لبنان
22 كانون الأول 2025, 06:55

الرّاعي في أحد النّسبة: تشويه الهويّة يؤدّي إلى ضياع الوطن

تيلي لوميار/ نورسات
في أحد النّسبة، ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي القدّاس الإلهيّ في بكركي.

وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى عظة بعنوان: "يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم" (متّى 1:1)، جاء فيها:

"1. نسب يسوع المسيح ابن إبراهيم، رجل وعود الله الّتي تحقّقت في المسيح. فإبراهيم هو أبو المؤمنين، أبو أمّة منها يخرج خلاص الجنس البشريّ. والمسيح هو رأس البشريّة الجديدة المفتداة، وهو علّة الخلاص الوحيدة للجنس البشريّ بكامله.

وهو ابن داود الملك الّذي سيولد المسيح من نسله، ويُعرف بأنّه ابن داود، ومملكته لا نهاية لها، وهي الكنيسة الّتي تكتمل في مجد السّماء.

2. تحتفل الكنيسة في هذا الأحد بنسب يسوع إلى العائلة البشريّة، مواطنًا في هذا العالم، خاضعًا للشّريعة، لكنّه مخلّص العالم. فهو مشتهى الأمم الّذي انتظرته الشّعوب وتاقت إليه. إنّه الألف والياء، وقلب التّاريخ، ومحور البشريّة. من سبقه ذاب شوقًا في انتظار مجيئه، ومن تلاه يذوب في انتظار تجلّيه.

3. يسعدني أن أرحّب بكم جميعًا إلى هذه اللّيتورجيا الإلهيّة مع تحيّة خاصّة لأولاد المرحومين صبحي ونديمة فخري، في الذّكرى الحادية عشرة لاغتيالهما أمام دارتهما في بتدعي البقاعيّة من دون سبب سوى سرقة سيّارتهما هربًا من الجيش اللّبنانيّ. القتلة معروفون. أمّا أولاد الضّحيّتين فرفضوا الأخذ بالثّأر، وتركوا القضيّة بيد القضاء اللّبنانيّ، فيما القتلة معروفون منهم بأسمائهم. نذكر المرحومين صبحي ونديمة في هذه الذّبيحة المقدّسة ونعزّي أولادهما وعائلاتهم.

وأوجّه تحيّة خاصّة لعائلة المرحومة كلوديت جوزيف صفير، أرملة المرحوم طوني يوسف غسطين من عمشيت وقد ودّعناها بالأسى والحزن الشّديد، منذ حوالي ثلاثة أسابيع، مع ابنها وابنتيها، ومع والدتها وشقيقيها وشقيقاتها وسائر أنسبائها. نذكرها في هذه الذّبيحة الإلهيّة، ونجدّد التّعزية لعائلتها.

4. بنسب يسوع يتجلّى التّدبير الإلهيّ: يسوع لا يدخل تاريخ البشر كفكرة مجرّدة، ولا كرمز روحيّ، بل كابن مسجَّل في نسب، معروف في عائلة، ومعترف به في مجتمع. شرعيّته لم تكن تفصيلًا ثانويًّا، بل جزءًا لا يتجزّأ من سرّ الخلاص. فالله يقدّس التّاريخ البشريّ، ويحوّل الضّعف إلى طريق خلاص، والخطايا إلى محطّات رجاء.

نسب يسوع يضمّ قدّيسين وخطأة، ملوكًا وضعفاء، نساء ورجالًا، نجاحات وانكسارات. وهذا بحدّ ذاته إعلان إنجيليّ: الله لا يخجل من تاريخ البشر، بل يدخله، ويحمله، ويحوّله. دخل يسوع في نسب تاريخ البشر، لكي يُدخل البشر في تاريخ الخلاص.

5.كم هو جميل أن ينتمي الإنسان إلى عائلة، إلى سلالة، إلى نسب، إلى هويّة. الانتماء ليس عبئًا، بل نعمة. واللّيتورجيا تذكّرنا بأنّ المسيح نفسه شاء أن ينتمي، أن يكون له اسم، وأب، وأم، وتاريخ. في زمن الميلاد، لا نكتشف يسوع فقط في المغارة، بل نكتشفه في جذوره، في أسمائه، في مسيرته البشريّة.

إنجيل النّسب هو إنجيل الأمانة الإلهيّة: الله يفي بوعوده عبر الأجيال، لا يتراجع، ولا ينسى، ولا يقطع السّلسلة. وما يبدو أحيانًا تأخيرًا، هو في الحقيقة نضوج للتّدبير. وهكذا تعلّمنا اللّيتورجيا أن نثق بالله العامل في الزّمن، وأن نقرأ حياتنا، بكلّ تعقيداتها، كجزء من تاريخ خلاص أكبر.

6. إنجيل نسب يسوع يمكن أن يُقرأ اليوم كبيان تاريخيّ ووطنيّ بامتياز. كما أنّ يسوع دخل التّاريخ عبر نسب واضح ومعروف، لبنان أيضًا له نسبه، له ذاكرته، له هويّته الرّوحيّة والثّقافيّة والإنسانيّة. إنكارُ النّسب يؤدّي إلى فقدان الاتجاه، وتشويهُ الهويّة يؤدّي إلى ضياع الوطن.

إنجيل النّسب يحمل رسالة سياسيّة أخلاقيّة عميقة: لا خلاص بدون شرعيّة، ولا شرعيّة بدون احترام للقانون، ولا قانون حيّ بدون عدالة ورحمة. وطن بدون مؤسّسات فاعلة، وبدون أمانة للدّستور، وبدون حماية لكرامة الإنسان، هو وطن مهدَّد في جوهره.

نسب يسوع لم يكن مثاليًّا، لكنّه كان حقيقيًّا. كذلك تاريخ لبنان: فيه نور وظلال، مجد وانكسار، نجاحات وإخفاقات. الدّعوة اليوم ليست إلى الهروب من التّاريخ أو إنكاره، بل إلى شفائه وقراءته بصدق ومسؤوليّة. يُطلب اليوم تسجيل الوطن في مسار خلاص جديد: إصلاح المؤسّسات، استعادة الثّقة بين الدّولة والمواطن، احترام الدّستور، حماية الإنسان، وصون العيش المشترك. هذه ليست شعارات، بل مسؤوليّات تاريخيّة.

كما دخل يسوع التّاريخ عبر نسبه، يمكن لبنان أن يدخل زمنًا جديدًا عبر التّمسّك بهويّته، وبقيمه الوطنيّة والإنسانيّة، وبرسالته كمساحة لقاء لا صراع. السّلام ليس حلمًا شعريًّا، بل ثمرة قرارات شجاعة تُتَّخذ اليوم، في ضوء الذّاكرة والهويّة والمسؤوليّة.

​7. فلنصلِّ اليوم إلى الله، كي يمنحنا عقلًا يميّز الحقّ من الباطل، وقلبًا أمينًا لا ينغلق، وإرادة شجاعة تطيع صوته. نصلّي من أجل وطننا لبنان، ليجد طريقه إلى سلام عادل وشامل ودائم، ومن أجل قادته، ليكونوا أمناء لمسؤوليّتهم وخدّامًا للخير العامّ. نصلّي من أجل عائلاتنا، ومن أجل كلّ متألّم أو حزين، ليجد فيك يا ربّ التّعزية والرّجاء، وليختبر حضورك الّذي يحيي ويثبّت. فنرفع لك المجد والشّكر، الآن وإلى الأبد، آمين".