الرّاعي في أحد بشارة مريم: شجاعة مريم العذارء نفتقدها عند أصحاب القرار السّياسيّ في لبنان
وفي هذا السّياق، قال الرّاعي: "على بشارة الملاك جبرائيل المفاجئة والصَّعبة، وفيها تصميم الله على مريم لتكون أمًّا لابنه الّذي سيأخذ جسدًا بشريًّا منها بقوَّة الرُّوح القدس، وهي المخطوبة ليوسف، ولم تنتقل بعد إلى بيته لمساكنته بحسب الشَّريعة، أجابتْ بإيمانٍ وشجاعة: "أنا أمة الرَّبّ، فليكن لي بحسب قولك" (لو 38:1). إنَّ أمَّنا وسيِّدتنا مريم العذراء، هي مثالٌ لنا في اتّخاذ القرار الشُّجاع المبنيّ على الإيمان بالله وبتصميمه الخلاصيّ للجنس البشريّ بأسره.
يُسعدُنا أن نحتفل معًا بهذهاللِّتورجيَّا الإلهيَّةالّتي نلتمس فيها نعمة الإيمان وشجاعة القرار. ويطيب لي أن أرحِّب بكم جميعًا.فأحيّي بخاصَّةٍمؤسَّسة المقدَّم المغوار الشَّهيد صبحي العاقوريالّتي أنشأَتْها زوجتُه السّيّدة ليا إحياءً لذكراه وذكرى شهداء الجيش، إنَّها حاضرةٌ مع أولادها الأربعة الّذين كانت أعمارهم تتراوح يوم استشهاد والدهم بين الخمس سنوات والسَّبعة أشهر.تُعنى هذه الجمعيَّةبأطفال لبنان وبخاصَّةٍ بأطفال شهداء الجيش وعائلاتهم، فتقوم بنشاطاتٍ لصالحهم من مثل السَّفر إلى الخارج، وتنظيم رحلات ومخيَّمات ترفيهيَّة، بالإضافة إلى إنشاء حدائق عامَّةٍ في أكثر من منطقةٍ لبنانيَّة، وتجهيز قاعات في ثكنات عسكريَّة بالتَّعاون مع قيادة الجيش اللّبنانيّ والقوى الأمنيَّة كافَّةً والقوَّات الدَّوليَّة العاملة في جنوب لبنان.
ونحيّيعائلة المرحوم جينو كلّاب، رئيس بلديَّة جبيل السَّابق، الذي ودَّعناه معهم منذ عشرين يومًا. فنحيّي زوجته وابنته وكلَّ الأنسباء. ونذكره في هذه الذَّبيحة الإلهيَّة مع المرحوم المقدَّم الشَّهيد صبحي العاقوري، راجين لهما الرَّاحة السَّعيدة في الملكوت ولأسرتيهما العزاء.
ونرحِّب أيضًابجماعة الحجَّاج الآتين من بولندا، وطن القدّيس البابا يوحنَّا بولس الثَّاني، والقدّيسة فوستينا، رسولة الرَّحمة الإلهيَّة. إنَّهم في زيارةٍ تقويَّةٍ إلى قدّيسي لبنان، ولاسيَّما القدّيس شربل، الّذي يَحظى بتكريمٍ خاصّ في كلّ بولندا. نتمنَّى لهم زيارةً مباركة وإقامةً سعيدةً في ربوعنا اللّبنانيَّة.
إنَّالبشارة لمريمبأنَّ منها يولد ابن الله إنسانًا لخلاص الجنس البشريّ، يعتبرها بولس الرَّسول"ملء الزَّمن"، إذ كتبَ إلى أهل غلاطية: "لمَّا بلغ ملء الزَّمن، أرسلَ الله ابنه مولودًا لإمرأة، في حكم الشَّريعة، ليفتدينا فننال منزلة البنين" (لو 26:1). عندما نقرأ: "في الشَّهر السَّادس أُرسِلَ الملاك جبرائيل من عند الله" (لو 26:1)، نفهم تحدّديًّا زمنيًّا مرتبطًا بالبشارة لزكريَّا قبل ستَّة أشهر. لكنَّه يعني لاهوتيًّامسيرة تاريخ الخلاص الّذي يقوده الله، عبر تاريخ البشر، الّذي الله أيضًا يسوده. إنَّ "ملء الزَّمن"في البشارة لمريم هو في آننقطةوصوللجميع الأجيال الّتي استنارت بنبوءات العهد القديم،ونقطة انطلاقفي تحقيقها.
لقد التقى تصميم الله مع مسيرة التَّاريخ البشريّ،بإرسال الملاك إلى عذراء مخطوبةٍ لرجلٍ إسمه يوسف(لو 26:1). الخطبةفي الشَّرع القديم هيعقد زواج أُبرِم شرعًا،على أن تنتقل المخطوبة إلى بيت عريسها بعد بضعة أيَّام. يوسف ومريم إذن زوجان شرعيَّان لم يتساكنا بعد. ويسوع ابن الله منذ الأزل وُلد بقوَّة الرُّوح القدس من أمٍّ عذراء في إطار زواجٍ شرعيٍّ. إنَّه بحاجةٍ إليه قانونيًّا واجتماعيًّا. فكان معروفًا أنَّه إبن يوسف ومريم من النَّاصرة.
أن يتدخَّل اللهلتحقيق تصميمه، في الفترة الفاصلة بين عقد الخطبة والانتقال إلى البيت الزَّوجيّ، فهذا يعني أنَّالله يحقّق تاريخ الخلاص عبر تاريخ البشر. فلا بدَّ للإنسان في كلّ ظروف حياته، ولاسيَّما إذا كان يحمل مسؤوليَّة ما في البيت والمجتمع أو في الكنيسة والدَّولة، أن يقرأ التَّصميم الإلهيّ في علامات الزَّمن، ويتصرَّف بوحي هذه القراءة.
بجواب "نعم" لبشارة الملاك، قدَّمَت عذراء النَّاصرة كلَّ ذاتها، عقلاً وقلبًا وإرادةً وجسدًا، لنتائج هذا الجواب. إنَّها شجاعة الأبطال المؤمنين بالله والقضيَّة العامَّة، شجاعة القرار الحرّ السيّد المستقلّ.
هذه الشَّجاعةنفتقدها عند أصحاب القرار السّياسيّ عندنا في لبنان، غير القادرين على اتّخاذ القرار الشّجاع، لصالح لبنان وشعبه، لأنَّهم ما زالوا أسرى مصالحهم ومواقفهم المتحجِّرة وارتباطاتهم الخارجيَّة وحساباتهم. لكنَّنا والحمد لله نجد هذه الشَّجاعة عند شعبنا، بكباره وشبَّانه وصباباه، في انتفاضتهم السِّلميَّة والحضاريَّة منذ سبعةً وثلاثين يومًا. هؤلاء من كلّ المناطق اللّبنانيَّة والطَّوائف والمذاهب والأحزاب، من دون أن يعرفوا بعضهم بعضًا، التقوا أخذوا قرارهم الشُّجاع والحُرّ.
فطالبوابإجراء الاستشارات النّيابيَّة وفقًا للدُّستور، وتشكيل حكومةٍ جديدةٍ بأسرع ما يمكن، توحي بالثِّقة وتُباشر الإصلاح ومكافحة الفساد وإدانة الفاسدين، واستعادة المال العامّ المسلوب إلى خزينة الدَّولة، وإيقاف الهدر والسَّرقات. حكومةٌ تبدأ بالنُّهوض الاقتصاديّ بكلّ قطاعاته، من أجل خفض العجز، وتسديد الدَّين العامّ المتفاقم، ورفع الماليَّة العامَّة. قرارهمرفض أنصاف الحلول، والوعود الكلاميَّة، لأنَّهم شبعوا منها، وقد بلغت بالدَّولة إلى حدّ الإفلاس، وبالشَّعب إلى الفقر والجوع، وبالشَّباب والأجيال الطَّالعة إلى الهجرة بحثًا عن أوطانٍ بديلة. أمَّا اليومفقرارهم هوالبقاء على أرض الوطن ووضع حدٍّ للّذين أوصلوا البلاد إلى ما هي عليه اليوم.
لقد حقَّق هؤلاء المنتفضون اليوم ما قالهالمكرَّم البطريرك الياس الحويّك، رئيس البعثة اللُّبنانيَّة إلى مؤتمر الصُّلح في فرساي سنة 1919 ومهندس قيام دولة لبنان الكبير: "لا يوجد في لبنان طوائف، بل طائفةً واحدةً إسمها الطَّائفة اللُّبنانيَّة. لبنانيُّون نحن وسنبقى لبنانيِّين متَّحدين في وطنيَّةٍ واحدة. لذلك ما يهمُّنا، في الّذي يدير شؤون وطننا، تعلُّقَه بالعدالة والرَّأفة، لا بمعتقداته الدِّينيَّة. فليبارك الله كلّ الّذين يريدون خير لبنان، إلى أيَّة طائفةٍ انتموا.
إنَّ يسوع الإله، بميلاده في عائلةٍ بشريَّةٍ،قدَّسَ العائلة، ورفعها إلى رتبة سرٍّ مقدَّس، فيكون الله حاضرًا في كلّ زواجٍ شرعيّ، ويُقدِّس الزَّوجين بنعمته ويعضدهما، ويجعل من العائلة كنيسةً بيتيَّةً مصغَّرةً تنقل الإيمان وتعلّم الصَّلاة.
إنَّنا نصلّي اليوممن أجل حماية قدسيَّة العائلة وتربية أفرادها على القيم المسيحيَّة والأخلاقيَّة والإنسانيَّة من أجل مجتمعٍ أفضل. ويبقى يرتفع منها نشيد المجد والتَّسبيح للثَّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".