الرّاعي: الكنيسة ترفض أيّ اصطفاف تقسيميّ يفتّت الشّراكة ويحوّل لبنان إلى ساحة صراع
وفي هذا السّياق، قال الرّاعي: "إستجاب الله صلاة زكريّا الّتي رافقتها حياةٌ بارّة عاشها مع زوجته إليصابات "سالكين في جميع وصايا الرّبّ ورسومه بلا لوم" (الآية 6). تقدّما في السّنّ ولم يكن لهما ولد، وكانا يتألّمان من حرمانهما ثمرة البنين. هذا الحرمان كان يُعتبر عارًا في مجتمعهم.
لكنّ الله في سرّ تدبيره لا ينسى أحدًا، بل يدبّر كلّ شيء وفق تصميمه الإلهيّ الخلاصيّ للبشر. فقبل البشارة بالمسيح المنتظر بستّة أشهر كانت البشرى لزكريّا بإبن ٍ يعدّ الطّريق للرّبّ الآتي، فيكون آخر نبيّ من أنبياء العهد القديم وأوّل رسول في العهد الجديد. ففي أثناء خدمته الكهنوتيّة، تراءى له الملاك، وقال: "لا تخف يا زكريّا، فقد استُجيبت صلاتك. وزوجتك إليصابات ستلد لك إبنًا. فسمّه يوحنّا".
أحيّي مع إخواني السّادة المطارنة والأسرة البطريركيّة كلّ الّذين يشاركون في اللّيتورجيا الإلهيّة في كنائسهم الرّعائيّة، وكلّ الّذين لم يتمكّنوا من الوصول إليها بسبب الحجر العامّ ومواجهة جائحة كورونا، ومنع التّجوّل بالسّيّارات. كما نحيّي الّذين يشاركوننا عبر وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وبخاصّة تيلي لوميار- نورسات والفيسبوك.
نصلّي معًا إلى الله كي يشفي جميع المصابين بوباء الكورونا، ويحدّ من انتشاره، بل كي يبيده، ويعيد إلى الكرة الأرضيّة حياتها الطّبيعيّة، ويحدّ بالتّالي من ازدياد أعداد الفقراء والعاطلين عن العمل. ونصلّي أيضًا من أجل خلاص لبنان بمسّ ضمائر المسؤولين السّياسيّين والنّافذين وقلوبهم، لكي يسهّلوا بتجرّد وإخلاص للوطن تشكيل حكومة قادرة على إنهاضه من حالة البؤس الماليّ والاقتصاديّ والمعيشيّ والاجتماعيّ.
نحن نعلم وبيقين أنّ يد الله القديرة الخفيّة هي الّتي تحمي لبنان من السّقوط نهائيًّا في أيدي الّذين يتربّصون به شرًّا من الدّاخل ومن الخارج، لمصالح شخصيّة وفئويّة ودوليّة، وذلك بفضل صلاة المؤمنين وآلامهم وجوعهم وحرمانهم ودموعهم، وبفضل تشفّع أمّنا مريم العذراء، سيّدة لبنان، وقدّيسينا أبناء هذا الوطن، الّذين لن يتركوه فريسة الجشعين والذّئاب. ولئن بدا الله صامتًا أو غائبًا، فإنّه يتدخّل على طريقته في الوقت المناسب وبحسب تدبيره. فالمطلوب أن نثابر كلّنا على الصّلاة حتّى تتجلّى إرادة الله، وعلى السّلوك أمام الرّبّ بدون لوم محافظين على رسومه ووصاياه مثل زكريّا وإليصابات.
إختار الله إسم "يوحنّا" أيّ "الله رحوم" لمولود زكريّا وإليصابات، لكي يعلن أنّ رحمته تدوم من جيل إلى جيل، ولن تترك المؤمنين في عذابهم أيًّا يكن نوعه. تجلّت رحمة الله في أعمال يوحنّا، وأخذت جسدًا بشريًّا بشخص يسوع المسيح إبن الله الّذي صار بشرًا. فسكنت رحمة الله اللّامتناهية بيننا، ترافقنا على دروبنا في الحياة. هذه الرّحمة الإلهيّة هي مبعث الرّجاء الّذي لا يُـخيّب، لأنّه رجاء ينبع من الإيمان، كما يتبيّن من البشارة لزكريّا، فيقتضي منّا أن "نرجو على غير رجاء" (راجع روما 4: 18)، عندما كلّ شيء ينذر بالانهيار. الإيمان الحقيقيّ هو الّذي يرجو، ويصمد منفتحًا على تجلّيات عظائم الله. ذلك إنّ قيمة الإيمان الحقيقيّ تظهر عندما تكتنفه الظّلمات الّتي تسبّب عادةً اليأس والشّكّ والتّراجع.
أثناء العمل اللّيتورجيّ الّذي كان يقوم به زكريّا الكاهن في بيت المقدّس، والشّعب يصلّي خارجه، كلّم الله زكريّا بلسان الملاك. اللّيتورجيا هي مكان اللّقاء بين الله والإنسان. لذا يوم الأحد هو "يوم الرّبّ" الّذي يتكلّم ويغدق نعمه الخلاصيّة، و"يوم الإنسان" الّذي يتجدّد في الإيمان ويلتزم بـما يوحيه له الله. اللّيتورجيا هي "المدرسة الكبرى للرّوحانيّة المسيحيّة" (البابا بندكتس السّادس عشر).
كم نتمنّى لو يشارك المسؤولون السّياسيّون عندنا في الحياة اللّيتورجيّة، ويَدَعوا الله يكلّم قلوبهم وضمائرهم وعقولهم. فلو فعلوا لـما أوصلوا البلاد إلى حالة البؤس والانهيار على مستوى الشّعب والمؤسّسات!
أمام الاستهتار بصرخة الشّعب الجائع وثورته، وأمام جراح بيروت المنكوبة من جرّاء انفجار مرفئها في 4 آب الماضي، من دون أن تحرّك الدّولة ساكنًا، وأمام إلحاح الدّول الصّديقة على تشكيل حكومة جديدة والشّروع بالإصلاحات، مع الدّعم الدّوليّ الجاهز، ترانا مضطرّين إلى طرح أسئلة مصيريّة:
هل هذا التّمادي في تعطيل تشكيل الحكومة والاستهتار بمصالح الشّعب والوطن جزء من مشروع إسقاط دولة "لبنان الكبير" لوضع اليد على مخلّفاتها؟ لا نستطيع أن نرى هدفًا آخر لهذا التّعطيل المتمادي المرفق بإسقاط ممنهج للقدرة الماليّة والمصرفيّة، وبإفقار الشّعب حتّى جعله متسوّلًا، وبإرغام قواه الحيّة وخيرة شبابه المثقّف على الهجرة.
ألا تريدون بعد اليوم، أيّها المعطّلون المتمادون من مختلف الأطراف، دولة مدنيّة تفصل بين الدّين والدّولة، ودولة متعدّدة الثّقافات والدّيانات، كما أرادها المؤسّس البطريرك الكبير المكرّم الياس الحويّك حين أعلن في مؤتمر السّلام في Versailles سنة 1919: "في لبنان طائفة واحدة إسمها لبنان، والطّوائف المتعدّدة فيه تشكّل نسيجه الاجتماعيّ؟".
لا تريدون بعد مئة عام من حياة لبنان دولة ديمقراطيّة منفتحة على جميع دول الأرض، عُرفت بثقافتها أنّها مكان العيش معًا مسيحيّين ومسلمين بالتّعاون المتوازن والاحترام المتبادل، ومكان التّلاقي والحوار؟ لا تريدون بالتّالي دولة حياديّة ذات سيادة كاملة تفرض هيبة القانون والعدالة في الدّاخل، وتدافع عن نفسها بقواها الذّاتيّة بوجه أيّ اعتداء خارجيّ، وتلعب دور الوسيط من أجل الاستقرار والسّلام وتعزيز حقوق الإنسان والشّعوب في المنطقة؟
إذا كنتم لا تريدون كلّ ذلك، فإنّكم تستبيحون الدّستور والميثاق وهويّة لبنان ورسالته في الأسرتين العربيّة والدّوليّة. وهذه هي الهوّة بينكم وبين الشّعب اللّبنانيّ الّذي هو سيّد الأرض لا أنتم، وهو مصدر كلّ سلطة، كما ينصّ الدّستور في مقدّمته. إنّه يريد حكومة مستقلّة بكامل وزرائها لا بقسم منهم. هذا هو المخرج الوحيد لحلّ الأزمة العالقة.
الكنيسة تؤمن مع المخلصين للبنان أنّ هذا الوطن هو مشروع عيش مشترك يُبنى كلّ يوم، ومشروع شراكة حضاريّة، لا شراكة عدديّة، ولذلك ترفض أيّ اصطفاف تقسيميّ، يفتّت الشّراكة، ويحوّل لبنان إلى ساحة صراع بين مشروعي الأقلّيّات والأكثريّات في المنطقة.
لقد شاهدنا في هذه الأيّام الأخيرة بتأثّر عميق إخواننا من الشّعب الأرمنيّ في ناغورنو- كراباخ (أرتساخ) يغادرون بالدّموع الأراضي الّتي خسروها، والكنائس والأديار، ومن بينها دير داديفانك الشّهير الّذي يعود بناؤه إلى 800 عام، لكنّه تأسّس في الأعوام الأولى للمسيحيّة على يد القدّيس دادي الّذي يكرّم جثمانه فيه، وهو دير بكنائسه عزيز على قلوبهم. فودّعوه مقبّلين حجارته بالدّموع الغزيرة. نودّ أن نعرب لهم من جديد عن قربنا منهم وتضامننا معهم في مشاعرهم. لكنّنا نقول لهم أن يحافظوا عليه وعلى إرثهم وتراثهم وممتلكاتهم في الأرض الّتي خسروها، باسم شرعة حقوق الإنسان والأخوّة الإنسانيّة ومبادئها الّتي أبرزتها "وثيقة الأخوّة الإنسانيّة" الّتي وقّعها قداسة البابا فرنسيس وشيخ الأزهر الإمام أحمد الطّيّب في أبوظبي بتاريخ 4 شباط 2019. فلا بدّ من أن ينتصر العيش معًا على التّباعد والكراهيّة.
ونرفع صلاتنا إلى الله كي يرحمنا جميعًا ويبيد وباء كورونا ويشفي المصابين به، وأن يرسل لبلادنا مسؤولين يخافونه ويعملون بإخلاص وتضافر قوى على إخراجه من أزمة الحكومة وتداعياتها الاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة. له المجد والتّسبيح الآن وإلى الأبد. آمين."