لبنان
27 حزيران 2022, 05:00

الرّاعي في الاحتفال باليوبيل الذّهبيّ لرابطة كاريتاس وعيد الطّوباويّ أبونا يعقوب الكبّوشيّ: نطالب بالإسراع في تشكيل حكومة وطنيّة لحاجة البلاد إليها

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي احتفال رابطة كاريتاس لبنان باليوبيل الذّهبيّ لتأسيسها، تحت شعار "خمسين ومكملين"، وعيد الطّوباويّ أبونا يعقوب حدّاد الكبّوشيّ، وذلك في بازيليك سيّدة لبنان - حريصا، وألقى عظة بعنوان "من أجل كلمتك أرمي الشّبكة" (لو 5: 5) ، جاء فيها:

1. بفعل إيمان بطرس بشخص يسوع وبكلمته، ألقى الشّبكة بعد ليلٍ مضنٍ حرم التّلاميذ من إمكانيّة صيد أيّ شيئ، وقد طلعت الشّمس والوقت غير مؤآت للصّيد، قبِل بطرس تحدّي الإيمان، وقال ليسوع: "من أجل كلمتك أرمي الشّبكة" (لو 5: 5). ولـمّا فعلوا كان الصّيد العجيب. فلنلتمس نحن هبة هذا الإيمان ليكون نورًا وهداية لحياتنا وأفعالنا ومواقفنا.

2. على هدي الإيمان وبقوّته، مشت وحقّقت المعجزات رابطة كاريتاس لبنان التي نفتتح اليوم بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة يوبيلها الذّهبيّ. وبقوّة هذا الإيمان حقّق ما تعجز عنه الدّول الطّوباويّ "أبونا يعقوب" حدّاد الكبّوشيّ الذي نحتفل بعيده، وقد أعلنه قداسة البابا بندكتوس السّادس عشر ليكون في 26 حزيران من كلّ سنة، وهو تاريخ وفاته سنة 1954. فلنلتمس شفاعته.

3. على شاطئ بحيرة جنّاشر سمع بطرس مع رفيقيه يعقوب ويوحنّا بني زبدى كلام الرّبّ يسوع الموجّه للجمع المحتشد لهذه الغاية. وكانوا أنهوا غسيل شباكهم الفارغة من أيّ سمكة. فكان التّحدّي الذي وجّهه يسوع لسمعان-بطرس بأن "يتقدّموا إلى العمق ويرموا شبكتهم للصّيد". قبل سمعان التّحدّي وفعل. "فكان الصّيد العجيب، إذ ضبطوا سمكًا كثيرًا جدًّا، وكادت شباكهم تتمزّق، وملأوا السّفينتين حتّى كادتا تغرقان" (لو 5: 5-7). هذا هو الإيمان-التّحدّي الذي لا يخضع لمنطقنا البشريّ، بل لمنطق الله.

4. كاريتاس لبنان قبلت تحدّي الإيمان منذ خمسين سنة واختبرت ثماره غير المتوقّعة، وها هي تكبر وتّتسع في برامجها وخدمتها وسع لبنان، فلنرفع معها ذبيحة الشّكر هذه، والتماس مزيدًا من الإيمان.

تأسّست كاريتاس في صيدا سنة ١٩٧٢ وحملت تسمية كاريتاس لبنان الجنوبيّ، وذلك بمبادرة من أساقفة الجنوب، وهمّة الأخ اليسوعيّ ايلي معماري الذي تعرّف إلى كاريتاس في ألمانيا.

مع ازدياد الحاجات، ولاسيّما إثر الأحداث التي تخطّت منطقة الجنوب لتشمل كلّ لبنان ابتداء من ١٩٧٥، تمدّد عمل كاريتاس إلى بيروت ثم إلى مختلف المناطق اللّبنانيّة، في محاولة لمواجهة نتيجة الحروب المحلّيّة التي راحت تتمدد كالنّار في الهشيم، وتعبث بالوطن والمجتمع، وتخلف وراءها اضرارًا كارثيّة في البشر والحجر.

إتّخذت اسم كاريتاس لبنان، وأصبحت في عِهدة مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وجهاز الكنيسة الرّعويّ-الاجتماعيّ.

على مدى نصف قرن، اتّخذت كاريتاس لبنان موقعها على خريطة العمل الاجتماعيّ في لبنان، فكانت الكنيسة الحاضرة والشّاهدة، التي حقّقت تعليم الكنيسة الاجتماعيّ في ما يختصّ باحترام كرامة الإنسان، وحقّه بحياة كريمة، حرّة. فعلت ذلك من دون أيّ تمييز، مع ودعوتها الدّائمة إلى التّضامن والتّعاون من أجل الإنسان، المخلوق على صورة الله.

تميّزت مسيرة كاريتاس بروح الشّركة والمحبّة التي طبعت أجيالها، فكانت على مستوى انتظارات الكنيسة والمواطن، وعلى مستوى الثّقة التي اكتسبتها بصدقيّتها وشفافيّتها من المانحين المحلّيّين والأجانب، ومن الحكومات، والمنظّمات الدّوليّة، الرّسميّة والأهليّة، ومن الأفراد على اختلاف إنتماءاتهم.

وهكذا راحت كاريتاس تختبر الصّيد العجيب بقوّة الإيمان والمحبّة ما جعلها تضاعف تصميمها على بذل المزيد، يحرّكها الوعي لمتطلبات كلّ مرحلة، فتتكيّف مع الحاجات، من دون أن تنسى أنّ الفقراء معها كلّ حين.

كما كانت كاريتاس في البدء هي الآن وتبقى مرآة التّنظيم وحسن الإدارة، يدبّر شؤونها رسل حقيقيّون تعاقبوا على حمل أمانتها، عاشوا و يعيشون روحها، ويشعّون بروحانيّتها من خلال برامجها، وهيكليّاتها، وأقاليمها ومختلف مراكزها، والمحسنين والمتطوّعين وشبيبتها. إنّ الكنيسة بواسطتها تبحث عن أصحاب الحاجات، وتجهد لتكون لهم الحياة وتكون أوفر.

5. والإختبار الكبير للصّيد العجيب بقوّة الإيمان بكلمة الله، عاشه الطّوباويّ "أبونا يعقوب" الذي جاب لبنان من سواحله إلى جباله يزرع الكلمة في قلوب الأطفال والشّبيبة والشّعب في المدارس والرّعايا، وعلى الأخصّ في تحضير الأطفال للمناولة الأولى التي كان يريدها بسنّ مبكّرة، ويردّد: "إزرعوا القربان في قلوب الأطفال واحصدوا قدّيسين".

عاش "أبونا يعقوب" تحدّي الإيمان عندما بدأ مشاريعه الكبيرة في خدمة المحبّة للمرضى على اختلاف أنواعهم والعناية بهم. بدأ حلمه الكبير أثناء الحرب الكونيّة الأولى وهو يرى عشرات الألوف من المسيحيّين يمويون جوعًا وشنقًا ونفيًا، من دون أن يُقام صليب على قبورهم. باشر مشروعه ببركة رئيسه وفلس الأرملة. فرفع على تلّة جلّ الديب صليبًا عاليًا مع كنيسة على إسم سيّدة البحر. وكبر المشروع ليصبح مستشفى لذوي الأمراض العقليّة والنّفسيّة والعصبيّة، وكان دير المسيح الملك لخدمة الكهنة المرضى والمسنّين. وأسّس من أجل استمرار الرّسالة والصّيد العجيب جمعيّة راهبات الصّليب اللّواتي يتفانين في خدمة مؤسّساتها بروح أبونا يعقوب، نذكر منها مستشفى دير الصّليب الذي يخدم ألف مريض مقيم، ومستشفى السّيّدة-أنطلياس للمسنّات، ومستشفى مار يوسف في الدّورة، ومستشفى دير القمر للفتيات ذوات الحاجات الخاصّة، بالإضافة إلى المدارس والمياتم والمراكز الاجتماعيّة والرّساليّة في لبنان والخارج. إنّها حقًّا معحزة الصّيد العجيب تتحقّق يومًا بعد يوم.

6. كم كنّا نتمنّى لو أنّ المسؤولين المدنيّين والسّياسيّين عندنا يتمتّعون بذرّة من الإيمان وشجاعة التّحدّي الذي يقتضيه، لَما كنّا نعيش في حالة الإنهيار الكامل سياسيًّا واقتصاديًّا وماليًّا ومعيشيًّا واجتماعيًّا.

كنّا نتمنّى لو شاركَت في تسميةِ الرّئيسِ المكلَّفِ، أيًّا يكن المسَمّى، شرائحُ نيابيّةٌ أوسَع لتُترجِمَ، بفعلٍ إيجابيٍّ ودستوريٍّ وميثاقيٍّ، الوَكالةَ التي مَنحها إيّاها الشّعبُ منذ أسابيع قليلة، لاسيّما أنَّ الاستشاراتِ هي إلزاميّةٌ. هكذا تَشُعرُ جميعُ المكوِّناتِ اللّبنانيّةِ أنّها تَتشاركُ في كلِّ الاستحقاقاتِ الدّستوريّةِ والوطنيّة. في كلّ حال نَتوجّهُ بالتّهنئةِ لدولةِ الرّئيسِ نجيب ميقاتي على إعادةِ تكليفِه. وندعو له بالتّوفيق.

7. إنّا من جديد نطالبُ بالإسراعِ في تشكيلِ حكومةٍ وطنيّةٍ لحاجةِ البلادِ إليها، ولكي يتَركّز الاهتمامُ فورًا على التّحضيرِ لانتخابِ رئيسٍ انقاذّي للجُمهوريّة. فلا تفسيرَ لأيٍّ تأخيرٍ في التّشكيلِ سوى إلهائِنا عن هذا الاستحقاقِ الدّستوريّ. لا يوجد أيُّ سببٍ وجيهٍ ووطنيٍّ يَحول دونَ تشكيلِ الحكومةِ وانتخابِ الرّئيس الجديد. وفي هذا الإطار، نُناشدُ جميعَ الأطراف بأن تتعاونَ مع الرّئيسِ المكلَّف بعيدًا عن شروطٍ لا تَليقُ بهذه المرحلةِ الدّقيقة، ولا يتَّسِعُ الوقتُ لها، ولا تُساهِمُ في تعزيزِ الوِحدةِ الوطنيّةِ وصورةِ لبنان أمامَ العالم. ونَنتظرُ من الرّئيسِ المكلَّف، بالمقابل، تشكيلَ حكومةٍ على مستوى الأحداث، تُشجِّعُ القوى الوطنيّةَ على المشاركةِ فيها، وتُعزّزُ الشّرعيّةَ والنّزعةَ السّياديّةَ والاستقلاليّةَ في البلاد وتجاه الخارج.

هذه الأشهرُ الأربعةُ الباقيةُ من عمرِ العهدِ، يجب أن تُخصَصَّ لخفضِ نِسبةِ الحِقدِ والانتقامِ والكيديّةِ والمطارداتِ القضائيّةِ البوليسيّةِ التي لم يَألفْها المجتمعُ اللّبنانيّ. ويجب أن تُخصَّصَ للتّخفيفِ من معاناةِ النّاس، لضبطِ الأوضاعِ الأمنيّة، لتحييدِ لبنان، لإحياءِ التّحقيقِ القضائيِّ في جريمةِ المرفأ. ويجب أن تُخصَّصَ لتعديلِ خُطّةِ التّعافي، لمواصلةِ المفاوضاتِ الحدوديّةِ حولَ النَفطِ والغاز، وخصوصًا لانتخابِ رئيسِ جديد للجُمهوريّةٍ في أقربِ وقتٍ ضَمانًا لوِحدةِ الكِيانِ اللّبنانيّ، ولاستمرارِ الشّرعيّةِ، واستباقًا لأيِّ محاولةٍ لإحداثِ شُغورٍ رئاسيّ. نحن نرفضه. وضروريٌّ أن يَتضمّنَ برنامجُ الحكومةِ، الجديدة التزامًا واضحًا بهذه القضايا. 

8. يكفي أن نَنظُرَ إلى حالِ الشّعبِ اللّبنانيِّ لتَستيقظَ الضّمائرُ النائمةُ لدى الّذين لديهم ضمير. يَكفي أن نَنظرَ إلى عذاباتِه اليوميّةِ ليرتفعَ المسؤولون إلى مستوى أزْمةِ لبنان، ولتَكُفَ الجماعةُ السّياسيّةُ عن العبثِ بمصيرِ الوطن والمواطنين على مذبحِ مصالِحها الفئويّةِ والشّخصيّة. إنّ السياسةَ فنّ نبيل لخدمة الخير العام لا هواية، وهي في الأساسِ اختصاصٌ ورسالةٌ مشرّفة تُحِّتم على كلِّ من يَودُّ ممارستَها أن يَتحلّى بالمسؤوليّةِ والجِدّيّةِ والنّضوجِ والخِبرةِ والإقدامِ وحسنِ التّدبيرِ والجرأةِ على إعطاء الأولويّةِ للمواقفِ الوطنيّة على ما عداها، خصوصًا في هذا الوقتِ العصيب. فكلُّ المعالجاتِ لأزَماتِنا تبقى محدودةَ الفائدةِ ما لم نَطرح القضيّةَ الوطنيّة بكل أبعادِها من دون خوفٍ أو عُقدةٍ أو حَيْرة. إذا عجز السّياسيّون، على ما يظهر، فإنّا ننادي من جديد بمؤتمر دوليّ خاصّ بلبنان لمعالجة مرضه بعد تشخيصه بجرأة وشجاعة.

9. نسأل الله أن يجعل من يوبيل رابطة كاريتاس-لبنان موسم خير وبركة متزايدين، بشفاعة أمّنا مريم العذراء سيّدة لبنان، والطّوباويّ "أبونا يعقوب" إبن وطننا. وبفيض من الإيمان بكلمة الله نرفع نشيد المجد والشّكر للثّالوث القدّوس، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."