لبنان
15 تشرين الثاني 2021, 06:00

الرّاعي: تعريض اللّبنانيّين للطّرد والبطالة والفقر والعوز والعزلة العربيّة هو ما يـمسّ بالكرامة

تيلي لوميار/ نورسات
ترأس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي قدّاس الاحد، لمناسبة "يوم الفقير العالميّ" في الصّرح البطريركيّ في بكركي. وبعد الإنجيل المقدّس، ألقى الرّاعي عظة بعنوان: "وتدعو إسمه يوحنّا"، قال فيها:

"1. تحتفل الكنيسة في هذا الأحد بعيدين: الأوّل ليتورجيّ وهو تذكار البشارة لزكريّا، بأنّ الله استجاب صلاته، وأنّه سينعم عليه بولد، فيما هو متقدّم في السّنّ، وامرأته اليصابات عاقر، ويأمره بأن "يسميه يوحنا" (لو 1: 6-7و 13)، لكونه يكشف رحمة الله. والعيد الثّاني كنسيّ، وهو الاحتفال باليوم العالميّ الخامس للفقراء. ووجّه قداسة البابا فرنسيس لهذه المناسبة رسالة موضوعها كلمة الرّبّ يسوع: "الفقراء سيكونون معكم في كلّ حين" (مر 14: 7).
تحيي هذا الاحتفال بالعيد الثّاني رابطة كاريتاس لبنان، وتدعو إليه عددًا من العائلات الأكثر عوزًا، وتدعوها الرّابطة "عائلة كاريتاس". فيطيب لي أن أحيي رئيسها عزيزنا الأب ميشال عبود الكرمليّ ومجلس الإدارة وسائر معاونيه في كاريتاس المركزيّة والأقاليم السّتة والثّلاثين والمراكز المنتشرة على كامل الأراضي اللّبنانيّة، وشبيبتها المتطوّعة الألف ومئتين. بهذه المبادرة تحتفل كاريتاس-لبنان "باليوم العالميّ للفقراء" بالصّلاة والتّفكير والأفعال. إنّ خدمة المحبّة للإخوّة في العوز تقوم بها كاريتاس لبنان يوميًّا ببرامجها المتنوّعة: الاجتماعيّة والصّحّيّة والتّربويّة والإنمائيّة والتّربويّة والعائليّة والشّبيبة والعمّال الأجانب، والمساعدات الماليّة والعينيّة والاستشفائيّة، مع متفرّعاتها. وقد رأينا أمس مضامينها مفصّلة في الجمعيّة العموميّة للرّابطة. ومعلوم أنّ كاريتاس هي الجهاز الرّسميّ للكنيسة في خدمة المحبّة الاجتماعيّة في لبنان.
2. هبة يوحنّا من الله لزكريّا وأليصابات هي ثمرة أمانتهما لله وصلواتهما. كان كلاهما متقدّمين في السّنّ، ولم يرزقا ببنين، استحقّا هذا الامتياز الإلهيّ: بأن يولد لهما ولد، ويسمّيانه يوحنّا للدّلالة أنّ الله رحوم، بل غني بالرّحمة، وقد تجلّت رحمته لهما، وستشمل البشريّة جمعاء، كما تدلّ اللّفظة بالعبريّة يهو حنان. استحقّا هذا الامتياز لأنّهما كانا بارين أمام الله، وسالكَين في جميع وصاياه وأحكامه بلا لو" (لو1: 6)؛ ولأنّ يوحنّا، كما يقول عنه الرّبّ يسوع هو:أعظم من نبيّ" (لو 7: 26)، وقد ختم معه الرّوح القدس التّكلّم بواسطة أنبياء. فنار الرّوح القدس ساكنة فيه، وتسير به، كسابق للرّبّ الآتي، مهيّئًا طريقه وشعبه (لو 1: 15-17)؛ ولأنّه صوت المعزّي الآتي" (يو 1: 23)، والشّاهد للنّور الحقيقيّ الآتي إلى العالم الذي سينير كلّ إنسان (يو 1: 8-9). 
إنّه حقًّا الفجر الذي يعلن مجيء الشّمس، يسوع المسيح مخلّص العالم وفادي الإنسان.
3. الصّلاة مفتاح عطايا الله، وهي تمتاز بثلاثة: 
أ. الصّلاة ممكنة ودائمة، في الكنيسة، في البيت، في العمل، في الطّريق، في الانتظار. ما يعني أنّ الزّمن بنظر المسيحيّ هو زمن المسيح القائم من الموت، والذي "هو معنا طول الأيّام" (متّى 28: 20)، مهما كانت العواصف، لأنّه قادر على تهدئتها (راجع لو 8: 24). زمننا هو في يد الله.
ب. الصّلاة ضرورة حياتيّة، لأنّها تضعنا تحت هداية الرّوح القدس، الذي لا يستطيع أن يكون في حياتنا، إذا كان قلبنا بعيدًا عنه. يؤكّد القديس يوحنّا فم الذّهب: "لا شيء أهمّ من الصّلاة. فإنّها تجعل ممكنًا ما هو غير ممكن، وسهلًا ما هو صعب. الشّخص الذي يصلّي لا يعيش في حالة الخطيئة.
ج. الصّلاة لا تنفصل عن الحياة المسيحيّة لأنّ الإثنتين تنبعان من المحبّة نفسها، ومن التّجرّد نفسه الذي يجري من المحبّة كمن ينبوع. هذا الرّباط بيّنه الرّب يسوع بقوله: "يعطيكم الآب كلّ نطلبونه باسمي. (يو 15: 16)".
4. يقول قداسة البابا في رسالته ليوم الفقراء، انطلاقًا من كلمة الرّبّ يسوع: "الفقراء سيكونون معكم في كلّ حين" (مر 14: 7): " إنّها دعوة إلى عدم إغفال الفرصة المتاحة لفعل الخير، أبدًا. وكلمة الرّبّ تعود بنا إلى الكلام الإلهيّ في الكتاب المقدّس: "إِذا كانَ عِندَكَ فَقيرٌ مِن إِخوَتِكَ [...]، فلا تُقَسِّ قَلبَكَ ولا تَقْبِضْ يَدَكَ عنه، بلِ ٱفتَحْ لَه يَدَكَ وأَقرِضْه مِقْدارَ ما يَحْتاجُ إِلَيه. [...] أَعطِهِ، غير مُكْرهًا، وبِذٰلك يُبارِكُكَ الرَّبُّ إِلٰهُكَ في كُلِّ أَعْمالِكَ وفي كُلِّ مَشارِيعِك. إِنَّ الأَرضَ لا تَخْلو مِن فَقير" (تثنية الاشتراع 15، 7-8. 10-11). وأكّد القدّيس بولس الرّسول أنّ اللهَ يُحِبُّ مَن يعطي مُتَهَلِّلاً" (2 قورنتس 9، 7). إنّها ليست مسألة إراحة ضميرنا بإعطاء بعض الصّدقات، بل يجب معارضة ثقافة اللّامبالاة والظّلم الذي به نعامل الفقراء.

ويقول القدّيس يوحنّا فم الذّهب: "من كان كريمًا يجب ألّا يطلب بيانًا بشأن حياة الشّخص المحتاج، ولكن عليه فقط أن يعالج فقره ويلبّي احتياجاته. كلّ إنسان فقير يطلب شيئًا واحدًا هو تلبية حاجته ووضعه المعوز. الذي يعطي صدقة هو ميناء للمحتاجين: والميناء يستقبل كلّ الذين تحطّمت سفينتهم، ويحرّرهم من الخطر، سواء كانوا أشرارًا أو صالحين، أيًّا كان وضع الذين في خطر، ويقدّم لهم الملجأ والحماية. كذلك أنت، عندما ترى على الأرض ذلك الشّخص الذي تحطّمت سفينته بالفقر، لا تحكم عليه، ولا تطلب معرفة قصّة حياته، بل حرّره من محنته" (سلسلة عظات عن مثل الغنيّ ولعازر، العظة الثّاني، فقرة 5).

5.خدمة الفقراء هي رسالة الكنيسة باكليروسها وشعبها. فرسالتها تقوم على خدمات ثلاث مترابطة ومتكاملة:

أ. خدمة الكلمة (kerygma) بالكرازة والتّعليم، التي تولّد الإيمان وتنيره.

ب. خدمة النّعمة للتّقديس بتوزيع الأسرار (liturgia) التي تقدّس المؤمن.

ج. خدمة المحبّة الاجتماعيّة للفقراء (diakonia) التي تنشلهم من بؤسهم.

6. من المؤسف حقًّا أنّ بعض المسؤولين السّياسيّين والمتعاطين العمل السّياسيّ، بدلًا من محاربة الفقر بشتّى الطّرق السّياسيّة والاشتراعيّة والإجرائيّة، فإنّهم يمتهنون إفقار المواطنين بأكبر عدد وأكثر حرمان وبطالة، والأرقام هي أنطق دليل. وفوق ذلك يتلكّؤون عن معالجة الأزمة الحادّةِ النّاشبةِ مع دولِ الخليج. إنَّ استنزافَ الوقتِ يُدخلنا في أزمةِ استنزافٍ اقتصاديّةٍ ومعيشيّةٍ تُصَعِّبُ الحلَّ، ما يُضِرُّ بمصالحَ مئاتِ ألوفِ اللّبنانيّين ومصالحِ التّجّار والصّناعيّين والمزارعين وقطاعات لبنانيّة أخرى.

إنَّ حلَّ هذه الأزمة بشجاعةٍ وطنيّةٍ، لا يَـمَسُّ كرامةَ لبنان، بل إنَّ تعريضَ اللّبنانيّين للطّردِ والبطالةِ والفَقرِ والعوزِ والعزلةِ العربيّةِ هو ما يَـمَسُّ بالكرامةِ والسّيادةِ والعنفوان. إنَّ تحليقَ سعرِ الدّولار إلى حدٍّ يَعجِزُ فيه المواطنون من شِراءِ الحاجيّاتِ الأساسيّة، لاسيّما عشيةَ الأعياد المقبلة، هو ما يَـمَسُّ بالكرامة ويُذِلُّ النّاس. الكرامةُ ليست مرتبطةً بالعِناد إنّما بالحكمة، وبطيب العلاقات مع كلّ الدّولِ وبخاصّة مع دول الخليجِ الشّقيقة، ذلك أنَّ دورَها تجاه لبنان كان إيجابيًّا وموَحِّدًا وسلميًّا، لا سلبيًّا وتقسيميًّا وعسكريًّا.

لا يحقّ لأيِّ طرفٍ أنْ يَفرِضَ إرادتَه على سائرِ اللّبنانيّين ويَضرِبَ علاقاتِ لبنان مع العالمِ، ويُعطِّلَ عملَ الحكومةِ، ويَشُلَّ دورَ القضاء، ويَخلقَ أجواءَ تهديدٍ ووعيدٍ في المجتمعِ اللّبنانيّ. ولا يحقّ بالمقابل للمسؤولين، كلِّ المسؤولين، أنْ يَتفرّجوا على كلّ ذلك، ويَرْجوا موافقةَ هذا الفريق وذاك. هذا هو فقدانُ الكرامةِ وهذا هو الذُلُّ بعينِه.

7. ثمّ أيّ منطق يَسمحُ بتجميدِ عملِ الحكومةِ والإصلاحاتِ والمفاوضاتِ الدّوليّة في هذه الظّروف؟ كلُّ ما يجري اليومَ يتعارضُ تمامًا مع النّظامِ اللّبنانيِّ بوجهه الدّستوريِّ والميثاقيّ والدّيمقراطيّ.

إنّ الغالِبيةَ الساحقةَ من الشّعبِ اللّبنانيّ تريدُ الخروجَ من أجواءِ الحربِ والفتنةِ والصّراعِ، والدّخول في عالم السّلامِ الشّاملِ والدّائم والتّلاقي الحضاريّ. ما لنا بحروبِ الـمِنطقة وبمحاورِها؟ ما لنا بصراعاتِها وبلعبةِ أنظمتِها؟ ما شأنُنا لنقرّرَ مصيرَ الشّعوبِ الأخرى فيما نحن عاجزون عن تقريرِ مصيرِنا، بل عن اتّخاذِ قرارٍ إداريّ؟

إذا كان البعضُ يعتبرُ الحِيادَ حلًّا صعبًا، فإنّا نرى فيه الحلَّ الوحيدَ لإنقاذِ لبنان. لقد بات متعذِّرًا إنقاذُ الشّراكةِ الوطنيّةِ من دونِ الحياد. وكلّما تأخّرنا في اعتمادِ هذا النّظام كلّما تَضرّرت هذه الشّراكةُ ودخلَ لبنانُ في متاهاتٍ دستوريّةٍ لا يستطيعُ أيُّ طرفٍ أن يُحدِّدَ مداها.

8. نصلّي إلى الله لكي يجعلنا ندرك قيمة الصّلاة وثمارها، كما يكشف لنا مثال زكريّا واليصابات، وندرك أنّ الله يتمّم تصميمه لخلاص البشر بالتّعاون مع كلّ إنسان، سائلينه أن يكشف دور كلّ واحد وواحدة منّا من خلال الحالة التي هو فيها. فتصبح حياتنا صلاة تسبيح وشكر وتمجيد لله، الآب والإبن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين."