الراعي : رغم كل ما نشهده في لبنان يجب الا ننساق الى خلافات فخلاص وطننا منوط بمصالحة الجميع
1. اللقاء الوجداني بين زكّا، رئيس العشّارين والغني، والرّب يسوع، أدّى إلى توبة القلب لدى زكّا، وإلى تغيير جذري في مجرى حياته، فكان الخلاص له ولعائلته، كما أعلن المخلّص الإلهي: "اليوم صار الخلاص لهذا البيت" (لو 19: 9). فإنّنا نترقّب ونرجو مثل هذا اللقاء المفضي إلى خلاصنا وخلاص بيئتنا.
2. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة في كنيسة سيّدة الشّير العجائبيّة في إهمج العزيزة، في ختام زيارتنا الرّاعويّة الّتي نلبّي فيها دعوة أخينا سيادة المطران ميشال عون، راعي الأبرشيّة، والّتي شملت على التّوالي رعيّة كفربعال حيث دشنّا القاعة الرّعائيّة الجديدة فيها، إلتقينا أيضًا أبناء رعيّتي عنّايا ونبع طورزيا وأقمنا معهم زيّاح التّكريم لأمّنا وسيّدتنا مريم العذراء والتماس شفاعتها، ونحن في ثلاثيّة الإستعداد لعيد انتقالها بالنّفس والجسد إلى السّماء. ثمّ زرنا دير مار مارون عنّايا حيث التقينا رئيسه وجمهور الآباء وصلّينا على ضريح القدّيس شربل. ومنه انطلقنا لزيارة رعيّة مشمش، فصلّينا في كنيسة مار ضومط والتقينا أبناء الرّعيّة في صالتها.
فإنّنا نذكرهم جميعًا في هذه الذّبيحة الإلهيّة، ونذكر أبناء إهمج وبناتها، صغارهم وشبابهم وكبارهم، أحياءهم ومرضاهم وموتاهم. ونوكل الجميع إلى عناية أمّنا مريم العذراء، سيّدة الشّير، وسلطانة الإنتقال، راجين أن تكون ثلاثيّة الإستعداد لعيدها، مناسبة للقاء روحي عميق مع المسيح الفادي بشفاعتها، بحيث يحملنا إلى توبة القلب وينعم علينا بالخلاص الأبدي.
4. جميل أن نزور إهمج المدينة التّاريخيّة العريقة، ونحتفل معها بيوبيل الأربعماية سنة على تأسيس كنيسة سيّدة الشّير، المرتفعة على كتف شيرها العملاق، ككنيسة المسيح المبنيّة على صخرة الإيمان. في إهمج كانت تمرّ الطّريق الرّومانيّة الّتي كانت تصل مدينة بيبلوس-الكتاب (جبيل) بمدينة هيليوبولس-الشّمس (بعلبك)، وما زالت آثارها إلى اليوم.
5. لقد مرّت كنيسة سيّدة الشّير في مراحل عديدة من بناء وحرق وهدم وإعادة بناء وصمود وتواصل حتّى يومنا. فالكنيسة كانت في الأصل هيكلاً وثنيًا، حوّلها المسيحيّون إلى دير. ثمّ تركوه بسبب الإضطهادات، إلى أن عادوا إلى إهمج سنة 1613 وأعادوا ترميم الدّير، وبنوا كنيسة على أنقاضه، أنجزوها سنة 1617، وخصّصوها لتكريم سيّدة الشّير. ومرّة ثانية تعرّضوا للإضطهادات، وأحرقت الكنيسة. ولمّا رجعوا، أعادوا بناءها بالحجر المعقود، تجنّبًا للحريق. وفي مطلع القرن الماضي، وتحديدًا في سنة 1910 بدأوا بأعمال توسيع الكنيسة بحلّتها الجديدة. وظلّ أبنا البلدة يجمّلونها في الدّاخل والخارج، ولاسيّما بإيمانهم وصلواتهم وتقاليدهم الليتورجيّة، وبثقتهم الكبيرة بهذه الأم السّماويّة، صانعة العجائب. فهم إليها يلجأون، وحمايتها يلتمسون كي تشمل بنظرها الوالدي عائلاتهم وبيوتهم وأراضيهم وأهلهم المقيمين والمنتشرين، وتشفي مرضاهم، وتريح نفوس موتاهم.
بفضل هذا الإيمان المعاش، أعطت إهمج عائلات مسيحيّة ملتزمة، اختار منها المسيح كهنة ورهبانًا وراهبات. فكانوا كلّهم، ومازالوا، وجوهًا مشرقة في الكنيسة فأحيّيهم الآن هنا. ومن هذه العائلات كانت وجوه ثقافيّة وسياسيّة وإنمائيّة تفاخر بهم إهمج العزيزة.
6. "اليوم صار الخلاص لهذا البيت" (لو 19: 9). نظرتان كانتا في أساس ما جرى لزكّا العشّار من توبة وتبديل في حياته: نظرته إلى يسوع من شجرة الجمّيزة برغبة القلب وهدف معرفته؛ ونظرة يسوع إليه بمحبّة القلب الرّحوم، بهدف خلاصه. هذا اللقاء بالنّظرتين يُسمّى لقاء وجدانيًا.
نظرة زكّا المخلصة كانت كافية، مع ما رافقها من تجرّد وتواضع، ظهرا في تسلّقه الشّجرة، كما يفعل الأطفال وببساطتهم. فمن حيث لا يعلم، طبّق كلام يسوع: "إن لم تصيروا كالأطفال، لن تدخلوا ملكوت السّماوات" (متّى 18: 3). أجل كانت هذه النّظرة كافية لتوبته وخلاصه.
7. لقد اعترف بخطيئته المزدوجة: إهمال الفقراء، وارتكاب الظّلم بحقّ الناس؛ وفرض على نفسه توبة التغيير والتعويض: يعطي الفقراء نصف مقتنياته، ويردّ إلى الذين ظلمهم أربعة أضعاف. فما كان من يسوع إلّا أن منحه الغفران عن الخطايا والمصالحة مع الله بقوله: "اليوم صار الخلاص لهذا البيت... فإنّ ابن الإنسان جاء ليبحث عن الضائع ويخلّصه".
8. لقد تبيّن لنا من هذه اللوحة الإنجيليّة أنّ يسوع لم يمرّ في مكان ووسط شعب، مرورًا سطحيًّا، خارجيًّا، اجتماعيًّا. بل يمرّ حاملًا في قلبه محبّته ورحمته ليوزّعها على كلّ مَن يطلبها ويحتاج إليها. إنّه يحمل همَّ خلاص كلّ إنسان من معاناته الروحية والجسدية والمعنوية. لقد أتى مخلّصًا وطبيبًا للأجساد والنفوس والأرواح.
9. نحن مدعوّون لنبحث عن يسوع مثل زكّا العشّار، الخاطي، المغلوب لخطيئته، وكان أسيرها. ومتى تاب كلّ واحد منا عن سابق حياته الملتوية، ونال غفران الخلاص من المسيح الفادي في سرّ المصالحة، أصبح بدوره سبب توبة وخلاص لعائلته ومجتمعه ووطنه، وفقًا لحالته ومسؤوليّته. في الواقع، لقد شاء يسوع أن تكون توبة زكّا وخلاصه في بيته أمام أفراد عائلته، ليكون مثالاً لها وأداة خلاص. ولذا قال يسوع: "اليوم صار الخلاص لهذا البيت... وابن الإنسان جاء يطلب ويخلّص من كان هالكًا". (لو 19: 9-10).
10. إنّ خلاص وطننا لبنان منوط بمصالحة الجميع، ولاسيّما المسؤولين السّياسيّين مع الله والذّات، وبتغيير مسلك الفساد والاستبداد والنّفوذ الحزبي والمذهبي والسّياسي، وسلب المال العام، وإهمال النّهوض الإقتصادي والخير العام وحاجات الشّعب الحياتيّة.
إنّ توبة القلب إلى الله تبقى الأساس في الحياة الخاصّة والعامّة، ومفتاح السّلام والعيش معًا بسعادة وفرح.
فلنلتمسها نعمة من رحمة الله وجودته، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيّدة الشّير، ولنرفع معًا من قلوب صافية ومتصالحة نشيد المجد والتّسبيح للآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.