لبنان
15 حزيران 2020, 05:00

الرّاعي في تجديد تكريس لبنان والشّرق لقلب مريم: تحسّسوا أيّها المسؤولون وجع الشّعب!

تيلي لوميار/ نورسات
للمرّة السّابعة، جدّد البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي تكريس لبنان والشّرق الأوسط لقلب مريم الطّاهر، في الأحد الثّالث من زمن العنصرة، خلال قدّاس إلهيّ ترأّسه في بازيليك سيّدة لبنان- حريصا، عاونه فيه لفيف من المطارنة والكهنة، بحضور حشد من الفاعليّات والمؤمنين.

بعد الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظة، قال فيها: "عندما تبلَّغت مريم بشارة الملاك جبرائيل، بأنَّ منها سيولد "إبن العليّ" بقوَّة الرّوح القدس، أجابت: "أنا أمة الرّبّ، فليكن لي بحسب قولك" (لو 38:1). بهذا الجواب كرَّست نفسها بكلّيّتها للمولود منها ولتدبير الله الخلاصيّ. وواصلت هذا التّكرّس في كلّ مراحل حياتها الأرضيّة. فعلى مثالها الكنيسة، بأبنائها وبناتها ومؤسَّساتها مكرَّسة بطبيعتها، وعبر المعموديَّة والميرون، للشّهادة للمسيح ولتحقيق تصميم الله الخلاصيّ في التّاريخ البشريّ.

منذ سبع سنوات، وعملاً بتوصية سينودس الأساقفة الرّومانيّ الخاصّ بالشّرق الأوسط الّذي انعقد في شهر تشرين الثّاني 2012، كرَّسنا بتاريخ 16 حزيران 2013، لبنان وبلدان الشّرق الأوسط لقلب مريم الطّاهر وسيّدة لبنان، بمشاركة أصحاب الغبطة بطاركة الكنائس والسّادة المطارنة وسائر أعضاء مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وبحضور رئيس الجمهوريّة السّابق العماد ميشال سليمان وعقيلته اللّذين علّقا على عنق السّيّدة العذراء في تمثال "أمّ النّور" مسبحة الوردية الذّهبيّة.

هذا التّمثال حقّقه من خشب الأرز الفنّان الشّهير يوسف الحويّك، لإحياء السَّنة 1954 المريميّة الّتي أعلنَها المكرّم البابا بيوس الثّاني عشر بمناسبة يوبيل مرور مئة سنة على إعلان عقيدة الحبل بلا دنس. وتعلمون أنَّ مزار سيّدة لبنان تأسّس سنة 1904 بمناسبة اليوبيل الذّهبيّ لإعلان هذه العقيدة، بمبادرةٍ من المكرَّم البطريرك الياس الحويّك والقاصد الرّسوليّ آنذاك المطران Duval، وسُلِّمت إدارته وخدمته لجمعيَّة الآباء المرسَلين اللّبنايّين الموارنة الّذين أحيّيهم وأشكرهم. إنّ تمثال العذراء هذا زار كلَّ رعايا لبنان خلال السّنة اليوبيليَّة. فبفضل ما حمّله اللّبنانيّون من صلوات وطلبات ورغبات، وبفضل ما نزل عليهم من نِعم سماويّة، أضحى ذخيرةً مقدَّسة لكلّ اللّبنانيّين.

يسعدنا أن نكرّس معكم اليوم للمرّة الثّامنة لبنان وبلدان الشّرق الأوسط لقلب مريم الطّاهر وسيّدة لبنان. وهو تكريسٌ يأتي في حينه، لأنَّ بعضًا من بلدان الشّرق الأوسط ما زال يرزح تحت وطأة الحروب، وفتك السّلاح، والبعض الآخر يعمل بكثيرٍ من الجهد، وسط المعاكسات الدّاخليَّة والخارجيَّة، على لملمة جراحه وإعادة تكوين ذاته. أمّا لبنان فيمرّ بأقسى مرحلة، لم يعرف مثلها طوال المئة سنة من عمره. لكنّنا اختبرنا، في حقبات أخرى سابقة، وتلمَّسنا ونتلمَّس اليوم أيضًا يد السّيّدة العذراء، سيّدة لبنان، الّتي تحمي هذا الوطن. وفي الوقت عينه، تدعونا جميعًا نحن اللّبنانيّين، لنعيش حياة تستحقّ هذه الحماية الإلهيَّة.

أمّنا وسيّدتنا مريم العذراء هي مثالنا في التّكرّس، وهي مرآته. حافظت على تكرّسها بالألم، عندما هاجرت مع يوسف وطفلها الرّضيع إلى مصر هربًا من هيرودس الملك الّذي أراد قتله (راجع متّى 2: 13-15)؛ وعندما تنبّأ لها سمعان الشّيخ بأنّ "الطّفل سيكون آية للخصام، وأنّ سيفًا سيجوز قلبها، فتنجلي أفكار قلوبٍ كثيرة" (لو2: 34-35). وعندما ضاع يسوع في أورشليم ثلاثة أيام أثناء العيد، وراحت تبحث عنه مع يوسف بوجع وخوف، أعلن لهما أنّه ملتزمٌ بإرادة أبيه (راجع لو 2: 41-50)؛ وعندما وقفت على أقدام الصّليب وابنها مائت فوقه أقسى ميتة، وقبلت أمومتها الرّوحيّة ليوحنّا ومن خلاله لكلّ إنسان (يو 19: 25-27). حتّى أضحت أمّ كلّ الشّعوب في كلّ هذه الحالات كانت تجدّد تكريسها لشخص ابنها ورسالته، ولتصميم الله الخلاصيّ.

وحافظت على تكريسها عندما لم تكن تفهم أبعاد كلّ هذا السّرّ، إذ كانت تحفظ الأحداث والكلمات في قلبها وتتأمّل فيها، كما عندما جاء إلى المذود رعاةُ بيت لحم مخبرين (راجع لو 19:2)؛ وعندما سمع يوسف ومريم نبوءة سمعان الشّيخ عن الطّفل (راجع لو 33:2)، وفي ظروفٍ أخرى كثيرة لم تفهمها لكنها كانت بالنّسبة إليها تكريسًا متجلّيًا.

فيا أيُّها المسؤولون السّياسيّون والإداريّون والحزبيّون، كيف تعيشون تكريسكم لخدمة خير الشّعب وازدهار الدّولة، وجعلها دولة الحقّ والعدالة، فيما نجدها دولة المحاصصة والمحسوبيّات، ويُستباح فيها القانون والعدالة، ويُنهَب المال العامّ، وتُفرغ خزينة الدّولة، ويُفقر الشّعب، ويُرمى شبابنا وشابّاتنا في الشّوارع جائعين محرومين بطّالين، حرّاقي دواليب، وقاطعي طرق، بينما هم طلّاب ثانويّون وجامعيّون ومتخرّجون بطّالون أو مصروفون من عملهم بسبب الوضع الاقتصاديّ والصّناعيّ والسّياحيّ والتّعليميّ المتدهور!

وأنتم أيّها الّذين تتستّرون وراء المخرّبين المشوِّهين وجه الثّورة الحضاريّة المحقّة الّتي نباركها؛ كفُّوا عن دسّ متظاهرين ليليّين مشبوهين، حمّلتموهم غايات خبيثة في نفوسكم باتت مكشوفة، وكلّفتموهم الاعتداء على المؤسّسات والمحال التّجاريّة وأملاك الغير وجنى عمرهم، وتشويه وجه العاصمة لعلّكم تكفّرون الشّعب بوطنه، وتضربون الانتفاضة- الثّورة البهيّة الوطنيّة. ألا خافوا الله، وأصغوا إلى تبكيت ضميركم، إذا كان ما زال عندكم ذرة حيّة من الضّمير! وإنّا نطالب الدّولة بالتّصدّي بحزمٍ لهؤلاء المخرّبين والحدّ من شرورهم، منعًا لانزلاق الوضع الأمنيّ نحو فتنٍ لا نطيق احتمالها.

إنّ كنيستنا المارونيّة تنطلق دائمًا من ثابتتين متكاملتين على المستوى الوطنيّ: الأولى، الحفاظ على الشّرعيّة، لأنّ لا دولة من دونها؛ والثّانية، احتضان الشّعب، لأنّ لا دولة ولا شرعيّة من دون الشّعب، فهو الّذي يعطي الثّقة، وهو "مصدر كلّ السّلطات" (مقدّمة الدّستور، د).

مشكلتنا الوطنيّة اليوم في لبنان هي أنّ ثقة الشّعب بالوطن كبيرة، أمّا بالدّولة فشبه معدومة؛ وثقته بالدّيمقراطيّة كبيرة، أمّا بأداء السّياسيّين والمؤسّسات فضعيفة. هو الشّعب اليوم ينتفض عن حقّ بسبب الوجع والقلق والعوز والفقر والخوف على الحاضر والمستقبل. فتحسّسوا أيّها المسؤولون وجعه.

لقد أفقرتموه على جري السّنين وهو في الأصل ليس فقيرًا؛ وجوّعتموه وهو في الأصل شبعانًا؛ وأذلّيتموه وهو في الأصل صاحب كرامة؛ وأنزلتموه إلى الشّارع وهو لم يكن يومًا ابنَ الشّارع؛ حجزتم أمواله وهو الّذي كدّ وضحّى لادّخارها؛ وعدتموه بالإصلاح فتفاقم الفساد، وعمّ الهدر، وعادت المحاصصة من بابها العريض من دون حياء، مستهترين بوجع وصرخات المتظاهرين والمنتفضين والثّوّار منذ ستّة أشهر. أهذا هو إنجاز المسؤولين السّياسيّين الّذين تعاقبوا على السّلطة إذ جعلوا الشّعب اللّبنانيّ العظيم متسوّلَ بقاءٍ ووجود، فيما تلألأ كالمنارة في كلّ بلد وطئه شرقًا وغربًا، محقّقًا النّجاح والإبداع في مختلف الحقول؟ لن نسمح لأحد القضاء على دولة لبنان الرّاقية المحتفلة بيوبيل تأسيسها المئويّ، بل نعمل مع ذوي الإرادات الحسنة على تجديد وجه لبنان بهويّته ورسالته، نحو المئويّة الثّانية.

أن ندعم الحكم والحكومة ففقط من أجل غايةٍ واحدة، هي أن تسمع صوت الشّعب الّذي يريد دولةً فوق الجميع، تؤمّن أمنًا واحدًا، وقرارًا واحدًا، وحوكمةً رشيدة، وتعيينات منزّهة عن غايات السّياسيّين ومصالحهم، ومرتكزة على معايير قانونيّة تتماشى والمرحلة الدّقيقة الّتي نعيشها. الشّعب يريد حكومةً تُجري الإصلاحات المطالَب بها داخليًّا ودوليًّا، والّتي كان ينبغي أن تبدأ بها ضمن خطّة إصلاحيّة منذ نيلها الثّقة.

أتينا اليوم لنكرِّس وطننا وبلدان الشّرق الأوسط لسيّدة لبنان وقلب مريم الطّاهر، تلبية لطلب السّيّدة العذراء في ظهوراتها في فاطيمه في البرتغال للأطفال الرّعيان الثّلاثة في 13 تمّوز 1917، إذ قالت لهم: تجنّبًا للحروب والهلاك يريد الله إقامة التّكريم لقلبي الطّاهر في العالم" وأضافت: "تكرّسوا لقلبي الطّاهر فتخلصوا".

إنّ القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني، الّذي أنقذته سيّدة فاطيمه من محاولة اغتياله في 13 أيّار 1981، كرّس العالم كلّه لقلبها الطّاهر في 25 آذار 1984، داعيًا جميع أساقفة العالم لتكريس أبرشيّاتهم. ثم أعاد تكريس العالم في يوبيل سنة 2000.

فيا مريم، يا سيّدة لبنان، إقبلي هذا التّكريس اليوم منّا واستمدّي لنا ولوطننا لبنان ولسائر بلدان الشّرق الأوسط، نعمة الوفاء لله ولكِ، وعطيّة السّلام، وجمال الأخوّة والتّضامن بين جميع الشّعوب، فنرفع المجد والشّكر والتّسبيح للثَّالوث القدُّوس الّذي اختاركِ، الآب والابن والرّوح القدس الآن وإلى الأبد، آمين".