّة إنّما تتولّى إدارة دولةٍ عدوّة وشعبٍ عدوّ.

6. ونرى من ناحيةٍ أخرى أنّ إضعافَ الثّقةِ بالشّراكةِ الوطنيّةِ، وإعطاءَ الانطباعِ بأنَّ لبنانَ الموَحَّدَ غيرُ قابلٍ للحياةَ، فيما لا قيمةَ للبنان خارجَ الشّراكةِ والوحدة، ولا قيمةَ للشّراكةِ والوحدةِ خارجَ الحرّيّةِ والولاء. هناك من يُريد أن يقضي على لبنانَ النَّموذجِ والرّسالةِ والاستثناءِ عمدًا أو جهلاً. لكنّ رجاءنا وطيد بأنَّ لبنانَ أقوى من كلِّ هذه المحاولات. وقد أثبَت ذلك في الماضي وسيُثبته في الحاضر. سيقومُ بالعِزّةِ والمجد. ونحن عازمون على مواجهةِ التّحدّياتِ مهما تَعدّدت وعَظُمَت. نحن مصمِّمون على إنقاذِ لبنان الدّيمقراطيِّ، الحياديِّ، المستقلّ. لبنانَ السّيادةِ والشّراكةِ والرُّقيّ.

7. على الرّغم من النّكساتِ الّتي طرأت على صيغةِ العيش معًا بسببِ تعدّدِ الولاءات، وتَسرُّبِ العقائدِ الغريبةِ عن مجتمعِنا المسيحيِّ/ الإسلاميّ، وتكاثرِ التّدخّلاتِ الخارجيّة، لا بدَّ من إعادةِ تجديدِ الإيمانِ بالشّراكةِ في إطارٍ لامركزيٍّ وحياديٍّ ومدنيٍّ. لا بدَّ من إعادةِ تحديدِ معنى التّعدّديّةِ الحضاريّةِ وإنتاجِ دولةٍ يَنسجم بُنيانُها مع تطوّرِ المجتمع ِاللّبنانيِّ. لا قيمةَ للتّعدّديّةِ خارجَ الشّراكةِ والدّستورِ والدّولةِ واحترامِ الآخَر والاعترافِ بخصوصيّاته. حريٌّ بناـ وهذا من مصلحتنا جميعًاـ أن نعيدَ الصّيغةَ اللّبنانيّة إلى ثنائيّتِها التّاريخيّة، أيّ إلى الشّراكةِ بين المسيحيّين والمسلمين لنَقِيَها صراعاتِ المذاهبِ والطّوائفِ الّتي ساهمت في تشويه صورتِها. لبنانُ بتأسيسه وطن للسّلامِ لا للصّراعات، ودولة واحدة للمواطنين لا دويلات للطّوائف والمذاهب والأحزاب والنّافذين.

يريد اللّبنانيّون أن يعيشوا في لبنانَ الكبير بالمساواة مع بعضِهم البعض، لا على حسابِ بعضِهم البعض، وضِدَّ بعضِهم البعض. المساواةُ في الإنماءِ والضّرائبِ والرّسومِ والجباية، المساواةُ في المشاركةِ في القرار الوطنيِّ، لا في التّفرّدِ به خارجَ الشّرعيّةِ وفرضِه على الآخرين.

8. تعلمون أنّ مسؤوليّاتنا التّاريخيّة والوطنيّة دفعتنا إلى القيام بمبادرة تهدف إلى حثِّ المسؤولين على تأليف حكومة سريعًا، منعًا للإنهيار الشّامل. ومنذ اللّحظة الأولى كنّا ندرك الصّعوبات الدّاخليّة والخارجيّة، ووجود أخرى خفيّة ومفتعلة تعيق التّشكيل. لكنّنا أخذنا بالاعتبار مصلحة المواطنين ومآسيهم. كنّا نراهن على الضّمير. وكان المبدأ ألّا يتحكّم أيّ طرف بمفاصل الحكومة خارج المساواة بين الطّوائف. الشّعب، ونحن معه، يريد حكومة اختصاص محصّنة بوجه التّسييس تتولّى ورشة النّهوض والإصلاح، وتعيد لبنان إلى منظومة الأمم. كنّا في معرض انتظار حكومة تُصلح الدّولة، لا في معرض تأليف حكومة يسيطر البعض من خلالها على مفاصل البلاد. كنّا في معرض إنقاذ الشّعب لا في معرض إعلان سقوط الدّولة. لقد أسفنا كلّ الأسف لسقوط الوعود الّتي أُعطيت لنا. فعاد تأليف الحكومة إلى نقطة الصّفر. أيّها المسؤولون، فكّوا أسر لبنان من ملفّات المنطقة وصراعاتها، ومن حساباتكم ومصالحكم المستقبليّة الخاصّة.

حبّذا لو يبادر المعنيّون إلى مصارحة الشّعب في أسباب عدم تأليف الحكومة. فمن حقّه أن يعرف واقعه ومصيره. إنّ لدى بعض المسؤولين الجرأة في الفشل، فليكن لدى البعض الآخر الجرأة في النّجاح، وفي مصارحة الشّعب.

مع كلّ ما جرى نحن مستمرّون في مساعينا بكلّ ما أوتينا من قوّة وإيمان ومن ثقة الشّعب وشبابه. من كان مؤتمنًا على التّاريخ لا يتراجع أمام صعاب الحاضر. فمساعينا لا تهدف إلى تأليف حكومة وحسب، بل إلى إنقاذ لبنان، وسننقذه.

9. "الشّعب السّالك في الظّلمة أبصر نورًا عظيمًا" (أش 9: 1) في قلب أزماتنا الكثيفة يشرق نور المسيح ليبدّدها ويزرع فينا الرّجاء، إنّ نشيد الملائكة فوق مذود بيت لحم دشّن زمنًا جديدًا للبشريّة جمعاء، هو زمن السّلام والرّجاء: السّلام في عهدتنا لبنائه، والرّجاء في قلوبنا للصّمود به.

"المجد لله في العلى وعلى الأرض السّلام والرّجاء الصّالح لبني البشر".

ولد المسيح، هلّلويا!".