الرّاعي: حذار الاستخفاف باختيار رئيس الجمهوريّة المقبل!
"1- "في الشّهر السّادس". هذا التّحديد التّاريخي لا يرتبط فقط بالبشارة لزكريّا وبمولد يوحنّا المعمدان، بل يعني أنّ الله يواكب تاريخ البشر، ويكشف أسراره الخلاصيّة في الوقت المناسب ومع الأشخاص الّذين اختارهم لهذه الغاية.
بهذا يظهر لاهوت الزّمن الّذي تقدّمه لنا اللّيتورجيا؛ فهي تعتبره انفتاحًا دائمًا على تجلّيات الله، وانتظارًا لها في مسيرة الرّجاء. ولذا، تدعو لتقديسه، ليلًا ونهارًا، من خلال صلوات السّاعات، المعروفة بالفرض الإلهيّ، الّذي يلتزم به الكهنة والرّهبان والرّاهبات. كما تقسم السّنة الطّقسيّة إلى أزمنة مرتبطة بتاريخ الخلاص. فتفتح الكنيسة من خلالها كنوز الأفعال الخلاصيّة واستحقاقات المسيح الفادي، وتجعلها حاضرة في كلّ الأوقات وتفسح في المجال أمام المؤمنين للتّقرّب منها والامتلاء من نعمة الخلاص (دستور اللّيتورجيا المقدّسة، 102).
2. ولأنّ الزّمن مرتبط بتجلّيّات أسرار الله، تدعونا الكنيسة "لقراءة علامات الأزمنة"، وتفسيرها في ضوء الإنجيل، بالشّكل المناسب لكلّ جيل من أجيال البشر، للتّمكّن من الإجابة على الأسئلة الدّائمة حول معنى الحياة الحاضرة والمستقبلة والعلاقات المتبادلة بين النّاس.
3. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة. ويطيب لي أن أرحبّ بكم جميعًا. وبخاصّة بعائلة المرحومة أنطوانيت رزق وهبه والمرحوم الشّابّ ريان وهبة، وأولاد المرحومين صبحي ونديمة الفخري اللّذين قتلا عمدًا أمام دارتهما في بتدعي في محاولة سرقة سيّارتهما وهما بريئان. وما زالت العائلة تنتظر مجرى العدالة، بعيدًا عن أيّ روح ثأر.
إنّنا نقدّم هذه الذّبيحة المقدّسة لراحة نفوس المرحومين أنطوانيت وريان وصبحي ونديمة في الملكوت السّماويّ، ولعزاء عائلاتهم.
كما أنّنا نرحّب برعيّة القليعة العزيزة وبحضور كاهنها وجوقتها الّتي تحيي هذه اللّيتورجيا المقدّسة.
4. الزّمن مقدّس. لأنّ الله يتجلّى من خلاله ويحقّق فيه تصميمه الخلاصيّ، بالتّعاون مع كلّ إنسان. البشارة لمريم هي بشارة للكنيسة. فمريم الأمّ والبتول هي صورة الكنيسة على صعيد الإيمان والمحبّة والاتّحاد الكامل بالمسيح. الكنيسة، مثل مريم، أمّ وبتول. فكما أنّ مريم أنجبت إبن الله على الأرض بإيمانها وطاعتها وفعل الرّوح القدس، وهي أمّ وبتول، هكذا الكنيسة بالاقتداء بمحبّة مريم، وبإتمام إرادة الآب بأمانة، وبقبول الكلمة الإلهيّة أصبحت هي أيضًا أمًّا، لكونها تلد، بالكرازة والمعموديّة، لحياة جديدة وغير مائتة أبناءها وبناتها بفعل الرّوح القدس. وهم مولودون من الله لعريسها الإلهيّ، مع ثبات رجائها وإخلاص محبّتها (الدّستور العقائديّ في الكنيسة، 64).
كم يؤلمنا عندما نرى المجلس النّيابيّ يهدر الزّمن خميسًا بعد خميس، وأسبوعًا بعد أسبوع في مسرحيّة هزليّة لا يخجلون منها، وهم يستخفّون بانتخاب رئيس للبلاد في أدقّ الظّروف. إنّنا نحمّلهم مسؤوليّة خراب الدّولة وتفكيكها وإفقار شعبها.
5. تُطِلُّ علينا بعد يومين ذكرى الاستقلالِ في غيابِ الشّعورِ بها، كأنَّ اللّبنانيّين يَخجلون من أنفسِهم ويُدركون أنّهم نالوا استقلالهَم سنةَ 1943 لكنّهم لم يحافظوا عليه، وتَناوبَ عليهم من يومِها أكثرُ من احتلالٍ ووصاية. تأتي ذكرى الاستقلال هذه السّنة شاغرة وفارغة هي أيضًا من معانيها وأبعادِها. إذ ليس الاستقلال أنْ يخرج الأجنبيُّ من لبنان بل أن يدخل اللّبنانيّون إلى لبنان. والحالُ أنّنا نرى فئاتٍ لبنانيّةً تَستجدي الوصايةَ وتَتسوّلُ الاحتلال وتشحذُ التّبعيّة.
لذلك، حذارِ الاستخفافَ باختيارِ رئيسِ الجُمهوريّةِ المقبِل. نحن ننتخب رئيسًا لاستعادةِ الاستقلال. فأيُّ خيارٍ جيّدٍ يُنقذُ لبنانَ، وأيُّ خيار سيّء يُدهورُه. إنَّ قيمةَ الإنسانِ أن يُقيِّمَ المسؤوليّةَ الـمُناطةَ به، فلا يجازفُ بها ولا يساوم عليها. لذلك نناشد النّوّاب ألّا يَقعوا من جهةٍ ضحيّةَ الغِشِّ والتّضليلِ والتّسوياتِ والوعودِ الانتخابيّةِ العابرة، ومن جهةٍ أخرى فريسة السّطوة والتّهديد والوعيد. ونحن أصلًا شعبٌ لا يَخضعُ لأيِّ تهديدٍ، ورئيسُ لبنان لا يُنتخَبُ بالتّهديدِ والفَرْض.
في هذا المجال، لا يستطيعُ أيُّ مسؤولٍ أو نائبٍ ادّعاءَ تجاهلِ الواقعِ اللّبنانيِّ والحلولِ المناسِبة له. فكلُّ اللّبنانيّين، نوّابًا ومواطنين، يَعرفون سببَ مشاكلِ لبنان والقِوى والجهاتِ والعوائقَ الّتي تَحول دونَ إنقاذِه. فلا أحدَ يَضعُ رأسَه في الرِّمال. وبالتّالي لا عُذرَ لأيِّ نائبٍ بألّا يَنتخبَ الرّئيسَ المناسبَ للبنانَ في هذه الظّروف. هذا خِيارٌ تاريخيٌّ. فسوءُ الاختيارِ، في هذه الحال، يَكشِفُ عن إرادةٍ سلبيّةٍ تجاه لبنان فيُمدِّدُ المأساةَ عوضَ أن يُنهيَها، وتكون خطيئتُكم عظيمة. فلنكن أسيادَ أمّتِنا ومصيرِنا.
6. بعيدًا عن الصّفاتِ المتداولةِ بشأنِ رئيسِ تحدٍّ أو رئيسِ وفاق وما إلى ذلك من كلماتٍ فَقدت معناها اللّغَويَّ والسّياسيِّ، تحتاجُ البلادُ إلى رئيسٍ مُنقِذٍ يُعلن التزامَه الحاسمَ بمشروعِ إخراجِ لبنان من أزْمته، ويلتزم بما يلي:
1. تأليفُ حكومةِ إنقاذٍ قادرةٍ على القيامِ بالمسؤوليّاتِ الكبيرةِ المناطَةِ بها في بداية العهدِ الجديد.
2. إحياءُ العملِ بالدّستورِ اللّبنانيّ والالتزامُ به إطارًا للسّلمِ اللّبنانيِّ، ومرجِعيّةً لأيِّ قرارٍ وطنيّ، واعتبارُ اتّفاق الطّائف منطلقًا لأيٍّ تَطورٍ حقوقيٍّ من شأنِه أن يُرسِّخَ العدالةَ بين اللّبنانيّين. كما لا بدّ للمسؤولين في أيِّ موقِعٍ كانوا من احترامِ الميثاقِ الوطنيّ والأعراف لتقويةِ الوِحدةِ الوطنيّةِ، ولضمانِ حسنِ العلاقةِ بين رئاسةِ الجمهوريّة ومجلسِ النّوّابِ ومجلسِ الوزراء.
3. إعادةُ الشّراكةِ الوطنيّةِ وتعزيزُها بين مختلَفِ مكوّناتِ الأمّةِ اللّبنانيّةِ ليَستعيدَ لبنانُ ميزاته ورسالته.
4. الشّروعُ بتطبيقِ اللّامركزيّةِ الموسّعةِ على صعيدٍ مناطقيِّ في إطارِ الكيانِ اللّبنانيِّ بحيث تَتجلّى التّعدّديّةُ بأبعادِها الحضاريّةِ والإداريّةِ والإنمائيّةِ والعامّةِ، فتتكاملُ المناطقُ على أساسٍ عادلٍ.
5. البَدءُ الفوريُّ بتنفيذِ البرامج الإصلاحيّةِ السّياسيّةِ والإداريّةِ والقضائيّةِ والاقتصاديّة.
6. دعوةُ الدّول الشّقيقة والصّديقة إلى تنظيم مؤتمر لمساعدة لبنان أو إحياءِ المؤتمرات السّابقة وترجمتِها سريعًا على أرض الواقع، وتطبيق قرارات مجلس الأمن المختصّة ببسط السّلطة اللّبنانيّة الشّرعيّة على كامل أراضي البلاد، مع تثبيت حدوده مع كلّ من إسرائيل وسوريا.
7. إيجادُ حلٍّ نهائيٍّ وإنسانيّ لموضوعَي اللّاجئين الفِلسطينيّين في لبنان والنّازحين السّوريّين، لأنّهم أصبحوا على لبنان عبئًا ثقيلًا إقتصاديًّا واجتماعيًّا وأمنيًّا وديموغرافيًّا.
8 إخراجُ لبنانَ من المحاورِ الّتي أضَرّت به وغيّرت نظامَه وهُويّتَه، ومن العزلة الّتي بات يعيش فيها، والعمل على إعلان حياده.
9. أخذُ مبادرةٍ رئاسيّةٍ إلى دعوةِ الأممِ المتّحدةِ بإلحاحٍ إلى رعايةِ مؤتمرٍ خاصٍّ بلبنان، والقيامُ بجميعِ الاتّصالاتِ العربيّةِ والدُّوليّةِ لتأمين انعقادِ هذا المؤتمر، وقدّ حدّدنا نقاط بحثه أكثر من مرّة.
7. زارنا أوّل من أمس المجلس التّنفيذيّ لنقابة المعلّمين في المدارس الخاصّة وشكوا إلينا همومهم. معروف أن ّهذه النّقابة تدير شؤون حوالي خمسة وخمسين ألف معلّم ومعلّمة في القطاع الخاصّ، وأنّ القطاع التّربويّ يشكّل أحد مداميك لبنان الحديث، ويجب حمايته من الانهيار، حفاظًا على أجيالنا الطّالعة. ما يقتضي الحفاظ على قيمة المعلّم وتعزيز حضوره وإعطائه حقوقه كي يقوى على الاستمرار في أداء مسؤوليّاته في ظلّ سعر للصّرف يتخطّى الأربعين ألف ليرة لبنانيّة وبمعدّلات غير مسبوقة للتّضخّم. فلا بدّ من إنصافهم لكي يتمكّنوا من مواصلة أدائهم ورسالتهم براحة البال.
أمّا رواتب المتقاعدين، في صندوق التّقاعد، فتتراوح بين مليونين وثلاثة ملايين ليرة لبنانيّة، بالإضافة إلى أنّ بعض المصارف لا تعطيهم المبلغ كاملًا، أو تعطيهم بدلًا منه بطاقة شرائيّة. وهل يجوز هذا التّعامل مع معلّم أفنى سنوات عمره في تعليم الأجيال الطّالعة، ألا يستطيع تأمين الحدّ الأدنى من مستلزمات العيش الكريم في هذه الظّروف؟!
8. مرّة أخرى نحثّ السّادة النّوّاب لانتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، لكي تتكوّن السّلطات مع فصلها. نسأل الله أن يمسّ ضمائرهم إنقاذًا لبلادنا وشعبنا. فنرفع له الشّكر كلّ حين، الآب والإبن والرّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".