لبنان
06 تشرين الأول 2025, 05:00

الرّاعي في أحد الورديّة: لبنان اليوم بأمسّ الحاجة إلى صلاة الورديّة

تيلي لوميار/ نورسات
في أحد الورديّة، رفع البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي الصّلاة خلال القدّاس الإلهيّ في الدّيمان، دعا خلاله إلى صلاة الورديّة، فهي بتعبيره "سلاح روحيّ ضدّ اليأس والانقسام. إنّها صرخة في وجه الحروب".

وفي عظته الّتي اتّخذت الآية "حيث تكون الجثّة، هناك تجتمع النّسور" (متّى 24: 28) عنوانًا، قال الرّاعي: 

"1. يستعمل ربّنا يسوع هذا التّشبيه ليبيّن أنّ عند ظهوره بالمجد، كلّ الّذين سلكوا في البرّ هم كالنّسور يحلّقون إلى السّماء. فيقال إنّ النّسور تستروح الجثّة عن بعد، من وراء البحار. بالمعنى المجازيّ نقول مع القدّيس إيرونيموس: إن كانت هذه المخلوقات غير العاقلة قادرة على اكتشاف الأجسام الصّغيرة، وتفصلها عنها مسافات شاسعة من يابسة وبحر، فكم بالحريّ ينبغي لنا نحن المؤمنين أن نعرف المسيح الّذي يأتي بهاؤه من المشرق ويسطع حتّى المغرب.

وبالمعنى المجازيّ "الجثّة" هي الجسد المائت، وترمز إلى آلام المسيح، الحمل الّذي سيق إلى الذّبح (اشعيا ٥٣: ٧). عند مجيئه الثّاني، كما في مجيئه اليوميّ في سرّ القربان، يجتمع القدّيسون كالنّسور حول مذبحه ويرتفعون بذبيحته إلى عرش الحمل المذبوح في السّماء. فالنّسور يمثّلون القدّيسين الّذين حلّقوا بفضائلهم وقداسة حياتهم إلى أعالي السّماء. نقرأ في كتاب المزامير: "القدّيسون يتجدّد شبابهم كالنّسور" (مز ۱۰۳ (۱۰۲)، ٥). فلا بدّ عند الاحتفال بالذّبيحة القربانيّة من التّخشّع مدركين حضور القدّيسين حول المذبح، فنضمّ قرابين أعمالنا الصّالحة إلى القربان الإلهيّ، ونسمو معهم إلى قمم الرّوح بالفضائل الإلهيّة والإنسانيّة.

2. هذه الصّورة الرّمزيّة القويّة، تدعونا للتّأمّل في معنى الحياة والموت والقيامة. فكما تنجذب النّسور إلى حيث الجثّة، هكذا يجتمع المؤمنون حول الصّليب، لأنّ فيه ينبوع الحياة. هو الصّليب الّذي صار بفضل القيامة باب المجد والملكوت.

واليوم إذ نحتفل بعيد سيّدة الورديّة، نفهم أنّ المسبحة هي الطّريق الّذي يقودنا دومًا إلى هذا الصّليب، وإلى المسيح القائم من بين الأموات. فالورديّة هي مدرسة التّأمّل في أسرار الفرح والألم والمجد والنّور. ونحن في شهر تشرين الأوّل المكرّس للورديّة، نتذكّر دعوة العذراء الدّائمة في ظهوراتها في لورد وفاطيما: "صلّوا المسبحة، صلّوا المسبحة، من أجل التّوبة، وعودة الخطأة، ووقف الحروب، وبسط السّلام".

3. نلتقي اليوم في هذا العيد المبارك، عيد سيّدة الورديّة، حيث نجتمع معًا في الدّيمان لنختم الصّيفيّة بالصّلاة والشّكر، ولنفتتح شهرًا جديدًا من التّأمل والصّلاة. هو يوم ترحيب ووداع في آن واحد: نرحّب بكم جميعًا، ونودّع الصّيفيّة بروح الرّجاء بلقاءات جديدة في المستقبل.

وجودكم هنا علامة محبّة وإيمان، وعيد الورديّة هو فرصة لنضع كلّ قلوبنا بين يدي العذراء مريم، أمّنا وشفيعتنا، الّتي ترافقنا في مسيرتنا الإيمانيّة والوطنيّة.

أخصّ بالتّحيّة كلّ الحاضرين من أبناء هذه البلدة العزيزة الدّيمان، وكلّ الحاضرين.

4. لنتوقّف هنا عند البابا القدّيس يوحنّا بولس الثّاني، الّذي جعل من المسبحة محور حياته وسرّ قداسته. لقد كان يرى في الورديّة مفتاح التّأمّل في سرّ المسيح. وفي رسالته “Rosarium Virginis Mariae”، دعا الكنيسة كلّها إلى تلاوة الورديّة لأنّها صلاة بسيطة وقويّة في آن واحد. لم يكتفِ بالتّمسّك بأسرارها الثّلاثة التّقليديّة، بل أضاف إليها "أسرار النّور”، ليجعلها أكثر اكتمالًا في التّأمّل بحياة المسيح.

لم تكن المسبحة بالنّسبة إليه مجرّد صلاة إضافيّة، بل قلب حياته اليوميّة. يروي المقرّبون منه أنّه لم ينم يومًا دون أن يتلو مسبحته، حتّى أنّ آخر أيّام حياته كانت مغموسة بتلاوتها. وعندما زار لبنان سنة ١٩٩٧و التقى الشّباب، كانت المسبحة في يده؛ وعندما غادرنا إلى السّماء، كانت المسبحة رفيقته الأخيرة. لذلك يمكننا القول إنّ الورديّة كانت سرّ حياته، محور قداسته، وسلاحه الرّوحيّ في مواجهة الألم والموت. وهو القائل: "مسبحة الورديّة هي مدرسة التّأمّل في المسيح مع عينيّ مريم".

5. إنَّ لبنان اليوم بأمسّ الحاجة إلى صلاة الورديّة. في زمن الأزمات والانقسامات والضّياع، نحن مدعوّون لأن نلتفت إلى مريم ونرفع المسبحة من أجل وطننا.

المسبحة الورديّة، في أبعادها الرّوحيّة والكنسيّة، هي أيضًا رسالة وطنيّة. فهي سلسلة من الحبّات الّتي يجمعها خيط واحد، كما يجمع وطننا أبناءه المختلفين والمتنوّعين. إذا انقطع الخيط، تفرط الحبّات وتتبعثر. لكن حين يبقى الخيط متينًا، تبقى الحبّات مترابطة وتكوّن عقدًا واحدًا جميلًا. هكذا هو لبنان: إذا تماسك أبناؤه بالإيمان والوحدة، يبقى وطنًا مزدانًا بالمحبّة؛ وإذا تفكّك، ضاع عقده وتلاشى جماله.

في المسبحة أيضًا نجد الخلاص. فمن يتأمّل أسرارها يعيش معنى التّضحية والرّجاء. كما أنّ أسرار الألم تسبق دائمًا أسرار المجد، هكذا لبنان: يعيش آلامًا وأزمات، لكنّه مدعوّ أن ينهض إلى مجد جديد، شرط أن يصبر ويثبت ويضع ثقته بالرّبّ.

صلاة الورديّة هي سلاحنا الرّوحيّ ضدّ اليأس والانقسام. إنّها صرخة في وجه الحروب الدّاخليّة والخارجيّة، ونداء للوحدة والسّلام. مريم سيّدة الورديّة تعلّمنا أنّ السّلام يبدأ من القلب، ثمّ من العائلة، ثمّ من الوطن، ليصل إلى العالم كلّه. لذلك نقول: بالمسبحة، هناك الأمل، وبالمسبحة، هناك الخلاص.

6. في هذا العيد المبارك، نرفع صلاتنا من أجل كلّ واحد وواحدة منكم، ومن أجل لبنان الحبيب. نطلب من العذراء أن تزرع في قلوبنا الرّجاء، وأن تحفظ وطننا من الشّرّ والانقسام.

بعد ختام هذه الذبيحة الإلهيّة، سندعوكم مباشرة لتلاوة المسبحة الورديّة معًا، كي يكون هذا العيد بداية لمسيرة صلاة طوال هذا الشّهر المبارك، فنضع وطننا وعائلاتنا بين يدي العذراء مريم، واثقين أنّها لن ترد لنا طلبًا.

لتكن المسبحة الورديّة رفيقة دربنا، وسلاحنا الرّوحيّ، وجسر عبور إلى السّماء. فنرفع المجد والتّسبيح مع مريم للثّالوث القدّوس الّذي اختارها، الآن وإلى الأبد، آمين."