لبنان
01 حزيران 2020, 05:00

الرّاعي في أحد العنصرة: الإنسان الّذي لا يصلّي لا يتردّد في أعماقه صدى صوت لبنان الحضاريّ

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاس أحد العنصرة، في كنيسة الصّرح البطريركيّ بمشاركة لفيف من المطارنة والكهنة، وألقى للمناسبة عظة قال فيها:

"وعَدَ الرَّبُّ يسوع تلاميذه يوم صعوده إلى السَّماء، بأنَّهم "سينالون قوَّةً بحلول الرُّوح القدس عليهم، فيكونون له شهودًا في أورشليم وكلِّ اليهوديَّة والسَّامرة، حتَّى أقاصي الأرض" (أعمال 8:1). وبعد صعوده، "صعدوا إلى العلِّيَّة وكانوا فيها مواظبين على الصَّلاة بنفسٍ واحدة" (أعمال14:1). فحقَّقَ الرَّبُّ وعده. وفيما كانوا معًا، حدث بغتةً دويٌّ من السَّماء كريحٍ عاصفة، ملأَ كلَّ البيت. وظهرَتْ لهم ألسِنةٌ منقسِمةٌ كأنَّها من نار، واستقرَّ على كلِّ واحدٍ منهم لسانٌ وامتلأوا كلُّهم من الرُّوح القدس، وبدأوا يتكلَّمون بألسِنةٍ أخرى، كما كان الرُّوح القدس يؤتيهم أن ينطقوا" (أعمال 2: 1-4). مثلما سمعنا من كتاب أعمال الرّسل.

يُسعِدُني وإخواني السَّادة المطارنة وسائر أعضاء الأسرة البطريركيَّة أن نحتفل بهذه اللِّيتورجيَّا الإلهيَّة ونُحيِي عيد العنصرة، بمشاركة العديدين من الّذين عبر تيلي لوميار وفيسبوك وسواهما من وسائل التَّواصل الاجتماعيّ. ونقيم في هذه اللّيتورجيَّا رتبة السُّجود للثَّالوث القدُّوس، ممجدِّين الآب، وساجدين للإبن، وشاكرين الرُّوح القدس. ثمَّ نبارك المياه علامة محبَّة الآب، ونعمة الابن الوحيد، وقوَّة الرُّوح القدس الفاعلة فينا. ونأخذ معنا هذه المياه بركةً لبيوتنا.

مع عيد العنصرة نختتم الزَّمن الفصحيَّ، ونحتفل بذكرى بداية زمن الكنيسة الّذي يدوم حتَّى نهاية العالم (راجع متّى 20:28). لذا، هو عيد البهجة والفرح لأنَّ الرَّبَّ يسوع لم يتركنا يتامى، بل أعطانا البارقليط المعزِّي، روحَ الحقِّ الّذي يقودُنا إلى الحقِّ كلِّه، ويفتح أذهاننا لنفهم كلام الله.

"حلَّ عليهمِ الرُّوح القدس فيما كانوا يصلُّون مجتمعين" (راجع أعمال 14:1؛ 4:2).

أكَّدَ القدِّيس البابا يوحنَّا بولس الثَّاني، في رسالته العامَّة "الرُّوح القدس في حياة الكنيسة والعالم" (18 أيّار 1986) أنّه "حيثما يصلِّي النَّاس في العالم كلّه، هناك الرُّوح الإلهيُّ، روح التَّقوى الحيّ؛ وأنَّه على مدى انتشار الصَّلاة على وجه الأرض، ينتشر حضور الرُّوح القدس وعملُه، ملهِمًا قلب الإنسان المصلِّي، في تقلُّبات ظروف الحياة وأحوالِها المؤاتية منها والمعاكسة" (العدد 65).

الرُّوح القدس هو العطيّة الّتي تأتي مع الصَّلاة في قلب الإنسان، وبالصَّلاة نشعر أنه يعضُدُ ضعفنا، ويُنضِج فينا الإنسان الجديد الّذي يشترك في الحياة الإلهيَّة بواسطة الصَّلاة (المرجع نفسه).

إنّ جيلَنا يفتقر إلى الصَّلاة بنوع خاصّ. فالإنسان الّذي لا يصلّي، لا يعبد الله بل ذاتَه؛ ولا يصغي إلى صوت الله بل إلى مصالحه؛ ولا يسمع حاجات النَّاس بل أنانيَّتَه ومكاسبَه غير المشروعة؛ ولا يتردّد في أعماقه صدى صوت لبنان الحضاريّ ذي الخصوصيَّة الرَّاقية، بل صدى الرُّوح الطّائفيَّة والمذهبيَّة المستوردة والبغيضة. هنا مكمن الفساد السِّياسيِّ والماليِّ والإداريِّ عندنا. وهذا ما أوصلَ بلادنا إلى الإفلاس، وإلى المأساة المعيشيَّة والاجتماعيَّة الّتي نعيشُها. وهذا ما شوَّه وجه لبنان الشَّراكة والرِّسالة والدَّولة المدنيَّة الوحيدة في الشَّرق، الّتي تفصل بين الدِّين والدَّولة، من دون أن تفصل بينها وبين الله.

فالدَّولة المدنيَّة في لبنان تحترم جميع الأديان وشرائعها وتضمنها، كما تنصُّ المادَّة التَّاسعة من الدُّستور. فلا دين للدَّولة في لبنان، ولا أيّ كتابٍ دينيٍّ مصدرٌ للتَّشريع المدنيِّ، ولا استئثار لأيِّ مكوِّنٍ مِن مكوِّناته بالسُّلطة السِّياسيَّة بكلِّ وجوهها.

أمَّا خصوصيَّة الدَّولة المدنيَّة في لبنان فهي نظامه الدِّيمقراطيّ، وحرِّيَّاته العامَّة، وميثاقه الوطنيُّ للعيش معًا، مسيحيّين ومسلمين، بالولاء الكامل والاستئثاريِّ للوطن اللُّبنانيّ، وهذا الميثاق هو روح الدُّستور، وهو مترجَمٌ في صيغة المشاركة المتساوية والمتوازنة في المؤسَّسات الدُّستوريَّة والإدارات العامَّة.

إنَّنا نرفض أن تتحوَّل عمليَّة تطوير النِّظام اللُّبنانيّ إلى ذريعةٍ للقضاء على لبنان، هذا الخيار التَّاريخيّ بخصوصيَّاته. إنَّ لبنان الدَّولة المدنيَّة والشَّراكة والرِّسالة موجودٌ منذ مئة سنة. فلا يُخترع اليوم من العدم والفراغ. كان لبنان قبل أن نكون، وسيبقى بعدنا. لبنان أمَّةٌ موجودةٌ في التَّاريخ والحاضر، وفي الجغرافيا والوجدان، وقد تأسَّست بالإرادة والنِّضال. وحدها الحقيقة التَّاريخيَّة تبقى، أمَّا الباقي فمرحليٌّ وزائل.

لذا يدعونا الواجب للدِّفاع عن هذا الكيان. لقد نذرنا أنفسنا للبنان حرًّا وللّبنانيِّين أحرارًا. معًا يعيشون، ومعًا يقاومون كلَّ احتلال وتعدٍّ بقيادة الدَّولة وشرعيَّتها وجيشها. إنَّ لبنان كقيمةٍ ثمينة لا يزال يثير اهتمام الأسرة الدَّوليَّة، وبالتَّالي ليس دولةً متروكةً ومستباحة. فلا يحقّ للجماعة السِّياسيَّة أن تتصرَّف في شؤون البلاد والمواطنين بقلَّة مسؤوليَّة، وبذات الرُّوح الّتي أوصلَت الدَّولة إلى الحضيض.

العنصرة حدثٌ متواصلٌ في حياة الكنيسة والمؤمنين. يُعطى عند سماع كلمة الله (أعمال 44:10)، وعندما تجتمع الجماعة للصَّلاة (أعمال 31:4)، كما يشهد كتاب أعمال الرُّسُل عن الجماعة المسيحيَّة الأولى.

إنَّ العلامات المسموعة والمنظورة الّتي رافقت حلول الرُّوح القدس يوم العنصرة، إنَّما تدلّ إلى فعل الرُّوح في باطن كلِّ مؤمنٍ ومؤمنة يتقبَّله. فهو كالرِّيح يبدّد القشور العتيقة في الدَّاخل، وهو كالألسُنِ النَّاريَّة يعلِّم لغة المحبَّة الجديدة، وهو يُدوِّي إذ يهزُّ الكيان الباطنيّ ويستحِثُّه على التَّغيير.

إنَّنا نلتمس في هذا العيد حلول الرُّوح القدس علينا وعلى كلِّ إنسانٍ، وبخاصَّةٍ على المُصابين بوباء الكورونا ويشفيهم، وعلى الخطأة ليُحرِّرهم من أسر خطاياهم وشرورهم، ويقودهم إلى التَّوبة، وعلى أرضنا فيبدِّد عنها جرثومة الكورونا، وعلى الكرة الأرضيَّة فيقيمها من شللها، وعلى وطننا لبنان فينتشله من حضيض أزماته الاقتصاديَّة والماليَّة والمعيشيَّة.

ومعًا نرفع نشيد المجد والتَّسبيح للآب والابن والرُّوح القدس الآن وإلى الأبد، آمين."