لبنان
16 نيسان 2022, 10:29

الرّاعي في رسالة الفصح: يجب أن نضع حدًا للأمر الواقع الذي يتألّم منه الشّعب اللّبنانيّ

تيلي لوميار/ نورسات
لمناسبة حلول عيد الفصح المجيد، أصدر الكردينال مار بشاره بطرس الرَّاعي رسالة الفصح ٢٠٢٢، جاء فيها:

"إخواني السادة المطارنة الأجلّاء، 

وقدس الرّؤساء العامّين والعامّات، 

الآباء والرّاهبات، الإخوة وألخوات الأحبّاء، 

المسيح قام! حقًّا قام!

1. مع إخواني السّادة المطارنة الأجلّاء وأسرة الكرسيّ البطريركيّ أحيّي وأقدّم التّهاني بعيد فدائنا وتبريرنا، بموت المسيح مخلّص العالم وقيامته، وأعرب عن أخلص التّمنّيات بفيض الخير والنّعم لقدس الرّؤساء العامّين والرّئيسات العامّات، والإقليميّين والإقليميّات، ومن خلالهم وخلالهنّ للرّهبانيّات الرّجاليّة والنّسائيّة الجليلة ولجميع أعضائها. أشكركم على هذه العادة الحميدة التي نلتقي فيها سنويًّا للصّلاة وإعلان رسالة الفصح وتبادل التّهاني، رغم الغصّة في القلوب لحالة شعبنا ووطننا. أشكر الأخت نيكول حرّو على كلمة المعايدة بإسمكم جميعًا. وأودّ معكم أن نوجّه تهانينا وتحيّاتنا إلى أبرشيّاتنا ورهبانيّاتنا في النّطاق البطريركيّ وبلدان الإنتشار، مجدّدين أساس إيماننا: المسيح قام! حقًّا قام.

2. عندما قام الرّبّ يسوع من الموت، كما روى متّى الإنجيليّ، وحدثت زلزلة عظيمة، إرتعد خوفًا حرّاس القبر، إذ شاهدوا ملاكًا منظره كالبرق، ولباسه كالثلج أبيض، دحرج الحجر عن الباب وجلس عليه، واعلن للمرأتين أنّ يسوع قام، وأسرعوا إلى المدينة وأخبروا عظماء الكهنة والشّيوخ، فاجتمعوا وتشاوروا، وأعطوا الحرس فضّة كثيرة وقالوا لهم: "قولوا أنّ تلاميذه جاؤوا ليلًا وسرقوه، ونحن نيام، أمّا الوالي فتدبّر امره" (راجع متى 28: 3-4، 11-13). مساكين هؤلاء الحرّاس: وحدهم شاهدوا حدث القيامة، وكانوا أوّل شهودها. وبرشوة المال كذّبوا أعينهم والحقيقة. يا للكرامة المهدورة!. بل مساكينٌ بالأكثر الذين ارتشوهم!

إنّها مأساة رشوة الضّمائر بالمال الفاسد، ومأساة الكذب الذي يحاول طمس الحقيقة، ولكن إلى حين. مأساة مزدوجة تتكرّر كلّ يوم، ولاسيّما من جهة المقتدرين والنّافذين ومستغلّي السّلطة. هذا فضلًا عن رشوة الوظيفة والسّلطة والنفوذ.

إنّ عظماء الكهنة والشّيوخ أنفسهم سبق وارتشوا يهوذا الإسخريوطيّ بثلاثين من الفضّة ليسلمهم يسوع (متى 26: 15). ولكن عندما رأى هول جريمته "رمى الفضّة في الهيكل وإنصرف ومضى فشنق نفسه" (متى 27: 5) هذه هي نتيجة شراء الضّمائر بالبخيس من المال. فالضّمير الذي هو صوت الله في أعماق الإنسان، لا يُباع ولا يُشرى، لكونه من القدسيّات. والتّجارة به إنتهاكٌ لها.

3. نحن كمسيحيّين شهود على قيامة المسيح (لو 24: 48)، لأنّها في أساس إيماننا (القدّيس أغسطينوس). إنّ موت المسيح مصلوبًا حدث يؤمن به الجميع بما فيهم الوثنيّون، لكونه حدثًا تاريخيًّا موثّقًا ومنظورًا. أمّا قيامته فنقبلها بالإيمان، وهي غير منظورة. لكنّها عرفت من الشهود: الحرّاس والملاك والمجدليّة والنسوة وبطرس ويوحنا، وتلميذي عمّاوس، والرسل الأحد عشر، ومن ترائيات الرّبّ على مدى أربعين يومًا، كما اوردها الإنجيليّيون.

إنّ مبرّر وجودنا كمسيحييّن هو الشّهادة لحقيقة يسوع المسيح ولمحبّته، الشهادة للحقيقة في المحبّة. بما أنّ الله محبّة فهو الحقيقة. فأتى المسيح الإله يعلّم الحقيقة ويعيش فيها المحبّة العظمى حتّى النهاية بسرّه الفصحيّ "مات لفدائنا من خطايانا، وقام لتقديسنا بالحياة الجديدة" (راجع روم 4: 25).

الكنيسة المؤتمنة على هذه الشّهادة هي "عمود الحقّ وأساسه" (1 طيم 3: 15)، ومعلّمة الحقيقة (الكرامة البشريّة، 14). وبهذه الصّفة هي خادمة الحقيقة في المحبّة (البابا بندكتوس السادس عشر، رسالته العامة: "المحبّة في الحقيقة"). وعلى هذا الأساس تواصل البطريركيّة رسالتها بشخص بطاركتها في كلّ عهد وجيل. فالحقيقة تحرّر، والمحبّة توحّد وتجمع. ولهذه الغاية تتحرّر البطريركيّة باسم الكنيسة من كلّ مصلحة دنيويّة ولون سياسيّ.

عندما رأى القدّيس البابا يوحنا بولس الثاني أنّ هويّة لبنان مهدّدة، وجّه رسالة رسوليّة إلى جميع أساقفة الكنيسة الكاثوليكيّة في العالم بتاريخ 7 أيلول 1989، دعاهم فيها للتحرّك من أجل حماية لبنان، مخصّصين يومًا في أبرشيّاتهم للكلام عن حقيقة لبنان، وللصّلاة من أجل خلاص لبنان، واقترح عليهم الثّاني والعشرين من تشرين الثاني من تلك السّنة، وهو عيد الإستقلال. وقد ضمّن تلك الرّسالة الشهيرة رؤيته عن حقيقة لبنان.

4. نحن نعيش اليوم ظرفًا مماثلًا، يحملنا على أن نتكلّم عن حقيقة لبنان، ونتساءل: أيُعقَل أن نُصبحَ وطنَ الانحطاطِ وقد كنّا بلدَ النّهضة التي أسّسناها ونَشرناها في لبنان والشّرق والعالم؟ أيُعقَلُ أن نُمسيَ دولةَ التّسوّل وقد كنا دولةَ الجُودِ والعطاء؟ أيُعقَلُ أن نَغدوَ جماعةَ التّبعيّةِ وقد كنّا المرجعيّةَ والمثال. أيُعقلُ ألّا يميّزُ البعضُ بين الصّحّ والغلط؟ أيُعقَلُ أن نصيرَ مجتمعَ التّناقضاتِ وقد كنا مجتمعَ التكاملِ؟ أيُعقَلُ أن نُضْحِيَ شعبَ القبولِ بالأمرِ الواقع وقد كنّا شعبَ الصّمودِ والمقاومة. لن نَقبلَ بوقفِ حركةِ التّاريخِ والإنسان لئلا نَفقِدَ مبرّرَ وجودِنا الخاصِّ والمميَّزِ بكلّ الخصائص في هذه المنطقة، وقد كنّا فيها حالةَ اليقظةِ والإشعاعِ. فلا يمكن أن نغيّر الآن هذه الحالة وهذا الدّور، وبين أيدينا مدارس وجامعات ومعاهد ومؤسّسات. طلاب واساتذة وموظفون وعائلات!

5. نحن حركة التّغيير حركة الحرّيّة والسّيادةِ في هذا الشّرق، وروّادُ النّهضةِ السّياسيّةِ والفكريّة. قاوَمنا حين كانت المقاومةُ مغامرةً، وانتفَضْنا حين كانت الانتفاضةُ تُقمعُ، ورَفعنا الصّوتَ حين صَمتَت الأفواه. وصَمدنا حين كان المعتدون والمحتلّون ممالكَ وإمبراطوريّاتِ وسَلْطنات. فليس اليوم سنَخضع ونُسلِّم ونَستسلِم. فما بالُنا لا ننتفض ونَنفُض عنّا غُبارَ النِّزاعات ونَلتقي في وطن الوحدة في التّعدّديّة الثقافيّة والدّينيّة، الذي حقّقناه معًا سنة 1920.

يجب أن نضعَ حدًّا للأمرِ الواقعَ الذي يتألّم منه الشّعبُ اللّبنانيُّ، ويُهمِّشُ الدولةَ الشرعيّةَ، ويُبعثِرُ وِحدَتَها بين دويلاتٍ أمنيّةٍ ودويلاتٍ قضائيّةٍ ودويلاتٍ حزبيّةٍ ودويلاتٍ مذهبيّةٍ ودويلاتٍ غريبة. فبِقدْرِ ما يَتحرّكُ الشّعبُ ويواجِه جِدّيًا هذا الأمرَ الواقعِ الكارثيّ، يَتشَّجعُ المجتمعُ العربيُّ والدُوليُّ لمساعدتِه وتوفيرِ إمكاناتِ التغييرِ ووسائلِ الإنقاذ. وبقدْرِ ما رَحّبنا بعودةِ أصدقائنا العرب إلى لبنان، نتمنّى أن يعودَ اللّبنانيّون أنفسهم إلى لبنان ويَتخلّوا عن ولاءاتِـهم الخارجيّةِ وعن انتماءاتِـهم إلى مشاريعِ غريبةٍ عن تاريخنا وتراثِنا.

6. إن إنقاذَ لبنان بوحدته وتعدّديته مرتبطٌ بالتّخلّي عن الأدوار المصطَنعةِ والمستورَدة، وباستردادِ دورِه الوطنيِّ والحضاريِّ وهُويّتِه الأصيلةِ وحيادِه، وبالولاءِ المطلقِ له، وبوِحدةِ الدّولةِ وسلطتِها، وباعتمادِ اللّامركزيّةِ الموسَّعة، وبالسّيادةِ والاستقلالِ وحريّةِ الإنسان. لقد تهاوت وحدةُ لبنان عندما اصطدَمت بتعدّدِ الولاءات، والانحيازِ إلى المحاورِ الإقليميّةِ، والانقلابِ على الميثاقِ الوطنيّ.

قبل أن يكونَ لبنانُ كيانًا دستوريًّا وحدودًا دوليّةً ونظامًا ديمقراطيًّا، هو هُويّةُ شعبٍ تميّز عبر العصورِ بالتّوقِ إلى الأمن والحريّة، وبالسّعي إلى العلمِ والمعرفة، وبالتزامِ التقدّمِ والسّلام، وبالتّعايشِ مع الآخَر والمحيط، وباعتناقِ ثقافةِ الحياةِ والصّمود، وبنسجِ جدليّةٍ روحانيّةٍ بين الأرضِ والإنسان، وبعُشقِ التّفاعلِ مع الشّرقِ والغرب. هذه كانت هوّيتنا الخاّصةُ الملازمة لوجودِنا من دونِ انقطاعٍ سواء في أزمنةِ التّحرّرِ والاحتلالِ أم في أزمنةِ الحربِ والسّلام، وشكلّت مرجِعيّةَ العملِ الوطنيّ. أمّا الهُويّات الهجينة التي تَسلّلت إلى هُويّتِنا اللبنانيّةِ المتجدِّدةِ عبر التاريخ، فيجب إزالتها عنها وكأنّها ملصَقات، وجعل هذه الهويّة معيارَ اختيارِ النّوابِ والوزراء والرّؤساء وسائرِ المسؤولين عن الوطن.

7. من أجل هذه الغاية، نراهن مع المواطنين ذوي الإرادة الحسنة على حصولِ الانتخابات النّيابية في موعدها، ومن بعدها الرّئاسيّة. فإنها فرصةُ التّغييرِ. إذا لم يَتنبّه الشّعبُ إلى خطورةِ المرحلة ويُقدِم على اختيار القوى القادرةِ على الدّفاعِ عن كيانِ لبنان وهُويّتِه، وعلى الوفاءِ لشهداء القضيّة اللّبنانية، وعلى إعادة علاقات لبنان العربيّة والدّوليّة، فإنّه، هذا الشّعب نفسه، يتحمّل هو، لا المنظومةُ السّياسيّةُ، مسؤوليّةَ الانهيار الكبير. ومن حظِّ لبنان أنّ التّغييرَ فيه لا يزال ممكنًا ديمقراطيًّا. فلا تعطّلوا أيّها اللبنانيّون هذه الوسيلةَ الحضاريّةَ السّلمية الأخيرة.

إنَّ نتائجَ الانتخاباتِ النيابيّةِ تتوقّفُ على المشاركةِ فيها. فلا يوجد خاسرٌ سلفًا ولا رابحٌ سلفًا. لبنان يحتاج اليوم وكل يوم إلى أكثرية نيابيّة وطنية، سياديّة، استقلاليّة، مناضلة، مؤمنة بخصوصية هذا الوطن والدّولة الشرعيّة والمؤسّسات الدّستورية وبالجيش اللّبنانيّ مرجعيّة وحيدة للسّلاح والأمن، وبوحدة القرار السّياسيّ والعسكريّ.

أمّا الخطورةُ الكبرى فهي تضليل الشّعب اللبنانيُّ فيَنتخب أكثريّةً نيابيّةً لا تُشبهه ولا تلتقي مع طموحاتِه، ولا تقدرُ أن تحلَّ أزماته فتزيدُ من عُزلته ومن انهيارِه. ستكونُ لا سمح الله حالةٌ غريبةٌ أن تأتيَ الغالبيّةُ النّيابيّةُ خِلافَ الغالبيّةِ الشعبيّةِ بسبب سوءِ اختيارِ الشّعب؛ فيُضطرُّ لاحقًا إلى معارضةِ نواب انتخَبهم في غفلةٍ من الوعي الوطنيّ. يَجُدر بالشّعبِ اللبنانيِّ، وهو يختار نوابَّه، أنْ يُدرك أنّه يختارُ أيضًا رئيسَ الجمهوريّةِ المقبل، بل الجمهوريّةَ المقبلة. ومّما لا شكّ فيه أنَّ مصير لبنان يتعلق على نوعيّةِ الأكثريّةِ النّيابيّة في المجلسِ الجديد.

8. عيد القيامة هو عيد الرّجاء. فلا بدّ، ونحن نعيش جلجلة طويلة، من أن يتدحرج الحجر عنّا بقوّة الفادي الإلهيّ الذي مات فداءً عن خطايانا، وقام لإنعاشنا بالحياة الجديدة. ومن علامات الرّجاء زيارة قداسة البابا فرنسيس إلى لبنان الموعودة في حزيران المقبل. وإنّا إذ ننتظره بالمحبّة والشوق، نصلّي كي يبارك الله هذه الزّيارة الرّسوليّة، ويحقّق أمنيات قداسة البابا من ورائها، فتؤتي ثمارها الرّوحيّة والإجتماعيّة والوطنيّة اليانعة.

المسيح قام! حقًّا قام!"