لبنان
31 تموز 2016, 08:10

الراعي: بهذا الايمان والرجاء والمحبة، صمد شعبنا في لبنان على ممرّ العصور

ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشاره بطرس الراعي الذبيحة الإلهية من الصّرح البطريركي، المقر الصيفيّ - الديمان، يوم الاحد 31 تموز 2016. وبعد الإنجيل، تلى البطريرك عظة بعنوان : " أيّتُها المرأة، عظيمٌ إيمانُكِ! فليكنْ لكِ ما تريدين" (متى 15:28) جاء فيها:

 

1. امتدح يسوع إيمان المرأة الكنعانية الوثنية غير اليهودية، لأنّه تميّز بالوعي والثبات والمحبة، ولأنّه تجاوز الامتحان المثلَّث الذي امتحنها به الربّ يسوع، كما ظهر تدريجيًّا في نصّ الإنجيل، وهو: عدم الاكتراث لها من قِبل الربّ، ونوع من التمييز العنصري، وإهانة مباشرة. ولهذا امتدحها ولبّى طلبها: "أيّتُها المرأة، عظيمٌ إيمانُك! فليكن لكِ ما تريدين. وللحال شفيت ابنتها" (متى 15: 28).

2. يسعدنا أن نحتفل معكم بهذه الليتورجيا الإلهيّة، وهو أوّل قداس نحتفل به في كنيسة الكرسي البطريركي الصيفي في الديمان. وبحسب العادة يشارك فيه أبناء بلدة الديمان العزيزة المقيمين والمنتشرين. إنّي أحيّيهم جميعًا، وبخاصّة الديمانيّين الآتين من بلدان الانتشار، ولاسيّما من أوستراليا وكندا وأميركا وسواها. وقد أتوا لتمضية بعض الأسابيع مع الأهل والأقارب. ومنهم مَن جاء وغادر. إنني أقدّر تضامنهم الذي ظهر بنوع خاص في بناء الكنيسة الرعائية الجديدة، وهي على اسم البطريرك الأوّل أبينا القديس يوحنا مارون شفيع الرعية. بفضل هذا التضامن وسخاء الأسخياء تمكّنوا من مباشرة هذا المشروع المقدّس الذي بلغ مرحلة متقدّمة. نرجو أن يواصلوا جهودهم ونشاطاتهم المتنوّعة للمضي قدمًا في إنجازه، كمفخرة لهم ولأولادهم، وكمدخل لفيض الخير السماوي. كما نقدّر تضامنهم في كلّ ما يؤول لخير البلدة وأبنائها بالتعاون مع هذا الكرسي البطريركي.

 كما إنني أحيّي وأرحِّب بالمشاركين الآخرين، الذين توافدوا من مناطق مختلفة. وأخصّ بالتحيّة أنسبائي الآتين من حملايا وكندا، وقد حضروا خصّيصًا للاحتفال بالمناولة الأولى لنسيبي الطفل جان بول بيار الراعي. إنّه يصبح اليوم بيت قربان طاهر ونقيّ يحمل جسد الربّ ودمه الممتزج بحياته ويغذّيها بالحياة الإلهيّة.

3. وأحيي فيما بيننا وفد التعاونية الزراعية – العاقورة، ومعه نرفع الصوت مطالبين الجهات الرسمية المعنية ولاسيما رئاسة الحكومة ووزارة الزراعة والهيئة العليا للاغاثة، بالتعويض على المزارعين في منطقة العاقورة – تنورين، عن الخسائر التي اصابتهم جرّاء العواصف الطبيعية التي ضربت هذا العام موسم التفاح عندهم المقدر بنصف مليون صندوق وهو مصدر رزقهم الاساسي الذي من اجله يتحملون الكثير من النفقات والتضحيات.

4. إنّني أقدّم هذه الذبيحة المقدّسة على نيّة جميع المشاركين. فنذكر مرضاكم راجين لهم الشفاء وتقديس ذواتهم بضمّ آلامهم إلى آلام الفادي الإلهي. كما نذكر بالصلاة موتاكم ملتمسين لهم الراحة الأبدية في السماء، والعزاء للمحزونين على فقدهم.

5. ونصلّي معًا لكي ينبر المسيح بأنوار روحه القدّوس عقول الكتل السياسية والنيابية وضمائرهم، بنور الحقيقة الشجاعة والمنزَّهة عن المصالح الشخصية والفئوية المضرّة بالخير العام. نصلّي من أجلهم لكي يقوموا بمبادرات تسوية تشرّف الكرامة الوطنية، وتؤدّي إلى انتخاب رئيس للجمهورية في أقرب وقت ممكن. فالبلاد من دون رئيس هي على طريق الانهيار الذي سيشلّ أكثر فأكثر المجلس النيابي أكثر ممّا هو، ومجلس الوزراء ومؤسّسات الدولة، وسيفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية والمعيشية، بالإضافة إلى تفشّي الفساد العارم والرشوة في الإدارات العامّة وسرقة المال العام وهدره. إنّنا نحمّل المسؤوليّة جميع الذين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة يعطّلون انتخاب رئيس للبلاد.

6. تحتفل كنيستنا المارونية اليوم بعيد الشهداء الثلاثماية والخمسين رهبان مار مارون الذين قُتلوا سنة 517 لأنهم قبلوا العقيدة الإيمانية التي أعلنها المجمع المسكوني الرابع المنعقد سنة 451 في خلقيدونيه في عهد البابا القديس لاون الكبير. قوام العقيدة الإيمانية هو أنّ في المسيح طبيعتَين كاملتَين، إلهيّة وإنسانيّة، مميّزتَين غير منفصلتَين.

لقد استشهدوا حفاظًا على عقيدة المجمع. فكانت دماؤهم زرعًا خصبًا، وُلدت منه الكنيسة البطريركيّة المارونيّة وانتشرت بأبنائها ومؤسّساتها في بلدان الشّرق الاوسط، وفي بلدان الانتشار، وكبرت مؤسّساتها التربوية والاستشفائية والاجتماعية والانسانية. لقد صمدوا في إيمانهم ولم يخافوا الموت.

7. "أيّتُها المرأة عظيمٌ إيمانكِ! (متى 15: 28). كان إيمان تلك المرأة الكنعانية الوثنية بيسوع إيمانًا واعيًا. فأدركت أنّ يسوع هو ابن داود أي المسيح المنتظر، حامل الرحمة الإلهية للبشر. ولذا صرخت إليه: "إرحمْني يا ابن داود: إبنتي يعذّبها شيطان يضنيها" (متى 15: 22). وقع صراخ الكنعانية في قلب يسوع بسبب نوعيّته: امرأة وثنيّة تعرفه على حقيقته بفضل قبول عطيّة الإيمان من الله. فأراد، وهو العليم بما في قلب الإنسان، أن يمتحن إيمانها، ويعلنه للجمع المرافق.

8. فكان الامتحان التدريجي الذي نستهجنه نحن. بدأ بعدم الاكتراث لصرخة المرأة، وكان يسوع يصمّ أذنيه، ولا يشعر بأي إحساس بوجعها، على أنّه سمعها تمامًا، حتى أن التلاميذ انزعجوا من صراخها فطلبوا إليه أن يصرفها.

ثمّ كان الامتحان الثاني بنوع من التمييز العنصري، إذ قال أنّ رحمته تختصّ فقط ببني إسرائيل أي شعبه دون سواه. وكأنّ للحاجة والألم دينًا ولونًا ومذهبًا. وهذا أمر معيب. عندما كان الطوباوي أبونا يعقوب يوصي راهباته، راهبات الصليب، الاعتناء بكلّ مريض وذي حاجة، أيًا يكن دينه ومذهبه وجنسيّته، كان يقول: "الينبوع لا يسأل العطشان عن دينه ولونه وعرقه".

ولمّا تجرأت المرأة بإيمانها الكبير وثقتها بيسوع، فأتت وسجدت له قائلة: "ساعدني يا رب"، كان الامتحان الثالثالأصعب والمسيء لكرامتها، إذ أجاب: "لا يحسن أن يؤخذ خبز البنين، ويُلقى إلى جراء الكلاب" (الآية 26). لكن المرأة تجاوزت الإساءة وأظهرت تواضعًا عميقًا وصمودًا كبيرًا في إيمانها، واحترامًا ساميًا ليسوع، وأجابت: "نعم يا سيّدي، وجراء الكلاب تأكل من الفتات المتساقط عن مائدة أربابها" (الآية 27).

9. عندئذٍ أُعجب يسوع بإيمانها وامتدحه أمام الجمع كلّه. وأراده مثالًا لكلّ إنسان. وللحال شفيت ابنتها. لقد بيّن بذلك أنّ قيمة الإيمان في صموده بوجه التجربة والمصاعب والاضطهاد والاعتداء. هذا الإيمان الصامد يصبح رجاء،والرجاء بالله ونعمته ومعونته يصبح محبة، على ما قال القديس أغسطينوس: "مَن يؤمن يرجو، ومن يرجو يحبّ".

10. بهذا الايمان والرجاء والمحبة، صمد شعبنا في لبنان على ممرّ العصور، بالرغم من قرون الظلم في عهد العباسيّين والمماليك والعثمانيّين الأتراك. في هذا الوادي المقدّس اعتصم نسّاك ورهبان وشعب يصلّون ويستخرجون من الأرض قوتهم الوضيع. وفيه عاش معهم البطاركة على مدى اربعماية سنة، حفاظًا على الأغليَين: الإيمان الكاثوليكي، والاستقلالية الذاتية. لقد قمنا بالأمس بزيارة الحبساء الثلاثة، أبناء الرهبانية اللبنانية الجليلة، الذين يعطّرون الوادي المقدّس بصلواتهم وتقشّفاتهم، وطلبنا صلاتهم من أجل لبنان والمنطقة المشرقية. وهم الأب يوحنا خوند في دير مار انطونيوس – قزحيا، والأب انطوان رزق في محبسة مار بولا، والأب الكولومبي داريو اسكوبار في محبسة سيدة حوقا.

11. إنّنا ندعو شعبنا ولاسيّما أبناء كنائسنا المشرقيّة في سوريا والعراق والأراضي المقدّسة، الاعتصام بهذا الإيمان والرجاء والمحبة، حفاظًا على وجودهم الشاهد لإنجيل محبة المسيح، بوجه الحروب وانتهاك قدسية الحياة وكرامة الشخص البشري، قتلًا وتنكيلًا وتهجيرًا وظلمًا.

وإننا نواصل رفع النداء إلى الأسرة الدولية والدول المعنيّة بالحروب وبدعم المنظّمات الإرهابية في منطقتنا العمل الجدّي على إيقافها، وإيجاد الحلول السياسية للنزاعات، وإحلال سلام عادل وشامل ودائم، وإعادة جميع النازحين واللاجئين والمهجَّرين والمخطوفين إلى أوطانهم وبيوتهم وممتلكاتهم.

ومن أجل هذه النية نصلّي، ملتمسين من الله الاستغفار على كلّ الشرور المتمادية في العالم، ورافعين نشيد المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.