لبنان
18 كانون الثاني 2021, 06:00

الرّاعي: الوقت لا يرحم وحالة البلاد والشّعب المأساويّة لا تبرّر على الإطلاق أيّ تأخير

تيلي لوميار/ نورسات
جدّد البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي دعوته إلى "تشكيل حكومة إنقاذ مؤلّفة من نخب لبنانيّة، شخصيّات نَجحت وتفوّقت في لبنان والعالم، وتَتوق إلى خدمة الوطن بكلّ تجرّد، وتحمّل مسؤوليّة الإنقاذ وترشيد الحوكمة"، وذلك خلال قدّاس الأحد الّذي ترأّسه في بكركي، ملقيًا عظته تحت عنوان: "يا معلّم، أين تقيم؟ - تعاليا وانظرا" (يو 1: 38-39)، فقال:

"1. عندما سمع تلميذا يوحنّا، شهادته عن يسوع غداة اعتماده، بوحي من الرّوح القدس، أنّه "حمل الله الّذي يحمل خطيئة العالم"، تبعا يسوع. ولمّا رآهما، أدرك ما في قلبيهما من شوق لمعرفته، فسألهما: "ماذا تريدان؟". وكان جوابهما النّابع من هذا الشّوق:"يا معلّم، أين تقيم؟" فأجابهما: "تعاليا وانظرا" (يو 1: 38-39).

نصلّي كي يولد في قلوبنا هذا التّوق لمعرفة يسوع، وللتّتلمذ له. مدرسته هي أوّلاً وأساسًا شخصه، ثمّ تعليمه. فإذا عرفناه شخصيًّا أحببناه، وأحببنا تعليمه وتشوّقنا لمعرفته، كما يعلّمنا إيّاه في الإنجيل وتُعلّمه الكنيسة.

2. يسعدنا أن نحتفل بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، وأن نحيّي كلّ الّذين يشاركوننا فيها روحيًّا عبر محطّات التّواصل: تيلي لوميار- نورسات و Charity TVوالفيسبوك وسواها، بسبب حالة الطّوارىء الصّحّيّة المفروضة من جرّاء جائحة كورونا. فنصلّي معًا من أجل شفاء المصابين بهذا الوباء وإبادته، والرّاحة الأبديّة لضحاياه وعزاء عائلاتهم. وإذ تحتفل الكنيسة بعيد القدّيس أنطونيوس الكبير، أبي الرّهبان نوجّه التّهنئة لراهبانيّاتنا المارونيّة بالعيد وبتجديد النّذور الرّهبانيّة، سائلين لها دوام التّقدّم والازدهار مع تقديس أعضائها.

3. الرّحلة مع الرّبّ يسوع تبدأ من السّماع عنه، كما جرى مع تلميذي يوحنّا المعمدان لمّا شهد على مسمعهما أنّ يسوع هو "حمل الله". فتبعاه، وكان الحوار وكان الاكتشاف. لقد دخلا في صميم العلاقة معه حتّى عرفاه بكامل حقيقته. إكتشفا أنّه المسيح المنتظر، كما أعلن أندراوس، أحد التّلميذين، لأخيه سمعان. ولمّا أتى هذا بشوق إلى يسوع، قرأ الرّبّ ما في قلبه من حبّ وتوق لمعرفته، فبادره بالقول: "أنت سمعان بن يونا، ستدعى الصّخرة أيّ بطرس" (يو 1: 42). وهكذا جرى للقدّيس أنطونيوس، فهو ذات يوم سمع كلام الإنجيل: "من أراد أن بكون كاملاً فليترك كلّ شيء ويتبعني". سقطت الكلمة في قلبه وغيّرت مجرى حياته وصار أبَ الرّهبان جميعًا.

وإذا أكملنا قراءة نصّ الإنجيل، نرى أنّ يسوع دعا فيليبّس لاتّباعه، فدخل هذا في مدرسة يسوع الّتي هي شخصه، به نؤمن، وإيّاه نحبّ. ثم نصغي لتعليمه نورًا وهداية.

وفيليبّس بدوره التقى نثنائيل، فنقل إليه الخبر السّارّ: "يا نثنائيل، إنّ الّذي كتب عنه موسى والأنبياء قد وجدناه، وهو يسوع ابن يوسف الّذي من النّاصرة" (يو 1: 45).

4. من هذه الاختبارات يتّضح لنا أنّنا إذا قبلنا الكلمة الّتي نسمعها عن حقيقة يسوع المسيح، أيًّا يكن مصدرها، وحفظناها في قلوبنا "كحبّة قمح تُزرع في الأرض" (لو 8:8) أو "كخميرة تُطمر في العجين" (متّى 33:13)، أدخلتنا في شركة حياة وصداقة معه، وفي مسيرة حياتيّة تتجدّد وتنمو من خلال اكتشاف وجهه يومًا بعد يوم.

إنّ الّذين التقوا يسوع، بشوق قلب، وهم: أندراوس ويوحنّا التّلميذ الآخر، وسمعان بطرس، وفيليبّس ونثنائيل، تبدّلت حياتهم وأصبحوا من الرُّسل الإثني عشر، أعمدة الكنيسة. وهذه دعوة ورسالة لم تكونا من ضمن مشاريعهم البشريّة، ولا من ضمن أحلامهم.

أجل، عن نفسه يتكلمّ الرّبّ يسوع عندما يقول: "يشبه ملكوت السّماوات" كنزًا مخفيًّا في حقل وجده رجل ومن فرحه مضى وباع كلّ شيء واشترى ذلك الحقل" (متّى 44:13)، و"جوهرة ثمينة رآها تاجر فباع كلّ ما له واشتراها" (متّى 46:13). يسوع بالنّسبة إلى كلّ إنسان، هو هذا "الكنز"، وهذه "الجوهرة الثّمينة". في سبيل اقتنائهما نضحّي بكلّ شيء.

5. يسوع المسيح يصوّب تفكير كلّ شخص بشريّ ومنطقه ومسلكه ونظرته إلى الحياة، لأنّه "النّور الّذي ينير كلّ إنسان آتٍ إلى العالم" (يو 1: 4- 9). من لا يتبعه يهيم في الظّلام، ظلام الأنانيّة والكبرياء، ظلام السّيطرة والنّفوذ، ظلام الاستبداد، ظلام المصلحة الخاصّة والحسابات الشّخصيّة.

إنّ أوّل ما يحتاج إليه كلّ مسؤول ولاسيّما السّياسيّون هو هذا النّور الإلهيّ، لكي يخرجوا من تعثّراتهم، وتحجّر مواقفهم الّذي يجعلهم أسراها. ينبغي أن يعرفوا أنّ لبنان، كما يصفه القدّيس البابا يوحنّا بولس الثّاني "قيمة حضاريّة ثمينة"، و"يشكّل إرثًا للبشريّة، كونه مهد ثقافة عريقة وإحدى منارات البحر الأبيض المتوسّط" كما يستهلّ الإرشاد الرّسوليّ: رجاء جديد للبنان. فعلى أرضه تلاقي الأديان وحوار الحضارات، وعيش المسيحيّين والمسلمين معًا بالمساواة، وهو مصدر استقرار لبناء مجتمع أخوّة وسلام (راجع: شرعة العمل السّياسيّ بكركي 5 آذار 2009، ص 27).

لبنان هذه الجوهرة الثّمينة بات في حالة تقويض لم نكن ننتظرها في مناسبة الاحتفال بمئويّته الأولى: تأليف الحكومة معطّل، القضاء فريسة التّدخّل السّياسيّ والمذهبيّ، الاقتصاد مشلول في كلّ قطاعاته، نصف مدينة بيروت مهدّم، سكّانه منكوبون، أهالي الضّحايا مهمَلون، نصف الشّعب اللّبنانيّ في حالة فقر. إنّ الباب المؤدّي إلى طريق الحلّ لكلّ هذه الأمور هو تشكيل حكومة إنقاذ مؤلّفة من نخب لبنانيّةِ، شخصيّات نَجحَت وتفوّقت في لبنان والعالم، وتَتوقُ إلى خدمةِ الوطن بكلّ تجرّد، وتحملِ مسؤوليّة الإنقاذ وترشيدِ الحوكمة. فالمطلوب من رئيس الجمهوريّة والرّئيس المكلّف أن يقدّما للشّعبِ أفضلَ هذه الشّخصيّات، لا من يَتمتّع فقط بالولاءِ للحزبِ أو بالخضوعِ للزّعيم. لبنان يزخر بشخصيّات تعطي اللّبنانيّين والعالم صورة وطنهم الحقيقيّة.  

6. من هذا المنطلق، سعيت شخصيًّا بحكم المسؤوليّة إلى تحريك تأليف الحكومة من أجل مصلحة لبنان وكلّ اللّبنانيّين. فلقي كثيرون في هذه المساعي بارقة أمل. وكون الدّستور يُحدّد بوضوح دور كلٍّ من رئيس الجمهوريّة والرّئيس المكلّف، تمنّيت عليهما أن يعقدا لقاء مصالحة شخصيّة تعيد الثّقة بينهما، فيُباشرا إلى غربلة الأسماء المطروحة واستكشاف أسماء جديدة وجديرة، واضعين نصب أعينهما فقط المصلحة العامّة وخلاص لبنان، ومتجاوزين المصالح الآنيّة والمستقبليّة، الشّخصيّة والفئويّة.

وفي هذه الحالة نتمنّى على فخامة رئيس الجمهوريّة أخذ المبادرة بدعوة دولة الرّئيس المكلّف إلى عقد هذا اللّقاء. فالوقت لا يرحم، وحالة البلاد والشّعب المأساويّة لا تبرّر على الإطلاق أيّ تأخير في تشكيل الحكومة.

7. الدّستور والميثاق الوطنيّ المجدَّد في اتّفاق الطّائف، ثلاثة توجب على السّلطة السّياسيّة التّقيّد بنصوصها وبروحها، واستكمال تطبيقها، وتصويب ما اعوجّ منها في الممارسة، وتعزيز استقلاليّة القضاء كسلطة رابعة مستقلّة، وحماية مؤسّسة الجيش في كرامتها وهيبتها وكامل حقوقها. إنّ كرامة اللّبنانيّين من كرامة الجيش، والثّقة بالقضاء هي الثّقة بلبنان. إذا كانت لنا دولة تضع القانون فوق الجميع، وتحافظ على فصل الدّين عن الدّولة، ولا يستغلّ فيها السّياسيّون الطّائفة والمذهب لإغراضهم السّياسيّة، وإذا كانت لنا حكومةٌ ولاءُ وزرائها للبنان فقط دون سواه، عندها نستطيع القول: إنّ فجرًا جديدًا أطلّ على لبنان، ولا حاجة لدعوة إلى تغيير النّظام، بل للتّقيّد به.

8. بإيمان ورجاء نكل إلى عناية الله وطننا وشعبنا، راجين العودة إلى العيش في حياة مخلصة مع المسيح الرّبّ، والاستنارة بكلامه الحيّ، هاتفين مع صاحب المزامير: "كلمتك مصباح لخطايَ ونورٌ لسبيلي" (مز 119).

للثّالوث القدّوس، الآب والابن والرّوح القدس، كلّ مجد وتسبيح، الآن وإلى الأبد. آمين".