لبنان
13 كانون الثاني 2020, 06:00

الرّاعي: الأزمات في لبنان هي نتيجة الخطايا الثَّلاث "شهوة العين والجسد وكبرياء الحياة"

تيلي لوميار/ نورسات
ترأّس البطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، الأحد، القدّاس الإلهيّ في بكركي، في الأحد الأوّل بعد الدّنح، تأمّل خلاله بآية يوحنّا 1/ 29 "هَذَا هُوَ حَمَلُ الله الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيئَةَ العَالَم"، وقال:

"يوحنَّا المعمدان المستنير بأنوار الرُّوح القدس تنبَّأ على يسوع أنّه "حمل الله الّذي يرفع خطيئة العالم"(يو29:1). هذه النُّبوءة- الشَّهادة جعَلَته يرى في يسوع، بعد حدث معموديّته، أنّه حمل الفصح الجديد الّذي يحمل على عاتقه خطيئة العالم ويُزيلها. وهذا ما فعله يسوع إذ "حمَلَ مع صليبه خطيئة العالم" وهو بريءٌ، فافتدى الجنس البشريّ بأسره، وغسل خطيئة العالم بدمه. إليه ننظر وإلى نعمته نلتجئ لكي ننال مغفرة الخطايا وحياةً جديدةً بالرُّوح القدس.

يُسعِدُنا أن نحتفل معًا بهذه اللِّيتورجيَّا الإلهيَّة، في هذا الأحد الأوَّل بعد عيد الغطاس أو الدنح الّذي نتذكَّر فيه معموديَّتنا بالماء والرُّوح، وبولادتنا الثَّانية أبناءً وبناتٍ لله، وبالتَّالي إخوةً بعضنا لبعض. بالمسيح نلنا البُنوَّة لله، والأُخوَّة الشَّاملة لجميع النَّاس. هذه هي ثقافتنا المسيحيَّة التي تنشَّأنا عليها، وننشرها من أجل عالمٍ أفضل.

ويَطِيبُ لي أن أحيّيكم جميعًا، مرحِّبًا على الأخصّ بالحركة الرَّسوليَّة المريميَّة المنتشرة في كلِّ لبنان. لقد عرفناها عن قربٍ أثناء خدمتي ككاهنٍ في رعايا ثمَّ كأسقفٍ في أبرشيَّة جبيل. وتعاونَّا معها في تنشيط الرّسالة على مستوى الرّعيّة والأبرشيَّة. إسمها يدلّ على طبيعتها ورسالتها.

إنَّها "حركة" ذات ديناميَّةٍ وحياة، وتعمل بيقظةٍ وتتحرَّك بدون جمود. وهي"رسوليَّة" لكونها ملتزمة بالرّسالة المسيحيَّة في الكنيسة عامَّةً وفي كنيسة الشَّرق خاصَّةً. وهي"مريميَّة" لأنَّها تعمل تحت حماية سيِّدتنا مريم العذراء وتستشفعها لدى المسيح ابنها، رسول الآب (دليل نور وحياة، البنود 33-35 و 37).

"هذا هو حمل الله الّذي يرفع خطيئة العالم" (يو29:1). يختصر يوحنَّا الرَّسول خطيئة العالم بثلاث (راجع 1يو 16:2) "شهوة العين" الّتي تسعى بنهمٍ وجشَعٍ إلى الامتلاك مالاً وعينًا وسلطةً ونفوذًا؛ و"شهوة الجسد" الّتي تتعبَّد للأميال الجسديَّة من دون أيَّة شريعةٍ أخلاقيَّةٍ تُميّز بين الخير والشَّرّ، وبين الطُّهر والدَّنَس. و"كبرياء الحياة" الّتي هي أمّ جميع الرَّذائل، لأنَّ المتكبّر لا يرى إلّا ذاته، ويتفلَّت من كلّ مبدأٍ وقاعدةٍ، ولا يسمع لصوت الله وتعليم الكنيسة، ويحتقر جميع النَّاس؛ لا يسمع أنين الموجوع، ولا يشعر مع المحتاج، ولا يرى مأساة الفقر.

المشكلة تَكبُر إذا كان المسؤول صاحبَ سلطةٍ في الكنيسة والدَّولة. نحن نعتقد أنَّ الأزمات السّياسيَّة والاقتصاديَّة والماليَّة عندنا وما يتفرَّع عنها هي نتيجة هذه الخطايا الثَّلاث. بشهوة العين كان نهب المال العامّ بشتَّى الطُّرُق، والتَّمسُّك بهذه الوزارة وتلك، وبهذا الشَّخص وذاك، والاحتفاظ المستميت بالسّلطة ورفض تداولها. بشهوة الجسد فُقدت القاعدة الأخلاقيَّة بين ما هو صالح وما هو عاطل. فكان التَّفلُّت حتَّى من نداء الضَّمير الّذي هو صوت الله في أعماق الإنسان، ومن الكرامة والشّعور بالحياء. بكبرياء الحياة كان التّصرّف بإقصاء الغير والتّفرّد بالسّلطة، واحتقار الآخرين وإمكانيَّاتهم، واحتكار المعرفة والفهم والرّأي.

وإلاَّ كيف نفهم أنَّ حكومة تصريف الأعمال المسؤولة حاليًّا، لا تُمارس مسؤوليَّاتها وتترك سفينة الوطن عرضةً للأمواج العاتية والرّياح العاصفة ومن دون ربَّان؟ وكيف نفهم أنَّ الذين أتوا بالرَّئيس المكلَّف لا يُسهِّلون مساعيه الحثيثة إلى تشكيل حكومة من أجل نجاة سفينة الوطن؟

هل تُدرك حكومة تصريف الأعمال، الّتي تُهمِل واجبها، وهل يُدرك معرقِلو تشكيل الحكومة الجديدة وولادتها، وهل تُدرِك القوى السّياسيَّة والأحزاب والكتل النِّيابيَّة المتباعدة والمعطِّلة لأيِّ حوارٍ مسؤول، حجمَ الخسارة الماليَّة والاقتصاديّة والتّجاريّة والمعنويَّة الّتي يتكبَّدها لبنان شعبًا وكيانًا ومؤسَّسات؟ أهكذا تُمارَس السِّياسة كفنٍّ شريفٍ لخدمة الخير العامّ عندنا؟ هل تعطيل شؤون الدَّولة والشَّعب أضحى وسيلةً للكيديَّة السِّياسيَّة؟ منذ ثلاثة أشهر وانتفاضة الشَّباب اللُّبنانيّ تُخاطب ضمائر المسؤولين. فنأمل أن يُصغوا إليهم قبل أن تتحوَّل انتفاضتهم إلى ثورةٍ هدَّامة! فلا بدَّ من مصارحةٍ ومصالحةٍ عامَّةٍ لاستعادة الوحدة الوطنيَّة بكلّ مكوّنات المجتمع اللُّبنانيّ، بحيث لا يشعر أحدٌ أنَّه مقصًى.

بفضل أنوار الرُّوح القدس، الّتي ظلَّلَت يوحنَّا المعمدان استطاع أن يرى في يسوع ثلاثًا: أنَّه حمل الله الّذي يرفع خطيئة العالم، وأنَّه يعمّد بالرُّوح القدس وبالتَّالي يفوق يوحنَّا ومعموديَّته، وأنَّه إبن الله. نحن المسيحيّين الّذين اعتمدنا بالرُّوح القدس والماء، وولدنا ثانيةً، قد أشركَنا الرَّبُّ يسوع في بنوَّته الإلهيَّة، وفي رسالته الخلاصيَّة. فلنجدِّد اليوم مفاعيل معموديَّتنا، ونلتزم رسالتنا في الكنيسة والمجتمع والوطن.

إنَّنا نلتمس عطيَّة الرُّوح القدس لنا ولكلّ إنسانٍ ولكلّ مسؤولٍ في الكنيسة والعائلة والدَّولة. فهو المعلّم الرُّوحيّ الهادي إلى الحقيقة ومالئ القلوب بالمحبَّة، والمحرِّر من كلّ عبوديَّةٍ، والمانح حريَّة أبناء الله. بهذا الرُّوح نرفع نشيد المجد والتَّسبيح للثَّالوث القدُّوس، الآب والابن والرُّوح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين".