لبنان
13 حزيران 2022, 06:30

الرّاعي في ختام رياضة المطارنة: لا يستطيع الأسقف أن يكون أسقفًا "حسب قلب الله" ما لم يكن رجل صلاة ومحبّة ورحمة

تيلي لوميار/ نورسات
في ختام الرّياضة الرّوحيّة الّتي عقدها المطارنة الموارنة من 8 حتّى 11 حزيران/ يونيو في بكركي، ترأّس البطريرك المارونيّ القدّاس الإلهيّ في بكركي، ملقيًا خلاله عظة بعنوان: "السلام أستودعكم، سلامي أعطيكم" (يو 14: 27)، قائلاً:

"1. أعطى الرّبّ يسوع رسله الإثني عشر، أساقفة العهد الجديد، سلامه وسلّمهم إيّاه، لكي يحملوه إلى العالم ويزرعوه في القلوب. هكذا فعل يسوع "راعي الرّعاة" (1بطرس 2: 25): حمله سلامًا إلى الأرض، منذ مولده في مذود بيت لحم كما أنشد الملائكة (لو 2: 14)، وسكبه في القلوب بكلامه وآياته ومواقفه، منتزعًا منها كلّ خوف.

لنا، نحن خلفاء الرّسل، في ختام هذه الرّياضة الرّوحيّة الّتي أدخلتنا في عمق علاقتنا بالمسيح، الكاهن الأزليّ، وفي صميم رسالتنا، يقول لنا الرّبّ يسوع الكلام عينه: "السّلام أستودعكم، سلامي أعطيكم" (يو 14: 27).  

2. إنّي باسمكم وباسمي أشكر عزيزنا الأب نديم الحلو، المشير العامّ في جمعيّة الآباء المرسلين اللّبنانيّين الموارنة، على إرشاده لهذه الرّياضة. فجاءت مواعظه ذات عمق روحيّ وراعويّ. وقد أشبع كلّ واحدة منها بما اكتنز قلبُه وفكرُه من روحانيّة اكتسبها من الكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، ومن تعليم البابوات، وكتابات اللّاهوتيّين والفلاسفة الكاثوليك. وهكذا كشف لنا وجه الأسقف بأبعاده الثّلاثة، "رجل صلاة، ورجل محبّة، ورجل رحمة".

3. هذا الوجه المثلّث هو بالخلاصة وجه السّلام. فالأسقف المصلّي يدخل بسلام مع الله والذّات، وبالتّالي يصبح رسول سلام في أبرشيّته ومكان عمله وحالته. والأسقف الّذي تملأ قلبه محبّةُ الله، لا يستطيع إلّا أن يحبّ كهنته وشعبه بكلّ ما للمحبّة من أبعاد. الأسقف الرّحوم الّذي يختبر نعمة الله الرّحوم، ويعيش فرح الغفران والمصالحة مع الله والذّات، يصبح حتمًا رسول رحمة في أبرشيّته ومكان عمله وحالته. لا يستطيع الأسقف أن يكون أسقفًا "حسب قلب الله" (راجع إرميا 3: 15)، ما لم يكن رجل صلاة ومحبّة ورحمة. وهي ثلاث لا تنفصم بل تتكامل. فعندما يصلّي الأسقف بإيمان ويرفع عقله وفكره وقلبه إلى الله، ينفتح قلبه على محبّة الله والنّاس؛ وعندما يحبّهم بمحبّة المسيح يمتلئ قلبه رحمة يمارسها بالقول والعمل والمبادرات.

الصّلاة والمحبّة والرّحمة هي خلاصة الثّقافة المسيحيّة، النّابعة من مثاليّة ربّنا يسوع المسيح، وأقواله، وآياته، وأفعاله، ومواقفه وعلاقاته مع أهل جيله. إنّها ثمرة طابع الميرون الّذي قبلناه في المعموديّة.

4. واليوم بمناسبة انعقاد سينودس أساقفة كنيستنا البطريركيّة المارونيّة، ووجود إخواننا السّادة المطارنة ملتئمين، فإنّا نبارك زيت الميرون المقدّس ونوزّعه على أبرشيّاتنا ورعايانا وكنائسنا، لأنّه يرمز إلى وحدتنا في جسد المسيح الواحد الّذي انتمينا إليه يوم "ولادتنا الثّانية من الماء والرّوح" ( يو 3: 5)، بالمعموديّة.  

المسحة بزيت الميرون المرفقة بالكلمات المناسبة لكلّ واحد من أسرار الكنيسة الّتي نتقبّلها تؤدّي فينا مفاعيله بقوّة الرّوح القدس المرموز إليه بالميرون: بسرّ المعموديّة نولد من جديد بالنّعمة ونصبح أبناء وبنات الله؛ بسرّ الميرون نصبح هياكل الرّوح القدس، وننال مواهبه السّبعة؛ بسرّ الدّرجة المقدّسة (الكهنوت والأسقفيّة) ننال من المسيح الكاهن الأسمى سلطان الكرازة بالإنجيل، وتقديس النّفوس بنعمة الأسرار، وتدبير الجماعة المؤمنة بالحقيقة والمحبّة. هذه الأسرار الأساسيّة الثّلاثة لا تُمحى ولا تتكرّر.

5. عندما كنّا نتأمّل في وجه الأسقف المثلّث الأبعاد، كنّا نفكّر بشعبنا في أبرشيّاتنا. وكم اتّضحت أمام أعين ضمائرنا وقلوبنا ومسؤوليّاتنا، أوضاعهم المتعطّشة إلى الصّلاة بالنّسبة إلى البعيدين عن الكنيسة؛ وإلى المحبّة بسبب حاجاتهم المتزايدة وجوعهم وفقرهم وبؤسهم وإهمالهم وظلمهم وحرمانهم وقهرهم؛ وإلى الرّحمة الّتي تنحني وتضمّد جراحهم الجسديّة والمعنويّة والرّوحيّة، الّتي تنبذ لغة الثّأر والكراهيّة والبغض وتنشر لغة مغفرة الإساءة والصّلاة من أجل الأعداء!

وإرتسمت أيضًا أمام أعين فكرنا وقلبنا، حالة شعبنا المسيحيّ عامّة والمارونيّ خاصّة الّذين يعانون مثل مواطنيهم المسلمين من ويلات الحرب والهجرة والحرمان والفقر في بلداننا المشرقيّة. وإذا تكلّمنا عن هجرة الشّعب المسيحيّ وبخاصّة المارونيّ بسبب الضّيقات السّياسيّة والاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة والأمنيّة، فلكي ندلّ إلى الخسارة الجسيمة الّتي تصيب بلدان هذا الشّرق. فالمسيحيّة ثقافة وحضارة وقيم أخلاقيّة وإنسانيّة، تولّد الاعتدال وقبول الآخر المختلف اختبار جمال التّعدّديّة في الوحدة. والمسيحيّة الّتي تنادي بالأخوّة الشّاملة، فلكي تؤكّد أن جميع النّاس من كلّ لون وعرق ودين هم إخوة، لأنّهم أبناء وبنات لأب واحد في السّماء. وقد جعلهم كذلك المسيح- الكلمة الإلهيّة الّذي صار بشرًا، واتّحد بكلّ إنسان، في سرّ تجسّده وموته وقيامته.

6. فيا ليت المسؤولين والسّياسيّين عندنا في لبنان يدركون قيمة هذا الوطن وفرادته الّتي نجدها في الدّستور والميثاق الوطنيّ (1943) ومبادئ اتّفاق الطّائف. إنّ المحافظة عليه، وعلى مثاليّته ورسالته في الشّرق والعالم تقتضي وعيًا وتربية وولاءً لدى جميع الفئات اللّبنانيّة، وبخاصّة الّذين يتولّون خدمة الشّأن العامّ. فما شريعة العيش المشترك سوى ممارسة هذه الأخوّة أفقيًّا، والبنوّة لأب واحد عاموديًّا.

فيجدر التّذكير بأنّ لبنان نشأ ليكونَ مثالَ الوطنِ السّيّدِ الحرِّ الحياديِّ تجاه محيطِه والعالم، ورمزَ المساواةِ والشّراكةِ بين جميعِ مواطنيه على أساسِ الدّستورِ والميثاق. لقد أردنا لبنان دولةً ديمقراطيّةً قويّةً ومنيعة بمؤسّساتِها وشعبها وجيشها وقضائها النّزيه وعلاقاتها العربيّةِ والدّوليّة السّليمة. وكادت أن تَنجحَ هذه التّجربةُ لولا تَعدّدُ الولاءاتِ والانقساماتِ الّتي أدّت إلى تدخّلاتٍ عسكريّةٍ في بلادِنا من كلِّ صَوب. وفيما نَجحت الجماعاتُ اللّبنانيّةُ، وإن متفرِّقةً، في مقاومةِ المحتلّين ودفعِهم إلى الانسحابِ بين سنوات 1982 و2000 و2005، حريٌّ بنا جميعًا أن نُحافظَ على إنجازاتِ التّحريرِ المتلاحقةِ، فلا نَتورّط مجدّدًا في مواقفَ من شأنِها أن تعيدَ لبنان ساحةً عسكريّةً لصالحِ دولٍ أجنبيّة.

8. فليكن غفران خطايانا في ختام هذه الرّياضة بداية نمط جديد في حياتنا، فنشعّ أمام شعبنا كرجال صلاة ومحبّة ورحمة. للثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، كلّ مجد وشكر وتسبيح إلى الأبد، آمين."